Home
Uteheramkrauekan
Komelayaty
Nuseran
Mail
Library
Music
Art
Archive
Links
About Us

 

اللاعقلانية في خطاب الجبهة التركمانية (5)

الجبهة و حكاية مجزرة كركوك

  

                                                                                                د.جبار قادر

تسير البشرية ، رغم حالات العنف و التصادم و الأرهاب التي نشهدها هنا و هناك ، نحو الأنفتاح و التسامح و الحوار . و يدرك الناس شيئا فشيئا بأن دعوات العنف و الكراهية لم ولن تجلب سوى الدمار و الشقاء مهما كانت الشعارات التي تختفي ورائها براقة و شعبوية . وقد أضاعت شعوبنا سنينا طويلة من تأريخها و فرصا مهمة على طريق الرفاه و التقدم الحضاري بسبب تلك الدعوات المدمرة . و حتى بعد زوال نظام البعث البائد تحاول قوى خارجية و داخلية شريرة أن تحرم العراقيين مرة أخرى من فرص التطور الحضاري و الرفاهية الأقتصادية و تعمل على إعادتهم الى دوامة العنف و القسوة . وتشكل هذه القوى كوكتيلا غريبا من التيارات الأسلامية السنية و الشيعية المتطرفة و التيارات القومية الشوفينية و فلول النظام البعثي من الرفاق الحزبيين و جلادي الأمن و المخابرات و المجرمين القادمين من وراء الحدود . وتأتي في مقدمة هذه القوى الشريرة لأطراف التي أعمى الحقد القومي البدائي أو الديني أو المذهبي أو الأيديولوجي بصيرتها من رؤية الأشياء على حقيقتها .

ولكن و حتى في العراق الذي شهد أشد أنواع القمع و القسوة و المجازر على مدى العقود الماضية و التي راح ضحيتها مئات الآلاف من المواطنين الأبرياء ، نجد أن الدعوات التي تهيب بالناس الى محاولة تجاوز جراح الماضي و التطلع الى المستقبل في تزايد مشتمر . لا يعني ذلك بطبيعة الحال عدم مساءلة أولئك الذين تلطخت أياديهم بدماء العراقيين الأبرياء . لقد جاءت أولى الدعوات لتجاوز الماضي من جانب الكرد الذين نالهم القسط الأكبر من مظالم البعث و كانوا على رأس قائمة ضحاياه . لن يعيد الأنتقام من البعثيين ضحايا القصف الكيمياوي في حلبجة و لا ضحايا الأنفال و الأهوار و الأنتفاضة ولا مئات الآلاف من الذين قتلوا خلال العمليات العسكرية ضد الحركة الكردية أو قضوا نحبهم في زنزانات و معسكرات الموت البعثية وغيرها  . وفي المقابل فإن عدم مساءلة المجرمين و العمل وفق ( شعار عفى الله عما سلف ) لا يمكن أن يخلق بداية صحيحة لبناء مجتمع معافى من أدران الفاشية و القسوة و روح الأنتقام . لذلك فإن الحفاظ على حالة التوازن في التعامل مع هذه القضية المعقدة و نتائجها السياسية و الأجتماعية و الأقتصادية و الفكرية    ستكون لها آثارها الكبيرة على مستقبل الأجيال العراقية و تتطلب إنتهاج سياسة حكيمة تأخذ مصالح جميع الأطراف بنظر الأعتبار .

في مقابل هذا التوجه العراقي العام لآزالت بعض القوى السوداء و الظلامية تعيش في دهاليز الفكر الشمولي و الأحقاد و الضغائن و تعمل كل ما في وسعها من أجل تسميم العلاقات بين القوميات و الأديان و المذاهب المختلفة في العراق . تنتمي الجبهة التركمانية و بجدارة الى هذه الفصيلة و لا زالت تقتات على ذخيرة  تسميها بمجزرة كركوك لعام 1959 . و تحاول الجبهة بمناسبة و دون مناسبة أن تجعل من نفسها المسؤولة و المعنية بمحاكمة أحداث التاريخ القريب و البعيد . و لاتشير الجبهة الى هذه الأحداث من منطلق التذكير بالدروس التي يجب أن تسنبط من تلك الأحداث المؤسفة و ضرورة تجاوزها و قطع الطريق على كل من يحاول أن يعيد الناس الى تلك الأجواء المسمومة و العمل على إقامة علاقات جديدة قائمة على الحوار و التعايش المشترك مع الآخرين . تتحرك الجبهة بالضد من هذا التوجه العقلاني ويأتي تذكيرها لأحداث تموز 1959 بهدف شحن الجماهير التركمانية و بخاصة الشباب منهم بمفاهيم القومية البدائية و زرع روح   البغض القومي و الكراهية بين أبناء المدينة و المحلة الواحدة دون أي شعور بالمسؤولية السياسية و الأنسانية . ويركز خطاب الجبهة في هذا المجال على معاداة الكرد بطريقة غريبة لا يمكن تبريرها وقلما تجد تصريحا أو منشورا أو مقالا لكاتب قريب على فكر الجبهة إلا و تجد فيها ما يسئ للكرد .  

لا شك أن أحداث العنف و القسوة التي شهدتها كركوك في تموز عام 1959 مثيرة للأحزان و تفرض على الجميع إدانة كافة الأطراف التي ساهمت فيها دون تفريق و محاباة و بشدة  . من المؤسف حقا أن هذه الأحداث ورغم مرور أربعة عقود و نصف عليها لم تتحول الى موضوع تأريخي بحت يمكن دراسته و إلقاء الأضواء عليه في أجواء هادئة بعيدا عن المهاترات و التوظيف السياسي . هناك أطراف سياسية في عراق اليوم لا تتردد في اللجوء الى أية وسيلة لتوظيفها ضد منافسيها حتى لو تعلق الأمر بمآسي الناس . وتتميز الجبهة التركمانية في لجوئها الى الأساليب المكيافيلية لتحقيق أغراضها السياسية، فمحاولات الجبهة لأستغلال الذكريات الأليمة لتلك الأحداث وحملاتها لتشويه مواقف الأطراف السياسية الأخرى أدت الى نشر مجموعة من المفاهيم و الطروحات الخاطئة و التي لا تمت بصلة الى الحقيقة و لا تستطيع الصمود أمام أية دراسة نقدية تأريخية لتلك الأحداث . ويردد العديد من الكتبة و حملة الأقلام الشوفينية مزاعم الجبهة دون أي تدقيق أو تمحيص . لذلك و في ظل هذه الأجواء الموبوءة لا يمكن أن نتوقع دراسات تأريخية رصينة بعيدة عن الأهواء الشخصية و المواقف المسبقة عن تلك الأحداث . ولن تغير من الأمر إشارة هذا الباحث أو ذاك الى الموضوع عرضيا و بناء على وثائق دوائر الأمن العراقية لوحدها دون الأستماع الى جميع الأطراف ذات العلاقة بتلك الأحداث .  

