تعتبر
حملات الأنفال التي نفذها نظام صدام حسين بحق المدنيين الكرد
خلال الفترة (من 23 شباط 1988 و حتى السادس من أيلول من نفس
العام ) واحدة من أكثر صفحات القمع الحكومي قسوة و عنفا في
تأريخ النظام البعثي في العراق . فأثناء هذه الحملات و نتيجة
لها قتل عشرات الآلاف من السكان المدنيين بعد أن نهبت
ممتلكاتهم و دمرت آلاف القرى الكردية . شاركت في تنفيذ هذه
المسالخ البشرية فيالق الجيش النظامي ( الفيلقان الأول و
الخامس ) و القوات الخاصة و الحرس الجمهوري و القوة الجوية
العراقية و صنوف الحرب الكيماوية و البيولوجية و كذلك
المليشيات الحزبية ( الجيش الشعبي ) و قوات المرتزقة من
الكرد ( أفواج الدفاع الوطني و المفارز الخاصة ) و دوائر
الأمن و المخابرات و االأستخبارات العسكرية . كما سخرالنظام
جميع مؤسسات الدولة المدنية للمساعدة في تنفيذ تلك الحملات
بدءا بدوائر الأحصاء ( التي حددت الجماعة المستهدفة من خلال
إحصاء عام 1987 ) و إنتهاء بدوائر الأحوال المدنية و الطابو
و المرور و الزراعة و المواصلات و غيرها .
لم تعد
التفاصيل المتعلقة بالأنفال ومراحلها الثمانية و المناطق
الجغرافية التي شملتها و خطط و أسلوب تنفيذها مخفية على
الكثيرين من المهتمين و المتابعين . ويعود الفضل في ذلك الى
التحقيقات الواسعة التي قامت بها منظمة ( رصد حقوق الأنسان )
بعد إنتفاضة آذار عام 1991 في كوردستان العراق، حيث دققت في
جرائم الأنفال و آثارها في كوردستان و إستمعت الى شهادات
الناجين من جحيمها و عدد كبير من أقارب الضحايا و ذويهم .
كما أنها درست و على مدى ثمانية عشر شهرا أطنانا من الوثائق
الرسمية الحكومية المتعلقة بالأنفال التي وقعت بأيدي
المنتفضين . أصدرت المنظمة بعد تحقيقاتها تلك دراسة موثقة
باللغة الأنجليزية تحت عنوان (Genocide
In Iraq - The Anfal Campaign Against The Kurds , Middle
East Watch , A division of Human Rights Watch, New York
1993 و ترجم الكتاب الى العربية و الكردية أيضا ) . وجاء
إختيار المنظمة للعنوان ( الأبادة الجماعية في العراق - حملة
الأنفال ضد الكرد ) لتشير بذلك الى طبيعة حملات الأنفال و
تعتبرها عملا من أعمال الجينوسايد . وتظهر دراسة الوثائق
الرسمية الحكومية تلك الآليات البيروقراطية التي إعتمدتها
دوائر الدولة المختلفة و التنسيق الدقيق فيما بينها لتحديد
دور كل منها في حملات الأنفال . كما تشير و بوضوح الى
الوسائل التي إعتمدتها الحكومة العراقية للتخطيط ل و تنفيذ
تلك الحملات و الأساليب التي لجأت إليها الأجهزة الأمنية و
المخابراتية و الأجهزة الخاصة للحفاظ على سريتها و إخفاء كل
ما يتعلق بها عن أنظار الرأي العام العراقي و العالمي .
وتؤكد هذه الدراسة كما الدراسات المكملة الأخرى التي أجريت
خلال العقد الماضي ، أن حملات الأنفال لم تختلف عن غيرها من
عمليات الأبادة الجماعية التي جرت في التاريخ و بخاصة في
القرن العشرين ، من حيث التخطيط لها و مراحل تنفيذها: تحديد
الجماعة / الهدف و طريقة جمعهم و من ثم التخلص منهم و محو
آثارهم . من هنا فإن الحديث عن الأنفال هو حديث عن عملية
إبادة جماعية بكل المعايير .
