بوش : حكومة إسلامية في العراق وإن على مضض !

   أحمد معين

 

 لم يأت تصريح الرئيس الأمريكي جورج بوش حول قبول الإدارة الأمريكية بقيام حكومة إسلامية في العراق من فراغ أو بدون مقدمات . فالروزنامة الإنتخابية في العراق تقترب من موعدها في كانون الثاني المقبل . ويبدو إن ما يبديه الرئيس الأمريكي بشأن نمط وطبيعة السلطة السياسية في العراق ليس إلا بيانا لنوايا وتوجهات جدية وسيناريوهات يتم تداولها في كواليس البيت الأبيض والغرف الخلفية في المنطقة الخضراء من أجل جس النبض وقياس ردود الأفعال من قبل مختلف القوى المحلية والإقليمية بصدد مستقبل العراق وسبل الخروج من المستنقع التي وضعت أمريكا نفسه والطاقم السياسي العراقي فيه . كما يأتي التصريح في ظل التغيير الحاصل في السياسة الأمريكية عقب النكسات والهزائم المتتالية في كلا الميدانين العسكري والسياسي وما واجهته الستراتيجية الأمريكية في العراق والمنطقة من مصير بائس .

 كانت الإدارة الأمريكية تركز في تسويقها لمبررات شن الحرب بعد مرحلة ما سمي بوجود أسلحة الدمار الشامل ، بإقامة الديمقراطية في العراق وجعلها نقطة إرتكاز وإنطلاق لإنتشارها في المنطقة قاطبة في ظل ما سمي بالشرق الأوسط الكبير .

 إلا إن تلك السياسة منيت بفشل ذريع ونكسة مريرة بل أصبحت في طي النسيان وتمخض عنها دمار واسع حيث جعل البلاد مسرحا لأعنف وأشرس صراع رجعي بين أمريكا الساعية للهيمنة على مقدرات المنطقة وحل مشاكلها المزمنة مع بعض الأنظمة الرجعية المتمردة عليه أو عدم المسايرة كلية للمشيئة الأمريكية وقوى الإرهاب الإسلامي التي تيقنت وخاصة بعد سقوط قلعة الإرهاب في أفغانستان بأن الإنتصار الأمريكي في العراق يضيق الخناق عليها أكثر فأكثر في الشرق الأوسط .

 وفيما يتعلق بقضية السلطة السياسية فإن إيداع مجموعة من الصلاحيات لحكومة أياد علاوي وما تلاها من قرارات صدرت من مجلس الأمن فشلت أيضا في توفير الحد الأدنى من الإستقرار وبدء العملية السياسية كما يحلو لهم تسميتها . وبدلا من ذلك تصاعدت وتيرة العنف والإرهاب والإرهاب المضاد بشكل دراماتيكي وإتسع نطاق نشاط الإرهاب الإسلامي في العراق ولم يكن أمام أمريكا والسلطة العراقية الموالية لها سوى الإذعان والإقرار بأن الأخطار المحدقة بالستراتيجية الأمريكية في العراق لا تني في تزايد مستمر وفي عد تصاعدي لا يحمد عقباه .  

 كما أفزعت ورقة الشرق الأوسط الكبير وبالصيغة الدعائية المثيرة التي تم بها طرحها وبمدلولاتها الإقليمية ، الأنظة العربية والإسلامية في المنطقة ليست بوصفها تثير هياج جماهير تلك الدول إذ إنها بعكس ذلك تقوم بإحتواء نضالات شعوبها وقولبتها في إطار رجعي وإمبريالي ، بل في خلق عوامل عدم الإستقرار وإثارة التساؤل بصدد أهلية حكوماتها التي هي هشة أصلا .

 لقد تمخضت التخرصات الأمريكية عن الديمقراطية في العراق عنفا ودمارا بل وجعل العراق ميدانا ومسرحا يصول فيه التيارات الإسلامية القادمة من شتى أصقاع الأرض ويجول لتحيلها ( دار حرب ! ) أمام المسعى الأمريكي في جعلها نقطة إرتكاز في الهيمنة الأمريكية على مقدرات المنطقة .