من الضروري أن أشير هنا بأن محاولة إلقاء الأضواء على بعض جوانب هذه الأحداث المثيرة للشجون و العواطف المتناقضة و إظهار الحقائق التاريخية المتعلقة بها يجب أن لا تكون بدافع نكأ الجراح و إثارة المشاعر . بل يجب أن يكون بدافع عرض الحدث التأريخي كما حدث فعلا و لكي لا يبقى بعيدا عن الدراسة و التمحيص العلميين و على أساس المصادر و الوثائق و الشواهد التاريخية،  الأمر الذي يستغله الجهلة و المغرضين من خلال نشر الأقاويل و الإفتراءات و التأويلات ضد هذا الطرف أو ذاك . ويترك هذا الأمر الأبواب مشرعة لذوي النيات السيئة للإيقاع بين الكرد و التركمان و غيرهم من سكان كركوك. وأعتقد بأن مرور أربعة عقود من الزمن على تلك الأيام الكئيبة يجب أن يكون كافيا لتهدئة النفوس وتوفير الأجواء المناسبة لدراسة تلك الأحداث بتروي و بعيدا عن المهاترات و تبادل الإتهامات بهدف الوصول الى معرفة الحقائق التاريخية المتعلقة بها و أخذ العبر والدروس منها و الإبتعاد عن كل ما من شأنه خلق حالة التوجس و الحزازات بين الناس الذين تجمعهم الحياة و الجغرافيا المشتركة . وبعملية حسابية بسيطة نستطيع أن نحدد أن معظم الذين شاركوا بصورة مباشرة في تلك الأحداث إما لم يعودوا على قيد الحياة أو أنهم يعيشون آخر أيامهم . كما أن المجازر الكبرى التي حدثت في العراق منذ مجئ البعث الى السلطة تجعل من أحداث كركوك لا شئ أمامها (رغم التعاطف الأنساني مع ضحاياها ). ماذا يشكل مقتل 32 شخصا رغم إدانتنا لقتل أي إنسان ،إزاء المجازر الكبرى كقصف حلبجة بالأسلحة الكيمياوية ( خمسة ألاف شهيد و أكثر من عشرة آلاف جريح ) و حملات الأنفال البربرية ( 182 ألفا ) و إبادة البارزانيين ( 8 ) آلاف و الكرد الفيليين ( أكثر من عشرة آلاف ) و ضحايا الأنتفاضة في جنوب العراق ( حوالي 300 ) ألف شخص ؟ . ممن نثأر لمئات الألوف هؤلاء و أضعافا مضاعفة قضوا نحبهم في حروب الطاغية العبثية في كوردستان و ( قادسية صدام و أم المعارك و الحواسم!!) ؟. ألا يعتبر الحديث بعد كل هذه الكوارث و المآسي عن (مجزرة ) كركوك و بهذه الطريقة الفجة نوعا من السلوك العبثي ؟.        

 و تظهر إلقاء الأضواء على أحداث كركوك بطلان الجزء الأكبر من مزاعم الجبهة في هذا الباب . فقبل كل شئ عرفت كركوك بحالة التسامح التي كانت تسودها و تتعايش في ظلها أبناء القوميات و الأديان و المذاهب المختلفة . وقد كتب عن هذه الحالة أكثر الرحالة و الكتاب الذين مروا بها . ويمكن الأشارة في هذا الباب الى ميجرسون و أدموندز على سبيل المثال لا الحصر . ما هي الجهة التي عملت و لا زالت تعمل على تسميم العلاقات بين الفئات المختلفة من سكان المدينة و تثير الحقد و البغض و الكراهية بين القوميات المختلفة ؟ . ماذا جرى لكي يتحول الناس الذين كانوا يتعايشون بسلام الى فئات تحمل الحقد على بعضها ؟ .

قيل الكثير ولم يكتب إلا القليل المفيد عن الأحداث الدامية التي شهدتها مدينة كركوك في 14تموز عام 1959  ، والتي كثيرا ما أستغلت لأغراض لا تمت بصلة الى الدفاع عن ضحايا أعمال العنف . و تفاعلت مجموعة من العوامل و الدوافع المتشابكة والمعقدة لإيصال الأمور الى تلك النهاية المحزنة التي لازالت آثارها النفسية و السياسية عالقة في أذهان الكثيرين .

لعل التفسير المنطقي لأحداث كركوك و الموصل و غيرها يكمن في إنتشار و سيادة الأفكار المتطرفة بكل تياراتها في العراق أثناء و بعد ثورة تموز عام 1958 . و كانت تلك الأفكار وراء حالة الهستيريا و دعوات العنف التي كانت تؤجج المشاعر و التي هيأت الأرضية التي ساهمت في إندلاع عمليات العنف السياسي . عندما نتذكر تلك الأيام و حالة الهستيريا التي كانت تسود الساحة السياسية يتملكنا العجب . تصوروا أن عددا كبيرا من الناس من بين الذين كانوا يحملون أفكارا مشابهة لأفكار الجبهة التركمانية الحالية كانوا يمتنعون عن أكل الطماطة بسبب لونها الأحمر تعبيرا عن موقفهم من الحزب الشيوعي العراقي . و رغم مرور أربعة عقود و نصف تلك الأيام إلا أنه يمكن للمرء أن يفهم تلك الأوضاع من خلال مراقبة المشهد السياسي العراقي الحالي .

لابد للمرء أن يدين الأساليب القاسية التي إعتمدها أفراد الفرقة الثانية للجيش العراقي و تشكيلات المقاومة الشعبية و منتسبوا النقابات و التنظيمات المهنية في قمع أنصار تجمع صبياني مشابه للجبهة التركمانية الحالية في شعاراته و لا واقعيته و حمل إسم ( جمعية طوران ) .  من المؤسف أن تلك القوى وضعت نفسها فوق القانون ولجأت الى قتل الناس وسحل بعضهم ، بدلا من اللجوء الى القانون و إجراء تحقيق قضائي أصولي و محاكمة المتسببين للأحداث التي إفتعلتها تلك الجمعية بتصرفاتها اللامسؤولة و شعاراتها المتطرفة ضد القوى السياسية الأخرى  . من المهم  أن تدرس هذه الأحداث في إطارها التاريخي و في ظل الأجواء و المفاهيم والشعارات السياسية المتطرفة التي كانت تسود الشارع السياسي العراقي آنذاك.