تتطابق
فقرات المادة الثانية من مواد ( معاهدة منع عمليات الأبادة
الجماعية و معاقبة مرتكبيها ) و التي أقرتها الجمعية العامة
للأمم المتحدة في 9 كانون الأول عام 1948 بطريقة كبيرة مع ما
قامت بها حكومة البعث أثناء حملات الأنفال وكأنها كانت تسعى
تماما لتنفيذ جميع الجرائم الواردة في تلك المادة . فقد
أشارت المادة الثانية في المعاهدة المشار اليها الى أن (
الأبادة الجماعية تشمل جميع الأجراءات التالية التي تنفذ
بهدف الأبادة الكاملة أو الجزئية لجماعة قومية ، أثنية ،
عرقية أو دينية ، : 1.قتل أفراد الجماعة . 2 . إلحاق الأضرار
الجسدية أو النفسية الخطيرة بأعضاء تلك الجماعة . 3 . وضع
أفراد الجماعة و عن قصد في ظل ظروف تؤدي الى موت كل أفرادها
أو جزء منها . 4. منع التكاثر بين أفراد الجماعة 5 . تفريق
الأطفال عن ذويهم و نقلهم الى العيش في وسط مجموعة بشرية
أخرى) . لقد قامت حكومة البعث و مؤسساتها الرسمية و أجهزتها
العسكرية و الأمنية بجميع الجرائم التي وردت في المادة
المذكورة أعلاه ضد الكرد خلال حملات الأنفال . ومن هنا جاءت
توصيفات جمعيات حقوق الأنسان و منظمات مناهضة الجينوسايد
لحملات الأنفال التي قامت بها الحكومة العراقية عام 1988
كعمل من أعمال الأبادة الجمياعية . كما أن منهج تنفيذ
الأنفال جاء مطابقا مع المخطط الذي أعتمد في عمليات
الجينوسايد الأخرى في القرن العشرين و التي وضع تفصيلاتها
راول هيلبيرك في كتابه (
Raul Hilberg , The Destruction of The European Jews , New
York.1985
) . لقد ألقت دراسة منظمة ( رصد حقوق الأنسان ) الأضواء على
هذه الجوانب من حملات الأنفال، لذلك لا أرى ضرورة في التفصيل
فيها و أحيل كل من يريد الأطلاع على المزيد من التفاصيل
بشأنها الى تلك الدراسة .
في ظل
أجواء العنف السائدة في العراق الآن و وجود أفكار و تيارات
شمولية يمكن أن تعيد إنتاج عمليات الأبادة الجماعية تحت
مسميات و شعارات مختلفة عن تلك التي إختفى ورائها البعث ،
وجب علينا إيلاء إهتمام أكبر بالأفكار و الأيديولوجيات التي
أفرزت الأنفال و حملات الأبادة الجماعية الأخرى التي قام بها
البعث . وستبقى بعض الأسئلة تفرض نفسها على الدوام : كيف جرى
تنفيذ مثل تلك الجريمة الكبرى في أواخر القرن العشرين ؟. ترى
ما هي الأفكار التي دفعت بفئة من المتسلطين للتنكيل بإخوان
لهم في الوطن و الأنسانية بكل هذه الهمجية ؟ . ماهي الآليات
التي جرى تجريبها لأيصال المجتمع العراقي الى تلك الحالة من
الخوف و الفزع و العجز الذي لم يعد بالأمكان معه أن يبدي أي
إعتراض أو رد فعل إزاء تلك الجريمة التي إقترفها البعث بحق
المدنيين الكرد ؟. و أخيرا و ليس آخرا ، هل هناك إمكانية
لتكرار الأنفالات وإن بصيغ أخرى و في مناطق أخرى من العراق ؟
.