 لقد ولدت السياسة الأمريكية الهوجاء في العراق أرضية خصبة لنمو وتصاعد نشاط التيار الإسلامي بل لازلنا نتذكر تصريحات دونالد رامسفيلد ودعوته لقوى الإرهاب الإسلامي في العالم قاطبة للقدوم إلى العراق لغرض المنازلة الكبرى آملا بتوجيه الضربة القاضية لهم على أرضها .

 كانت الخطة الأمريكية ( بعكس الذين لازالوا يظنون بأن أمريكا لم تكن لها خطة أثناء غزو العراق ) ترنو لجعل العراق مصيدة للحركات الإسلامية ولأجل ذلك جعلوا حدودها عن سابق عزم وتصميم أرضا سائبة بهدف إستدراج أكثر ما يكون من (مجاهدي الإسلام ) وتحويل العراق إلى مقبرة وكماشة لهم وتلقينهم درسا لن يجرؤوا على تكراره وتعويض ما فاتهم القيام به في افغانستان حيث تمكن الجسم القيادي في تنظيم القاعدة من الهرب ، وكل ذلك تمهيدا لخلق الأرضية أمام تنفيذ بقية حلقات المسلسل الأمريكي في الشرق الأوسط .      

 إلا إن وقائع السنة الماضية بينت بطلان تلك النظرية وعقم تلك الستراتيجية .

 إن قوة الإرهاب الإسلامي لا تنبع من جماهيريتها ونفوذها في العراق أو لم يكن الحال كذلك في بداية الغزو الأمريكي للعراق على الأقل بل هي جزء من تبعات وتداعيات السياسة الأمريكية والفراغ الهائل الذي أوجده الغزو والتي تمخض عن السقوط الكامل والإنهيار التام لمجمل اركان المجتمع والدولة في العراق . كما تقع على أمريكا المسؤولية المباشرة في نمو وتصاعد دور الحركات الإسلامية وتطور نشاطاتها حيث قامت القوات الأمريكية ومنذ اليوم الأول لغزو العراق وبعد سقوط النظام بشكل خاص للترويج للطائفية وإحياء وإثارة النعرات الدينية والطائفية والمذهبية بشك منسق ومبرمج وهادف ودعم التيارات والقوى الإسلامية ومنحها السلطة والإمتيازات وحشدها حول ستراتيجيتها ومنحها الحرية الكاملة في الترويج لمبادئها وأفكارها وسياساتها القروسطية .

 إن التلويح الراهن من قبل جورج بوش بشرعية إقامة الحكومة الإسلامية في العراق ما هي إلا محاولة عبثية أمريكية للخروج من المأزق الذي لم يخلقه سواهم .

 إن التعاون والتحالف مع التيارات الإسلامية الشيعية يشكل ركنا أساسيا من أركان السياسة الأمريكية في العراق . ويمثل ذلك سابقة وتغيرا في التوجهات السياسية الأمريكية في الدول المسماة بالعالم الإسلامي . كما إن القوى الإسلامية الشيعية وبالرغم من تحالفها المتين مع أمريكا والذي يعود تاريخه إلى أواسط تسعينات القرن الماضي حينما كانت وفود المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق تتقاطر أمام مقرات وزارة الخارجية والمخابرات المركزية في واشنطن ، تحاول إستغلال المأزق الأمريكي في العراق لكي تعيد ترتيب نوع وشكل تحالفاتها والإستئثار بحصة أكبر في الإستحقاقات القادمة وخاصة إذا علمنا بأن الإنتخابات بات على الأبواب . 