ومن المسائل الأساسية التي لازال الكثير من الغموض يكتنفها و تتباين الآراء حولها هو تحديد هوية القائمين بتلك الأحداث الدامية . إذ أن الإتهامات وجهت الى قوات الفرقة الثانية في الجيش العراقي و تشكيلات المقاومة الشعبية التي كانت تخضع لسيطرة الحزب الشيوعي العراقي فضلا عن الإتحادات المهنية و نقابات العمال و الجمعيات الفلاحية والتي كان الحزب الشيوعي العراقي يهيمن عليها أيضا  . وهذه الجهات الثلاث التي وجهت إليها الإتهامات هي مؤسسات حكومية كما في الحالة الأولى و حزبية في الحالتين الأخريين ولم تقم أي منها على أساس قومي أو ديني . بعبارة أخرى أنها كانت تضم في صفوفها العرب و الكرد و التركمان و الآثوريين و الأرمن وغيرهم .من المؤكد أن عدد الكرد الذين شكلوا الأكثرية الساحقة من سكان لواء كركوك في ذلك الوقت كان كبيرا قياسا الى الأثنيات الأخرى في تلك المؤسسات و التنظيمات لذلك سلطت الأضواء على دورهم في تلك الأحداث أكثر من غيرهم .

ولكن تصرفات و سلوكيات أفراد تلك المؤسسات و التنظيمات يجب أن تدرس لا على أساس إنتماءاتها القومية والدينية بل على اساس إلتزاماتها الوظيفية ( في حماية أمن البلاد من أعداء الثورة كما في حالة قوات الجيش و الشرطة !) ومنطلقاتها السياسية و الأيديولوجية كما في حالة تشكيلات المقاومة الشعبية و التنظيمات المهنية و الأحزاب السياسية .

ومن هذا المنطلق فإن الإتهامات التي جرى إختلاقها على مدى العقود التي أعقبت تلك الأحداث والتي تكاتفت جهات عديدة حكومية و أجنبية و قومية متطرفة ، و محاولة إلصاقها بالكرد ،رغم الأقرار بوجود عناصر كردية منفلتة في صفوف تلك التشكيلات ، لا تصمد أمام النقد العلمي و التحليل الموضوعي والمنطقي للأحداث.

من الغريب أن الجهات التي توزع الأتهامات يمينا و شمالا لا تشير من قريب أو بعيد الى الدوائر الأمنية التي كان القوميون العرب يسيطرون على مفاصل حيوية منها و كان دورهم في التآمر على نظام عبدالكريم قاسم و معاداة الشيوعيين معروفا للجميع . وقد توضحت خطوط المؤمرات و علاقات التحالف بين الطورانيين و البعثيين بعد الأنقلاب الدموي في الثامن من شباط من عام 1963 و أنخرط أعضاء (جمعية طوران) ، رغم تقاطع الأحلام الأمبراطورية لدى الطرفين ولكن معاداة الوطنيين و الحركة الكردية وحدتهما ، في صفوف الحرس القومي و ساهموا بنشاط كبير في قمع القوى الوطنية و بخاصة الشيوعيين و أنصار الحركة القومية الكردية في كركوك . ويتذكر سكان كركوك الدور المشين لهؤلاء في مطاردة الوطنيين و الشرفاء و معارضي البعث فضلا عن ممارسة القمع و البلطجة بحق الكرد الآمنين في المدينة . وقام الشقاة و القتلة المأجورين من لدن أوساط مشابهة للجبهة الحالية بقتل المئات من العمال و الكسبة و الفقراء الكرد الذين كانوا يتوجهون في الصباح الباكر الى أعمالهم عند منعطفات الأزقة و الشوارع . وكان هناك تنسيقا كاملا بين هؤلاء القتلة و الدوائر الأمنية في كركوك . وكان الأتفاق يقضي بإبقاء رجال الأمن و الشرطة بعيدين عن الأماكن التي كانت تنفذ فيها الجرائم بحق الأكراد . ويتذكر كبار السن في كركوك كيف أن عصابات القتلة هذه و بدعم و تنسيق مباشرين من دوائر الشرطة و الأمن نظمت قوائم بأسماء المثقفين و المحامين و التجار و الوجهاء الكرد في كركوك بهدف إغتيالهم الواحد بعد الآخر . وقد تمكن هؤلاء الشقاة من إغتيال البعض و العمل على إختلاق التهم لأعدام الآخرين ، بينما إضطر القسم الثالث الى الهرب من كركوك للألتحاق بالحركة الكردية المسلحة أو الأنتقال للعيش في المدن الأخرى . وكان الهدف من هذه الأجراءات تهميش دور الكرد في كركوك من النواحي السياسية و الثقافية و الأقتصادية و الأجتماعية . وقد عانى كرد كركوك ولا زالوا من آثار تلك السياسات .  و بعد إنهيار سلطة البعث  تخلصوا من أسلحتهم و بدأوا يتوسلون بالناس لكي يعفوا عنهم . لكنهم مع عودة البعث عام 1968 إنخرطوا مرة أخرى في صفوفه و شاركوه معظم جرائمه بحق العراقيين . وبقي معظم هؤلاء حتى التاسع من نيسان يخدمون البعث لكي ينخرطوا في اليوم التالي أي يوم تحرير كركوك الى صفوف الجبهة التركمانية . وبعد أن عملوا ثلاثة عقود لأبلاغ رسالة البعث الخالدة ! تحولوا بين ليلة و ضحاها الى العمل من أجل دولة طوران الممتدة من ضفاف الأدرياتيك الى سور الصين العظيم !!. 