سيحتاج
المجتمع العراقي سنينا طويلة لكي يتعافى و يوفر الفرص
الضرورية لإجراء الدراسات و التدقيقات الموضوعية لتكوين صورة
واضحة عن ما قام به البعث خلال ثلاثة عقود ونصف من حكمه
الدموي بحق العراقيين . يبدو أن مثل هذا الأمرا لا يمكن أن
يجري في ظل الظروف الحالية . ففي ظل الصراع من أجل البقاء لا
يستطيع الأنسان أن يهتم كثيرا بما جرى بل يركز على الحدث
اليومي الساخن . ولكن من الجائز بعد مرور فترة من الزمن و
تهدئة المشاعر و إستقرار الأوضاع النفسية و السياسية و
الأجتماعية و الأقتصادية سيكون العراقي بحاجة الى معرفة
حقيقة الذي جرى و كيف و لماذا جرى ؟. حتى الكرد ورغم مرور
أكثر من عقد من الزمن على تحرر جزء مهم منهم من تسلط النظام
لم يتمكنوا من إجراء تدقيقات موسعة لما جرى وذلك بسبب سيف
صدام المسلط على رقابهم و صراعاتهم الداخلية و إمكانيات
تكرار ما جرى على يد نظام المقابر الجماعية في بغداد حتى
زواله النهائي في التاسع من نيسان 2003 .
تمتد
أسباب الأنفال و غيرها من عمليات الأبادة الجماعية التي جرت
في العراق الى طبيعة الدولة العراقية و عناصر تشكيلها و أزمة
الهوية التي عانت منها و لا زالت و فشلها الذريع في خلق أمة
و هوية و حلم و ثقافة …..الخ عراقية موحدة . لم ينل هذا
الموضوع نصيبه من الدراسة الموضوعية . ويبدو لي أن مثل هذه
الدراسة لن تتسم بأية موضوعية أو مصداقية إذا لم تأخذ بنظر
الأعتبار و قبل كل شئ الفروقات و الهويات المختلفة
للعراقيين والأعتراف بها و صولا الى وضع الأسس السليمة لخلق
المشتركات إذا أريد للعراقيين أن يتعايشوا مع بعض و يبقوا
موحدين .
البعث
كنظام شمولي لأقلية تؤمن بالقوة و العنف من أجل الهيمنة
المطلقة على السلطة و الثروة و كفئة متآمرة و بعيدة عن رغبات
الأكثرية الساحقة من سكان العراق، كان لابد أن يلجأ الى أشد
وسائل التنكيل و الفتك لفرض منظومة الخوف و الرعب على
المجتمع العراقي للأستمرار في الحكم و التصرف اللاعقلاني
بالثروة . لقد كان جو الرعب و الأرهاب و بث الشك و الريبة و
عدم الثقة بين الناس الى حد الهوس وراء خلق مجتمع مريض
ومنغلق على نفسه ، وهي بيئة مثالية لتنفيذ أية عملية إبادة
جماعية دون أن يستطيع المجتمع من إبداء أية مقاومة أو ردود
فعل مؤثرة .
لم تكن
الدولة قبل مجئ البعث الى السلطة تتدخل كثيرا في شؤون الناس
، و لكن مع حكم البعث توسعت مهامها بطريقة مفزعة . فبعد
سيطرتها الكاملة على المجتمع و إبتلاعها لجميع زوايا المجتمع
المدني ، أخذت تتدخل في أدق خصوصيات الناس و غطت من خلال
شبكة دوائرها الأمنية و الحزبية حتى الزوايا البعيدة و
المنسية من الصحاري و الجبال و لم يعد بالأمكان البقاء خارج
دائرة مراقبة و تدخل الدولة . كما وفرت الأمكانيات المالية و
العسكرية الهائلة و تنظيمات البعث و الأمن و المخابرات و
المرتزقة و ( المنظمات المهنية و الجماهيرية !!) فضلا عن
التقنية الحديثة كل العوامل التي سهلت مهمة البعث في إخضاع
المجتمع لسيطرته الكاملة . مع كل ذلك و مع هذه الهيمنة
المطلقة على المجتمع العراقي كان البعث لا يزال يشعر بضعف
سطوته على الكرد بل و هناك من يتمرد عليه و يحمل السلاح
بوجهه من بين هؤلاء . ولم يكن بإمكان البعث و بخاصة بعد
سنوات الحرب الطويلة مع إيران و بعد إمتلاكه للأسلحة
الكيمياوية أن يتعايش مع هذه الحالة . فكانت الأنفال رسالة
النظام للجميع تخيرهم بين خيارين لا ثالث لهما إما الخضوع
التام للبعث أو الموت الزؤام على يديه .