 ترى التيارات الإسلامية الشيعية في الوضع الراهن فرصة ذهبية ربما لن تتكرر لتحقيق حلمها التاريخي بإقامة حكومة إسلامية في العراق بذريعة كون الشيعة يشكلون أكثرية التركيبة السكانية للشعب العراقي . إلا إن القاصي والداني يعرف مدى زيف نظرية الأكثرية الشيعية في العراق حيث يتوزع الولاء السياسي في صفوفهم بين اليمين واليسار والإسلامي والوطني والقومي والليبرالي والشيوعي والديمقراطي . إلا إن معزوفة الأكثرية الشيعية باتت رمزا لهدف سياسي أكبر يتمثل في جعلها ذريعة ( ديمقراطية ! ) لإقامة حكومة مذهبية إسلامية تكرس نمطا خاصا من النظام السياسي لا يختلف كثيرا عما هو قائم في ايران .

 كما أدركت أمريكا من جهة أخرى طوال ما يقرب من عامين من تواجدها بالعراق بأن إقامة الحكومة الإسلامية هناك ربما يسقط بذاته الأسلحة والمبررات من أيدي القوى السنية المعارضة وخاصة الإسلامية منها حيث يوفر لها ذلك أرضية المشاركة في الحكم .

 إلا إن حظوظ نجاح إقامة الحكم الإسلامي في العراق ضعيفة رغم كل ذلك وتقف بوجهها عقبات جمة . فالتيارات الإسلامية ليست متفقة على صيغة وإطار سياسي مشترك وهناك خلافات حادة ليس بين القوى الإسلامية الشيعية والسنية فقط بل وفي صفوف التيار الإسلامي الشيعي أيضا . كما إن التيار الإسلامي أعجز من ممارسة السلطة لوحده اوالإستئثار بحصة الأسد من كعكة السلطة في العراق وخاصة في ظل التحديات الجسام الراهنة إذ هناك منافسين كثر بين صفوف الأحزاب القومية والوطنية العربية والكردية . وعلاوة على كل ذلك فإن إقامة الحكومة الإسلامية في العراق حتى وإن كانت صناعة أمريكية بحتة تعزز بصورة غير مباشرة من جموح الحركات الإسلامية وتمنحها أملا في تحقيق أهدافها مباشرة أو عن طريق إملائها على الأنظة الحاكمة في المنطقة .

 إلا إن الأهم من كل ذلك هو إن إقامة النظام الإسلامي في العراق يثير هياج وإمتعاض الجماهير العراقية المتعطشة للحرية وإقامة نظام وسلطة سياسيتين توفر ، إن لم يكن حقوقها ومطاليبها الأساسية والجذرية والعيش الرغيد والحياة الكريمة والحرة والمستقرة ، فإنها توفر لها على الأقل بعضا من حقوقها وحرياتها الأولية التي ناضل من أجلها عقودا متوالية ، تلك الجماهير التي ليست مستعدة للتضحية بتلك المطاليب والحقوق الأولية على مذبح الحكم اللإسلامي الذي يتناقض ذاتا وموضوعا مع أبسط الحقوق والحريات الأولية مثلما بين ذلك بصورة ساطعة تجارب إيران والسودان والسعودية وغيرها .

 إلا إن السؤال لا يطرح ، من منطلق مصالح وإهداف وتطلعات الشعب العراقي بصيغة القبول أو الإمتعاض من إقامة الحكومة الإسلامية في العراق والتي تعتبر برأينا مرفوضة أساسا لتناقضها مع الحد الأدنى من تطلعات وحقوق ومطاليب الشعب العراقي بل يطرح بصيغة أخرى وهي هل الجماهير العراقية مؤهلة وقادرة من الناحية العملية على إقامة حكم تقدمي علماني لا يستند إلى أيديولوجيات ومقدمات وأقنعة دينية أو قومية ؟ حكم ونظام ينقش على رايته : العراق لشعبه بثرواته وإمكاناته وهي دولة مواطنيه ليس إلا !! .

 

                                 

                                                     نوفمبر2004

HOME