كما أن هذه الأطراف لا تشير أبدا الى التصرفات الصبيانية لتلك الجمعية الصغيرة و دفعها الأمور الى التأزم و الأصطدام مع قوى لا قدرة لها على الوقوف بوجهها . ويبدو أن السكوت عن هذا الجانب من القضية يشير بوضوح الى عدم إستيعاب الجبهة التركمانية لدروس و عبر التأريخ .  وتعبر مواصلتها لنفس السياسة و الشعارات أصدق تعبير على تحنطها الفكري عند أعتاب الخمسينات و الستينات من القرن الماضي . و لا تريد الجبهة أن يدرك الناس بأن رفع الشعارات الطوباوية و القيام بالسياسات المغامرة و بث الضغينة و الحقد لا يمكن إلا أن تؤدي الى المآسي و الكوارث . وكما كانت ( جمعية طوران ) تمني النفس وتشحن أنصارها بمقاومة الشيوعية و الحركة الكردية و بقرب تدخل قوات السنتو بقيادة تركيا لتنصبها هي زعيمة على العراق ، تفعل الجبهة التركمانية نفس الشئ و ترفع معنويات أنصارها ليل نهار من خلال التأكيد على عدم تخلي تركيا عنهم هذه المرة . لقد صرح رؤوف دنكتاش اليوم بأن تركيا ( تضحي ) بشمال قبرص من أجل   تطلعاتها نحو الأتحاد الأوربي . نتمنى أن تستوعب الجبهة الدرس و تتخلى عن أحلامها الطوباوية .

ولم يجري حتى الآن تحقيق عادل ومحايد حول تلك الأحداث لتحديد أسبابها وكشف المذنبين الحقيقيين و الجهات التي وقفت خلفهم ودفعت الأمور الى تلك النهاية المحزنة. ويبدو أن قوى  فاشية وقومية محلية و أخرى خارجية وقفت خلف التيارات المتطرفة ودفعتها الى غرق البلاد بالمشاكل والإضطرابات لتحقيق أهداف سياسية معروفة. وقد تظهر في المستقبل الأدلة والوثائق التاريخية التي ستلقي الأضواء على الأحداث وتوضح الصورة للأجيال القادمة.

وجهت أصابع الإتهام في حينها الى تركيا وحليفاتها في حلف السنتو و شركة نفط العراق بدفع مجموعة من العناصر الشابة المتطرفة من التركمان والتي إنضوت تحت مظلة منظمة فاشية بإسم(منظمة طوران ) لتأزيم الموقف في كركوك . وجاءت أحداث كركوك ضمن سلسلة من الأحداث و المؤمرات التي كانت تهدف أساسا الى إغراق النظام الجديد بالمشاكل و إجبارها على التخلي عن توجهاتها السياسية الداخلية و الخارجية .

ويشير إسم المنظمة الى يوتوبيا تركية في إقامة دولة تضم كل الشعوب الناطقة بإحدى لغات المجموعة التركية والتي تمتد مواطنها حسب مزاعمها من بحر الأدرياتيك و حتى سور الصين. وكان إختيار هذا الأسم بحد ذاته إثارة لمشاعر السكان الكرد و الأرمن و الآثوريين و حتى العرب و الذين كانت تسمية طوران تذكرهم بسياسات الإتحاديين المكروهة و بخاصة في عهد سيطرة الثلاثي الدموي ( طلعت ، جمال و أنور ) . كما أنها كانت تشير الى طفولية سياسية و لاواقعية غريبة لدى القائمين على تلك المنظمة والذين ألحقوا الأضرار بالناس بسبب تبني مفاهيم و شعارات وسلوكيات غريبة عن واقع المدينة المتسامحة ، التي كانت ولاتزال ورغم كل المآسي التي حل بأبنائها تفتخر بحالة التعايش السلمي بين الأثنيات و اللغات و الثقافات المختلفة. 

و تتحمل تركيا كما هي شأنها دائما قسطا كبيرا من مسؤولية ما جرى في كركوك . ولا يمكن تفسير الموقف التركي المعادي من النظام الجديد في العراق فقط من خلال العوامل التي كانت تجمعها مع حليفاتها في حلف السنتو مثل خروج العراق من الحلف و تمتين العلاقات مع الإتحاد السوفيتي و دول أوربا الشرقية و تبنى سياسات معادية للغرب و رفع الشعارات الثورية ، بل إستند الموقف التركي أكثر من أي شئ آخر على مواقف النظام الجديد تجاه كرد العراق في عامه الأول على الأقل و رغم بقاء الوعود مجرد حبر على ورق و تراجعت عنها حكومة قاسم فيما بعد. ومع ذلك فإن إقرار النظام الجديد للحقيقية التاريخية القائمة في شراكة العرب والكرد في الوطن العراقي كما جاء في المادة الثالثة من الدستور العراقي المؤقت للجمهورية العراقية ، و الذي أقر في 26 تموز 1958 ،  و التعهد بضمان حقوقهم القومية دستوريا في أطار العراق الواحد كان سببا كافيا لإثارة عداء تركيا و معها إيران أيضا ضد النظام الجديد لأن هذا الموقف في حقل القضية الكردية كان يمكن أن يشكل برأيهما مثلا (سيئا) للكرد في الدولتين المذكورتين .

 كما و أكدت القوى السياسية العراقية مواقف النظام الجديد بشأن الموقف من القضية الكردية رغم مواقف البعث الشوفينية . فقد أكدت جبهة الإتحاد الوطني في برنامجها المعدل والذي أعلنته في تجمع جماهيري في بغداد في 25 نوفمبر 1958 نفس الأفكار الواردة في الدستور عندما قالت أن

( الجبهة ترى بأن وجود العراق يقوم على تعاون وتكاتف جميع المواطنين و إحترام حقوقهم و حماية حرياتهم .وهي تنظر الى العرب و الكرد كشركاء متساوين في الوطن الواحد و تعترف بحقوقهم القومية في إطار العراق الموحد و ستساعد الحكومة في مهمة تحقيق هذه الحقوق) . كما و كتبت جريدة الجمهورية الشبه رسمية تقول ( إن الأكراد شاركوا بقسط متساو مع العرب في النضال من أجل الحرية و الإستقلال ويمكنهم أن يكونوا واثقين من أن وضعهم سيتطابق مع وضع القسم العربي من السكان دائما). لقد أثارت هذه التوجهات أكثر من أي شئ آخر حقد تركيا على النظام الجديد.

ومنذ الأيام الأولى لقيام النظام الجديد في العراق بدأت التحرشات التركية بالقرب من الحدود العراقية التركية . و اشارت الصحافة التركية أشارت الى تجنيد الأنصار (المرتزقة) للدفاع عن (مصالح ) تركيا في كركوك . و جرى تحريك بعض القوى المرتبطة بدوائرها الأمنية لأثارة المشاكل و الأضطرابات . و أعلنت الحكومة التركية رسميا ستنتهج سياسة نشيطة للدفاع عن تلك المصالح.   وسرعان ما تحركت تلك القوى و أثارت بعض المشاكل في قصبة آلتون كوبري في كانون الثاني من عام 1959 . ولكن التدخل السريع للسلطات الحكومية و الجماهير الشعبية الملتفة حولها في العام الأول من عمر النظام الجديد أفشلت تلك المحاولة .