و شكلت
ثقافة العنف التي سادت الساحة السياسية العراقية منذ
الخمسينات و ساهمت فيها كل الأطراف السياسية و إن بدرجات
متفاوتة عاملا إضافيا لتبرير اللجوء الى العنف و القوة لحسم
الصراعات . لقد تبنى البعث عمليات الأغتيال و المؤامرات و
العنف في العمل السياسي حتى قبل وصوله الى السلطة. ولم يقتصر
إستخدامه للعنف ضد المنافسين السياسيين فقط بل جرى إعتماده
حتى في حسم الصراعات الداخلية في صفوف أعضاء الحزب أنفسهم .
كان من
الصعب جدا تنفيذ عملية إبادة جماعية بحجم الأنفال لو لم تكن
الدولة تعتنق آيديولوجية تبيح ذلك . لقد أكدت شعارات البعث و
أوهامه على كونه الحزب الطليعي للأمة العربية و المعبر
الحقيقي عن طموحاتها و أهدافها القومية و لذلك يتحمل هو دون
غيره مهمة تحقيق وحدتها و إيصال رسالتها الخالدة الى الدنيا
. و كانت الوحدة العربية في خطاب البعث مقرونة أيضا بالحرية
و تحقيق نوع من الأشتراكية العربية . وقد تجسد كل ذلك في
شعارات البعث الرئيسية ( الوحدة و الحرية و الأشتراكية ) و
(أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة ) . كما أن إستغلال البعث
للقضية الفلسطينية في خطابه السياسي و رفعه لشعارات مقارعة
الأمبريالية و مؤمراتها و تحرير الثروة الوطنية والقومية
غيرها من المفردات التي كانت ترددها الماكنة الدعائية
البعثية خلال العقود الماضية ، يفرض توفير المبررات لكل ما
يقوم به الحزب على طريق تنفيذ تلك الشعارات و الأحلام و
الفنظازيات الكبيرة . كما إفترضت هذه الحالة إزالة أية عقبة
على هذا الطريق . آمن البعث بأن تحقيق هذه الأوهام يبرر قيام
نظامه بالقضاء على أية فئة أو مجموعة بشرية ، قومية كانت أو
مذهبية أو حتى سياسية ، يمكن وصمها بأنها تشكل عائقا على
طريق تنفيذ تلك الشعارات و تهدد (الأمن القومي العربي ) الذي
توسع البعث في مفهومه الى مديات غير محدودة . وبعد قمعه
للقوى السياسية العراقية وجد البعث في الحركة الكردية الجهة
التي يجب أن يحملها المسؤولية في تعثر خططه و برامجه و عدم
تحقق نبوءاته وفنطازياته الكبيرة . ولم يختلف خطاب البعث في
هذا المجال عن خطاب الحركات و الأنظمة المماثلة التي نفذت
عمليات الإبادة الجماعية في القرن العشرين . و شكلت إتهامات
حزب البعث للحركة القومية الكردية الأطار الأيديولوجي لطريقة
التعامل معها، فهذه الحركة شكلت وفق توصيفات البعث ( خطرا
على الأمة العربية و أمنها القومي ، و خنجرا مسموما في خاصرة
العراق ، و وسيلة لأشغال الجيش العراقي عن أداء واجباته
القومية على جبهة الصراع العربي الأسرائيلي ، بل ومحاولة
لأقامة إسرائيل ثانية في شمال الوطن الحبيب و جيب عميل مرة و
إدلاء خيانة مرة أخرى …الخ ) و المعروفة لدى الرأي العام
العراقي و العربي و التي لا زالت ترددها بعض الأوساط
السياسية المتبنية للخطاب البعثي و إن بمسميات أخرى . من هذا
المنطلق كان لا بد من التعامل مع الحركة الكردية و كل من
يتعاطف معها دون رحمة . كانت هذه الأتهامات بالنسبة للعديد
من العراقيين و العرب كافية لتبرير إجراءات الحكومة ضد الكرد
أو السكوت عنها و عدم الأكتراث بما كان يجري في كوردستان .
ومع تنامي ظاهرة العنف و القسوة و توسع البعث في تحديد مفهوم
أفراد الحركة ، إذ لم يعد المقاتلون و أعضاء الأحزاب و
التجمعات السياسية الكوردستانية فقط مستهدفين بإجراءات البعث
القمعية، بل شملت كذلك كل من كان يتهم بالتعاون أو التعاطف
أو حتى العيش في المناطق التي كانت تخضع لسيطرة قوات الأنصار
أو تلك التي لا تشعر الحكومة بأنها تتحكم بها كليا . و أصبح
من الجائز في عرف البعث أن يجري التخلص من هؤلاء جميعا.
ويشير العريف ( المارشال!) على كيمياوي الى هذا الموضوع
بوضوح في إجتماع سجلت وقائعه على شريط وقع بأيدي المنتفضين
في آذار عام 1991 ، إذ يقول ما معناه :لم يكن جميع الذين
رحلناهم أو تخلصنا منهم من ( المخربين ) بل كانوا يعيشون في
مناطق كان لهولاء نفوذ فيها. و على أساس القاعدة البعثية في
فرز الأعداء من الأصدقاء ( خندق واحد أم خندقان ، أو الذي
ليس منا فهو ضدنا ) فقد كانت الخيارات محدودة أمام الكرد .
فهم إما مع الحركة القومية الكردية أو مع البعث .أما المنطقة
الرمادية فكانت مليئة بالشك و المخاطر و المنغصات . و
بإستثناء عدد صغير من الأفاقين و الوصوليين و العلوج الكرد
كان الجميع موضع الشك الدائم و المراقبة الشديدة .
ومن هنا
بدأت عملية إخضاع الكرد بالقوة الغاشمة كما بدأ البعث يعبث
بالجغرافيا الكوردستانية. وتركز معظم خططه على تغيير
التركيبة السكانية في كركوك و المناطق الكوردستانية الأخرى
التي تعرضت الى سياسات التعريب و التطهير العرقي . فقد قام
البعث بتهجير و ترحيل السكان الكرد من هذه المناطق و جلب
الآلاف من العرب الوافدين لأسكانهم فيها فضلا عن فصل الوحدات
الأدارية التابعة لها و ربطها بمحافظات أخرى بهدف خلق عوائق
أمام بقاء الكرد كمجموعة بشرية متميزة تعيش في منطقة جغرافية
محددة. و كل هذا بهدف قطع الطريق على الكرد في تقرير مصيرهم
في المستقبل . وقد واجهت مشاريع البعث على هذا الصعيد مقاومة
شرسة من لدن الكرد .
لقد كان
مجئ البعث الى السلطة متزامنا مع حالة الأنكسار التي نجمت عن
هزيمة الأنظمة العربية في حرب حزيران 1967 . وعمل البعث
جاهدا أن يقنع الناس بأنه سيخرج الأمة العربية من حالة
الأنكسار و الهزيمة . وكان شعار البعث المحبب و المبرر لقفزه
الى دست الحكم أنه جاء كرد ثوري على حالة الهزيمة و بأنه
سيعمل على إزالة أثار النكسة. حاولت هذه الأيديولوجيا أن
تتحول الى إطار فكري لتفسير أسباب النكسة و رسم صورة فنطازية
عن الماضي للعبور الى مستقبل زاهي يزيل كابوس الواقع المتردي
الحالي . وشكلت حالة الهزيمة خزينا فكريا للبعث في حملاته
لقمع و إبادة أعدائه . ولم يكن البعث في موقفه هذا و
أستغلاله للأنكسار النفسي و الأوضاع المتردية في البلدان
العربية مثالا إستثنائيا ، بل سبقته في ذلك أحزاب و حركات
سياسية شمولية أخرى ، إستغلت ظروف الهزيمة العسكرية و
الأزمات الأقتصادية لتقفز الى السلطة و توزع الوعود بأنها
جاءت لتصلح الأوضاع و تحرر الناس من حالة الهزيمة و الأنكسار
. وكان البعث بحاجة الى كبش فداء ليحمله أسباب الهزيمة و
الأوضاع البائسة . ومن هذا المنطلق بدأ بسياسة تصفية أعدائه
السياسيين الذين حملهم أسباب الهزيمة . وتوسع في ذلك ليشمل
كل من لم يوافق على شموليته . لقد حاول البعث أن يبيع أوهامه
و فنطازياته الى المجتمع كحقائق واقعية و قانونية على
الأرض. وبدأت عملية تلميع صورة الزعيم و إستخدمت جميع
الأساطير و الأوهام لأيهام الناس بأن صدام هو منقذ الأمة من
الحالة التي تعاني منها .