الغريب أن بريطانيا ، التي لعبت الدورا الأكبر في صنع التراجيديا الكردية و قمعت خلال العقود التي تلت  الحرب العالمية الأولى كل الحركات الكردية في كوردستان الجنوبية ، تذكرت فجأة إلتزاماتها تجاه الكرد و التي تعهدت بها أمام عصبة الأمم عند إلحاق ولاية الموصل بالعراق وبدأت تتحرك لإستخدام الورقة الكردية ضد النظام الجديد لتحقيق مآرب لم تكن تمت بصلة الى الكرد و حقوقهم القومية.  ولقطع الطريق على بريطانيا أرسلت اللجنة المركزية للحزب الديمقراطي الكوردستاني ، الذي كان يمثل الحركة القومية الكردية آنذاك ، رسالة الى منظمة الأمم المتحدة مؤكدة دعم الشعب الكردي للنظام الجديد و إستعداده للدفاع عنه . و يؤكد هذا الموقف و للمرة الألف حقيقة أن القضية الكردية لايمكن خلقها ولا حتى تحريكها من الخارج ، كما حاولت و لا تزال بعض الأوساط الشوفينية تصوير الأمور ، إذا لم تكن هناك دوافع داخلية واقعية تدفع بالكرد للثورة ضد الحكومات الدكتاتورية . إذ لولا سياسات القمع و الإضطهاد التي تمارس بحق الكرد ولولا وجود أسباب حقيقية تدفع بهم للدفاع عن وجودهم القومي و كرامتهم الإنسانية المهدورة والوقوف بوجه الحكومات الظالمة ، لما تحركوا مهما حاولت القوى الخارجية ذلك . وهذه إحدى بديهيات  علم التاريخ و السياسة التي يجب على أصحاب الشأن أن يدركوها و يأخذوها بنظر الإعتبار عند تعاملهم مع الكرد و غير الكرد من مواطنيهم .

من الغريب حقا أن تتطابق مواقف ( جمعية طوران ) التي يفترض بها أنها كانت تتطالب بالمشاركة السياسية للتركمان مع مواقف الحكومة التركية إزاء الحقوق القومية الكردية . فبدلا من المطالبة بتغيير نص المادة الثالثة بصورة تضمن مشاركة الأقلية التركمانية في الحياة السياسية في العراق كان أنصارها يطالبون بإلغاء تلك المادة و ضرورة إمتناع الحكومة بالإعتراف بالحقوق القومية الكردية . وهذا ما يحدث بالضبط اليوم أيضا ، إذ بدلا من المطالبة بحقوق التركمان ، تكرس الجبهة جهودها و إمكانياتها المتواضعة للمطالبة بعدم منح الكرد حقوقهم . وهذا منطق غريب لا يمكن للمرء أن يفهم أبعاده إلا من خلال معرفة القوى المحركة لها و المختفية خلفها . وقد أشارت الصحافة العربية في حينها الى ( أن أحداث كركوك تشكل مؤامرة نسجت خيوطها الولايات المتحدة  الأمريكية بالتحالف مع الأتراك بهدف إقتطاع الموصل و كركوك الغنية بالنفط و إلحاقها بتركيا). وكانت أحداث كركوك حلقة في سلسلة من المؤامرات تمثلت بحركات رشيد لولان و الشواف و منظمة طوران و محاولة إغتيال عبدالكريم قاسم ، المؤمرات التي كانت تهدف الى إغراق النظام الجديد في المشاكل للقضاء عليه و إعادة العراق الى كنف المعسكر الغربي . 

وكانت الأوضاع عشية الإحتفال بالذكرى الأولى لثورة 14 تموز 1958 تشير بوضوح الى نية تلك المنظمة و القوى الواقفة خلفها في إثارة المشاكل . فقد إجتمع قائد الفرقة الثانية بأعضاء اللجنة العليا المشرفة على الإحتفالات والتي كانت برئاسة وكيل المتصرف و ضمت في عضويتها ممثلون عن الفرقة الثانية و جميع الهيئات الرسمية و الشعبية وذلك يوم 13 تموز 1959  و طلب منهم  المساعدة في حماية الأمن و النظام في المدينة أثناء الأحتفال الجماهيري بذكرى الثورة في اليوم التالي . وقد وافقت جميع المنظمات السياسية و المهنية على القيام مجتمعة بالأحتفال و على مراسيم و شعارات الإحتفال بإستثناء (منظمة طوران) التي أعلنت و بصورة إستفزازية بأنها ستقوم بالإحتفال لوحدها و بالطريقة التي تراها مناسبة . وكان إتخاذ مثل هذا الموقف و ترديد شعارات تمجد تركيا و أتاتورك في ظل تنامي العداء الشعبي العام ضد سياسات تركيا و حلف السنتو و سيادة التطرف في أوساط القوى السياسية العاملة على الساحة العراقية ، نموذجا للطفولية السياسية و عدم تقدير العواقب السيئة لتبني شعارات و مواقف تتقاطع مع تطلعات بقية سكان المدينة. وكانت المنظمة المذكورة لا تخفي توجهاتها المعادية للحركة القومية الكردية و القوى السياسية اليسارية ، كما أنها كانت تبث الإشاعات المغرضة ضد تلك القوى في أوساط الأقلية التركمانية و تدفعها للقيام بالأعمال الإستفزازية و إثارة الحزازات و الإضطرابات. وقد إنخدعت تلك المنظمة و أنصارها بالوعود التي حصلت عليها من تركيا و شريكاتها في حلف السنتو عبر القنصليتين البريطانية والأمريكية ، اللتين أغلقتا بعد الأحداث مباشرة كإشارة على تورطهما في إثارة الإضطرابات في كركوك،  و دائرة العلاقات في شركة نفط العراق التي صرفت حسب مصادر الإستخبارات الأجنبية مبلغ مائتي ألف دينار لإيصال الأمور الى تلك النهاية المحزنة في كركوك.  لايمكن لعاقل أن يقوم بما قامت به تلك المنظمة الصبيانية الصغيرة والمعزولة عن أكثرية التركمان و تعتقد بأنها ستقف بوجه تلك الأمواج البشرية التي خرجت للتعبير عن إستعدادها للدفاع عن الجمهورية الفتية بوجه القوى الإستعمارية و عملائها في المنطقة وتذهب الى حد المغامرة بأرواح أنصارها في صراع محسوم النتائج سلفا كحواسم صدام حسين . ولم ينل هذا الجانب بالذات إهتمام الكتاب الذين تصدوا لدراسة تلك الأحداث بدوافع سياسية و عاطفية في أغلب الأحوال.