ومن هذا
المنطلق بدأت أيضا محاولة البعث العبث بالتاريخ لأعطاء
الشرعية لنفسه للسيادة على الآخرين . وقد قام البعث بهذه
العملية من خلال كذبة كبرى سميت ب( إعادة كتابة التاريخ ) .
وكان البعث مقلدا في هذا الأمر أيضا لأن العبث بالتأريخ كانت
سمة مشتركة بين جميع الأنظمة و الحركات الشمولية. البعث
كأيديولوجيا قومية متطرفة كان يبحث على الدوام في التاريخ عن
ما يبرر طروحاته و أوهامه و يصنف الأحداث التاريخية من خلال
إنتقائية مخلة لدعم وجهة نظره . وكان يحاول من خلال طروحاته
أن يميز العرب عن الأمم الأخرى بطريقة عنصرية . وكان الهدف
من ذلك كله إيهام الناس بأن مستقبل الأمة السعيد سيتحقق فقط
في حالة الأيمان بنظرية البعث و السير ورائه و الأنصياع
لرغبات قيادته الملهمة! . وتضمنت الأطروحة البعثية هذه
بطبيعة الحال قمع أية محاولة تعيق هذه الحركة و بقسوة لأن
تحقيق الأهداف الكبرى ، بمنطق البعث و جميع الحركات
التوتاليتارية ، يبرر القيام بأي شئ حتى لو كانت مذابح أو
جرائم كبرى بحق أولئك الذين يشكلون خطرا على آمال و طموحات
الملايين!.
ركزت
آيديولوجيا البعث على التاريخ و أحداثه الى حد الهوس .وكان
تمسك البعث بالماضي التليد للأمة العربية و تصنيفه المخل
للأحداث التاريخية نوعا من الهروب من الواقع الردئ بحجة عدم
القبول به . حالة الواقع لم تكن وفق منظور البعث نتاجا لذلك
التاريخ الذي أعاد البعث كتابته و كان يرغب في فرضه على
المجتمع . فهو كان يريد تغيير مسار التاريخ و وضعه على السكة
التي تتفق مع طروحاته و تحليلاته و رؤيته للحياة و العالم .
لذلك حاول البعث هدم الواقع بجميع بناه من أجل فرض نموذج
سياسي إجتماعي من نمط آخر على المجتمع العراقي أولا وصولا
الى فرضه على جميع المجتمعات العربية .
وهكذا
عندما تستحوذ فئة صغيرة على سلطة مطلقة و تهمين على ثروات
البلاد و لديها القوة التي تمكنها من السيطرة على المجتمع و
تعتنق آيديولوجية شمولية تصبح معها الأبادة الجماعية لفئة من
السكان و سيلة لتحقيق الأهداف . توفرت هذه العناصر جميعها في
ظل البعث . وشكلت الحرب القاسية مع إيران و مهمة ( الحفاظ
على الأمن الوطني بوجه الخطر الخارجي ) و تمرد الكرد على
النظام غطاء مثاليا للقيام بحملات الأنفال . وعندما شعر
البعث كأية حركة شمولية بأن حكمها في خطر أو أن هناك فئات
تقف حجر عثرة على طريق بقائها في السلطة و إستحواذها على
الثروة أو توسيع سلطاتها لم تتوانى من اللجوء الى عمليات
الأبادة الجماعية . وكانت الأنفال إحدى أخطر حلقاتها .
|