وأثناء مرور المتظاهرين يوم 14 تموز 1959 من الشارع المعروف بشارع سينما أطلس في وسط مدينة كركوك هوجموا من أسطح المنازل بالحجارة و العصي مع إطلاق شعارات إستفزازية معادية للشيوعيين و مطالبة بإلغاء المادة الثالثة من الدستور العراق المؤقت كما أطلقت عدة عيارات نارية . عند ذلك قام الجيش بتفريق التركمان و في اليوم التالي تجددت الإشتباكات و التي أدت الى مقتل   32 شخصا 28 منهم من التركمان و 4 من الكرد و نهب ممتلكات العديد من العوائل الكركوكية دون تمييز  .

وللموقف المتطرف هذا إزاء الحقوق القومية الكردية سوابق تاريخية . فبعيد إنتهاء الحرب العالمية الأولى و عندما كان الأنجليز يهيئون الوضع لإضعاف موقف الأكثرية الكردية  في المدينة من خلال فسح المجال لسيطرة بقايا العثمانيين على الإدارة و السوق فيها ، شكل  هؤلاء ( جمعية كركوك للدفاع عن الحقوق ) على غرار جمعيات الدفاع عن حقوق الولايات في آسيا الصغرى ( تركيا الحالية) و التي ضمت الى جانب الموظفين العثمانيين العسكريين و المدنيين عددا من الوجهاء و الملاكين المتنفذين الكرد الذين تشابكت مصالحهم مع السلطة العثمانية . وكانت هذه الجمعية تبدي مخاوفها من التقارب بين الحكومة الكمالية وحكومة الشيخ محمود الحفيد في السليمانية و إعتراف الأولى بالثانية . وكان الضابط التركي على شفيق الملقب بأوزدمير والذي وكل إليه أمر إعادة كوردستان الجنوبية الى حظيرة السيطرة التركية يوصل هذه التخوفات الى تركيا و يأتي بالجواب ليطمئن أعضاء هذه الجمعية بأن حكومة أنقرة غير مستعدة لدعم طلبات الشيخ محمود و غير جدية في علاقاتها مع حكومته رغم عقدها إتفاقية إعتراف و تعاون بل و دفاع مشترك مع الأخيرة . وكان أوزدمير يؤكد لبقايا العثمانيين في المدينة أن الأمر لا يعدو كونه محاولة لإستغلال مكانة الشيخ محمود و الموقف الكردي المعادي من السيطرة الأنجليزية كمدخل للعودة الى المنطقة ثانية . فالسياسة التركية إزاء ولاية الموصل كانت و لا تزال نابعة من أقوال مصطفى كمال التي أكد عليها في خضم الصراع على الموصل ، إذ قال ( الموصل تركية و لا يمكن حتى للحراب أن تغير من هذا الأمر. نحن نريد الولاية السابقة كلها و على ضفتي دجلة و لايهمنا في شئ إن كانت تحت الإنتداب أو لم تكن . ولن نتخلى عن هذا الموقف ابدا) .

ويمكن أن يقال نفس الشئ بشأن موقف المعلمين التركمان إزاء محاولة الكرد تأسيس دائرة معارف كوردستان في كركوك بعيد ثورة تموز مباشرة . إذ أنهم راجعوا قائد الفرقة الثانية ناظم الطبقجلي بإسم هيئة نقابة المعلمين في كركوك وكانوا جميعا من التركمان الذين فازوا ضمن قائمة( الجبهة القومية ) التي ضمت البعثيين و القوميين و التركمان ، و في ظل غياب كامل للمعلمين الكرد و طلبوا منه إقناع السلطات العليا للوقوف بوجه هذه المحاولة . ولا يستبعد أن يكون قائد الفرقة نفسه والقوى القومية المتطرفة والتي كان العداء للحقوق القومية الكردية يوحدها وراء تنظيم العملية هذه المسرحية كلها .

ويمكنني القول بأن مواقف (منظمة طوران) و الجبهة التركمانية الحالية متشابهة الى حد كبير و  تقوم على بذل الجزء الأكبر من جهودها للوقوف بوجه الحقوق القومية الكردية عموما وحقوق كرد محافظة كركوك خصوصا بدلا من الكفاح من أجل حقوق التركمان القومية .ولازالت بعض التجمعات السياسية التركمانية تتبنى هذا النهج الخاطئ والمضر . و أعود و أشير الى المقولة الكردية التي تشير الى أن هؤلاء إذا خيروا بين التمتع هم و الكرد بحقوقهم القومية وبين حرمان الطرفين منها ، سيختارون الأمر الثاني .

ساهمت مجموعة من العوامل في إتساع نطاق الإضطرابات و الأعمال الإنتقامية خلال اليومين التاليين منها التعبئة السياسية المتطرفة التي قامت بها كل التيارات الحزبية العاملة على الساحة العراقية آنذاك . كما جرى  نشر دعايات في المناطق الكردية من المدينة مفادها أن أعدادا كبيرة من المشاركين في التظاهرة قد قتلوا . يجب أن لا نستبعد حقيقة الحقد الكامن في نفوس سكان الأحياء الفقيرة من سياسات إدارات الدولة في المدينة والتي كان يسيطر عليها الموظفون التركمان من حملة أفكار منظمة طوران . وكانت هذه الإدارات تمارس سياسة تمييز واضحة بين أحياء المدينة و تحرم الأحياء الكردية قصدا من الخدمات الضرورية ، فضلا عن تعامل موظفيها تعاملا فضا و إستعلائيا مع مواطني المدينة من الكرد .  يتذكر العديد من أبناء حي الشورجة الكردي زيارة أحد رؤساء البلدية التركمان الى حيهم ، وحينما ناشدوه بأن يعمل شيئا لحل مشكلة شحة مياه الشرب في الحي، و الذي لايزال سكانه و في بداية الألفية الثالثة يعانون منها ،كان جوابه دليلا على سفاهة المسؤول الحكومي في دولة اللاقانون . فقد فسر رئيس البلدية أمر نقص الماء في الحي بكثرة تناول سكان الحي للبصل الأمر الذي يؤدي الى كثرة شرب الماء و بالتالي الى عدم كفاية مياه الشرب. أية سفاهة هذه؟!!!

كما أن إستغلال البورجوازية التجارية التركمانية في مدينة كركوك للفلاحين و القرويين الكرد و سرقة نتاج كدهم السنوي عبر أساليب غير سوية في أغلب الحالات كان وراء تنامي حقد الفلاحين و الكادحين الكرد على ابناء تلك الفئة و إستعدادهم للأنخراط في أي عمل موجه ضدهم . لذلك فإن الحديث عن أحداث كركوك في تموز عام 1959 يتطلب الغوص في دراسة مجمل العوامل السياسية و الأقتصادية و الثقافية و الأجتماعية التي ساهمت في تلك الأحداث و في إطارها الزمكاني التاريخي . 

لولا الجهود المخلصة التي بذلها الوجهاء الكرد المعروفين في المدينة و الفئات الواعية الكردية في الجيش و الأحزاب السياسية و المنظمات الجماهيرية لمنع وصول القرويين و أبناء القبائل الكردية يوم 15 تموز 1959 الى مركز المدينة و العمل على تهدئة الموقف ، لكان من الصعب جدا السيطرة على الوضع و لكان حجم الخسائر أكبر بكثير و لحدثت فواجع كبرى . كما يتذكر  المنصفون من التركمان قيام عدد كبير من العوائل الكردية بمد يد المساعدة الى العوائل التركمانية المطلوبة و العمل على إخفاء أبنائهم لأيام عديدة في بيوتهم رغم ما كان ينطوي عليه ذلك الأمر من مخاطر في تلك الظروف المتوترة .

وكان التغني بتركيا و سياساتها من قبل المنظمة التركمانية يشكل بحق موقفا يدل على قصر نظر سياسي كبير من جهة و إستفزازا لمشاعر سكان مدينة كركوك من جهة أخرى . فالكرد و العرب و الآثوريين و الأرمن كانوا يحتفظون بذكريات مريرة عن العهد التركي و عمليات القمع والإبادة التي قامت بها السلطات التركية بحق هذه الشعوب . كما أن موقف تركيا المعادي من النظام الجديد و الذي كان لا يزال في عامه الأول و محبوبا لدى الناس ، و إرتباط ذلك بالموقف الإستعماري الغربي من الثورة و قيادتها ، أسبابا كافية لتأجيج المشاعر ضد تركيا و كل من يناصرها.

 و تؤكد المصادر المختلفة بأن عدد القتلى وصل الى 32 شخصا ، و الجرحى الى 130 شخصا ،كما نهبت مجموعة من الدكاكين و المحلات التجارية بلغ عددها 70 دكانا و حانوتا تجاريا. وتحولت هذه الأحداث الى أسطورة لا زالت القوى المتطرفة و الظلامية تقتات عليها لتسميم العلاقات بين الكرد و التركمان في محافظة كركوك و غيرها .    

تأسيسا على تلك الأحقاد و الأتهامات الباطلة قامت تلك العصابات المجرمة بجرائمها بحق الكرد و وصل الأمر الى إلقاء ماء النار ( التيزاب ) على وجوه العديد من الأبرياء في وضح النهار . وكانت   الغرائز الحيوانية لهذه الفئة وراء الأنغماس في جرائم الحرس القومي و حزب البعث و مؤسساته القمعية على مدى العقود الماضية .  وتحالفت هذه الفئة مع كل من حمل لواء العداء للكرد بدءا من قائد الفرقة الثانية إبراهيم فيصل الأنصاري و إنتهاء بصدام حسين . فقد كان الأنصاري وراء تدمير حي كردي كامل ضم بيوت الآف الفقراء و الكادحين . كما أنه عمل كل ما في وسعه من أجل إعدام نخبة من المثقفين و التكنوقراط الكرد ( 28 شخصا ) في حزيران من عام 1963.  وقد علقت سلطات البعث جثثهم في الأحياء التركمانية . وقد ذكرتنا مشاهد التمثيل بجثث الأمريكيين في الفلوجة بتلك الأيام حيث قام عدد من الشقاة التركمان بنفس التصرفات الهمجية بحق شهداء الحركة الوطنية العراقية و الكردية . ويروي شهود عيان لا زالوا على قيد الحياة قيام أحد القصابين الشقاة بشق بطون المعدومين في ظل هلاهل النساء و ضرب الطبول و المزامير . لقد كان هذا ( المشهد الأحتفالي! ) دليلا آخر على همجية أولئك الذين يتبنون أفكار التعصب القومي البدائي . و يبدو من خطاب الجبهة التركمانية أنها تتبنى نفس المفاهيم و كأن التأريخ توقف بالنسبة لها عند ذلك المشهد الحزيراني المشؤوم يوم علق جثامين الشاعر و المثقف الكردي و رئيس بلدية كركوك السابق معروف البزنجي و صحبه الأبرياء من التهم التي ألصقت بهم دون وجه حق . لم يصدق أحد ، بما فيهم الذين إختلقوا التهم ، أن محامون و شعراء و مهندسون كانوا يحتلون مكانة بارزة في المجتمع و مواقع إدارية و ثقافية و سياسية رفيعة ، يستطيعون القيام بأعمال الغوغاء في قتل و نهب و سحل أعدائهم السياسيين في عراق الخمسينات . كان الهدف من وراء إعدام هذه الكوكبة هو ترويع الكرد و إجبار المثقفين و الوجهاء منهم على ترك كركوك و حرمان مجتمعها الكردي من قيادة سياسية و ثقافية و إجتماعية فاعلة . لقد فقد كرد كركوك خلال تلك الفترة من أبنائهم   أضعافا مضاعفة لأولئك الذين فقدوا حياتهم خلال أحداث تموز 1959 . ورغم كل ذلك لا زالت الجبهة تنادي هل من مزيد ؟ . هذه المنظمة الكاريكاتيرية تأتي بأطفال صغار يرفعون شارات الذئاب الغبر التركية ( شارات خاصة بحزب الحركة القومية الفاشي في تركيا  - أنظر الصورة ). يبدو أن الجبهة لا تدرك بأن معظم الترك أصبحوا يخجلون من هذه الشارة . ومن ثم تعود الجبهة لتقول لنا بأنها تدافع عن وحدة العراق و إنها لوحدها ترفع علم العراق ( تقصد بذلك علم البعث و راية الله أكبر الصدامية ) .

و كما ذكرت لم يجري لحد الآن تحقيق عادل و نزيه يكشف جميع الملابسات التي رافقت تلك الأحداث المؤلمة. كما بقيت دوافعها و القوى المحركة لها و كذلك النتائج المترتبة عليها تستخدم من قبل بعض الأطراف التركمانية لتحقيق اغراض لا تمت بصلة الى الدفاع عن ضحاياها . ويبدو أن الأطراف المختلفة لم تنجح في إستنباط العبر و الدروس من تلك الأحداث و العمل على زالة آثارها و قطع الطريق على إمكانية تكرارها في المستقبل.

و بناء على النتائج المريرة للتجارب السابقة و التي طالت جميع الأطراف لابد من العمل على بناء  علاقات جديدة بين المكونات الأثنية للمجتمع العراقي .  و لا أمل في نجاح هذه العملية دون مراجعة جادة و صادقة من قبل جميع الأطراف لمواقفها السابقة و أفكارها المسبقة عن الآخر. وقدر تعلق الأمر بالعلاقات الكردية - التركمانية يمكن إقتراح الخطوات التالية كمدخل صحيح لبناء علاقات جديدة :

لابد من القيام بحوار حضاري و شفاف بين المثقفين و القوى السياسية الحقيقية الممثلة للطرفين. حوار يقوم على ثوابت  التاريخ و الجغرافيا و يستبعد الأوهام و الأساطير و التأثيرات الخارجية من أجندته . وعلى الحكومة العراقية المنتخبة أن تتخلى نهائيا عن فكرة إثارة الأثنيات المختلفة على بعضها أو محاولات البحث عن عنصر للتوازن بين القوميتين الرئيسيتين و اللعب على وتر الخلافات و تعميقها. و يجب على الكرد و التركمان و غيرهم إدانة أعمال القمع و التنكيل التي جرت بحق التركمان في تموز 1959 و الأعمال الأرهابية بحق الكرد في السنوات التي تلت ذلك و الدعوة الى  التحقيق العادل و النزيه فيها لمعرفة المتسببين فيها . من الطبيعي أن يتطلب مثل هذا الحوار تخلي جماعات سياسية تركمانية عن مواقفها المعادية للحركة القومية الكردية في العراق و غيرها و قيامها بتربية كوادرها بروحية جديدة و الإبتعاد عن تحريف الحقائق المتعلقة بالأقلية التركمانية و المناطق التي تسكنها و تحديد مطالبها القومية بصورة و اقعية . وعليها التخلي نهائيا عن فكرة التعويل على تركيا لأن ذلك لن يؤدي إلا الى مزيد من التوتر و النكبات . إن الكرد الذين قارعوا الحكومات العراقية المتتالية خلال ثمانية عقود ولم تتمكن كل وسائل الإبادة الجماعية أن تجبرهم على الرضوخ الى الظلم و الطغيان ، لن يقبلوا بأي دور لتركيا و توجهاتها العنصرية في كوردستان و العراق . على الأمة الكبرى ، و هي الأمة العربية على صعيد العراق و الكردية على صعيد كوردستان  ، مسؤولية تاريخية في تطمين الأمم الصغرى التي كثيرا ما تتقاذفها المخاوف من أية خطوة تخطوها الأولى و بخاصة في منطقتنا التي شهدت المآسي و الصراعات القومية و حملات الإبادة و التطهير العرقي و غيرها و التي خلقت حالة من التوجس و الشكوك و المخاوف بين شعوب المنطقة في علاقاتها مع بعضها .

و أنطلاقا من الأسس المشار اليها أعلاه لا بد من الحرص على بناء علاقات متينة على أسس صحيحة بين الأمم و القوميات بالأستناد الى روح التآلف و التعاون و إزالة البغضاء و الحقد من قاموس العلاقات بين الشعوب و بخاصة تلك التي تعيش على أرض واحدة و تتداخل علاقاتها الأجتماعية و السياسية و الأقتصادية.

من الضروري أن نتمسك جميعا بصفحات التاريخ المشرقة التي تؤكد حسن العلاقات و الروابط بين الكرد و التركمان و ترك صفحة واحدة مشوشة شابتها أحداثا مؤسفة و تضرر منها الجميع . قدر لنا أن نعيش في هذه الجغرافيا المشتركة و يجب أن نبحث عن المشتركات التي تجمعنا و هي كثيرة. و علينا أن نتخلى عن البحث في زوايا التاريخ المظلمة عن ما يثير الشقاق و الخصام بيننا . لن يستفيد أحد من ذلك بل سيعم الضرر الجميع وإن على درجات متفاوتة   . لا يمكن لأحد أن يعيش بهناء فيما الآخرين يعانون من أوضاع غير إنسانية . وقد أكدت أحداث العراق القريب هذه الحقيقة بوضوح . مصلحة الأقلية التركمانية تكمن في الدعوة الى التعايش مع الكرد و العرب و غيرهم و محاربة الأفكار المتعصبة الغريبة التي تحاول أن تدفع بالأمور الى التأزم و التوتر . لن يستطيع أحد أن يحمل جغرافيته الى منطقة أخرى من العالم .

كانت العلاقات الكردية - التركمانية جيدة عموما شابتها ازمات قصيرة كانت نابعة أصلا من تخوف الأقلية التركمانية و دون مبرر من التطلعات المشروعة للشعب الكردي ، فقامت منظمات سياسية معزولة في أكثر الحالات عن الجماهير التركمانية الواسعة برفع شعارات غير واقعية تسببت في خلق فجوة بين التركمان و الكرد. و أصبحت تلك الشعارات و أصحابها على ذمة التاريخ. بإختصار لابد أن تصبح الحركة التركمانية حركة تعبر عن طموحات تركمان العراق ضمن ثوابت التاريخ و الجغرافيا و ليس حركة تلهث وراء أوهام و يوتوبيات لا طاقة لها و لا للواقفين ورائها على تحقيق الجزء الأبسط  منها . كما عليها و هي المتطلعة الى تمثيل الجماهير التركمانية و التعبير عن طموحاتها المشروعة أن تقف الى جانب الحركات التحررية في العالم و الى جانب المضطهدين أينما كانوا لا أن تدافع عن سياسات عنصرية تمارسها الحكومات التركية ضد الشعب الكردي في تركيا ، فقضايا و حرية الشعوب و حقوقها واحدة و لا يمكن المطالبة بالحقوق القومية و الديمقراطية و حقوق الأنسان من جهة و الوقوف الى جانب القوى العنصرية و قامعي تطلعات الشعوب من جهة أخرى.