المغزى الحقيقي لإعادة إنتخاب بوش

  أحمد معين

 

 إنتهت الإنتخابات الرئاسية الأمريكية كما هو معلوم بإنتصار لم يكن متوقعا لجورج دبليو بوش على غريمه الديمقراطي جون كيري لأربع سنوات أخرى . وقد إكتسب الحدث مغزى عالميا لم يسبق له مثيل . فلم يسبق أن إنقسم العالم بدوله وشعوبه وأحزابه حول قضية إنتخابية أخرى في دولة ما مثلما جرى في هذه الإنتخابات .  ففيما يخص مواقف الدول الرأسمالية بدا الإنقسام واضحا بين أغلبية الدول الأوربية التي تمنت الفوز للمرشح الديمقراطي جون كيري وتبوئه لمنصب الرئاسة واقلية من الدول ( مثل روسيا ) وقفت خلف الحزب الجمهوري ومرشحه جورج بوش .

 وقد عكس ذلك الإنقسام بذاته خلافا أعمق في المعسكر الرأسمالي العالمي وبروز تناقضات حادة في صفوفه حول مجمل القضايا المتعلقة بما يسمى بالسياسة الدولية وخاصة القضايا الساخنة منها كالوضع في العراق ومسألة محاربة الإرهاب والقضية الفلسطينية وكيفية التعاطي مع الحركات الإسلامية وقضايا أخرى كالتجارة الدولية والعولمة وسياسة الحماية التجارية وأمور أخرى .

 وبالرغم من المساعي الدؤوبة للدول الرأسمالية وحشد الآلاف من المفكرين والأعلاميين وبكامل قدراتهم الجبارة في التحايل على العقل البشري وقولبة الآراء وهندستها وتمويه الحقائق الجارية على صعيد المجتمع الرأسمالي المعاصر ، فإنها تبدو عاجزة عن إخفاء الصراعات الجوهرية الجارية ومنها الصراع الإنتخابي الأمريكي بوصفه تجليات فعلية لصراع الكتل والقوى الإقتصادية الرأسمالية في عالمنا المعاصر حول النفوذ والهيمنة والسيطرة في مجمل الميادين السياسية والإقتصادية والإجتماعية بل وحتى في مجال الثقافة ونظام القيم .

 فمشروع الحزبين الجمهوري والديمقراطي بصدد قضايا مثل البطالة وسياسات الحماية التجارية وتنظيم وضبط العلاقات الدولية ( كالعلاقة بين أمريكا وأوربا ) ودور الشركات والمؤسسات ومدى دور وتدخل الدولة وكيفية إعادة تنظيم العلاقات الدولية بشكل يضمن إستقطاب دول العالم الثالث وقضايا أخرى مثل الإرهاب والعلاقة بين الإسلام والليبرالية الغربية وقضية إعادة هيكلة السلطة في الشرق الأوسط وقضايا أخرى كالإجهاض والمثليين والحياة الإجتماعية والخدمات والتأمينات الصحية والإجتماعية والمئات من القضايا المحلية والعالمية الأخرى ، هي كلها قضايا خلافية بين المعسكرين وليس ذلك فقط بل تدور حولها ن بوصفها قضايا ملحة تواجه المجتمع الرأسمالي ، صراع مكشوف على صعيد العالم أو العالم الغربي على أقل تقدير .

 ومما لاشك فيه بأن الصراع بشأن هذه القضايا المحورية والملحة التي تواجه الرأسمالية العالمية إشتدت بشكل خاص في المرحلة التي تلت سقوط المعسكر السوفيتي والمعادلات الجديدة التي تبعتها وسائر الإفرازات التي إنبثقت عنها بوصفها مرحلة متميزة في سيطرة إقتصاد الرأسمالية الحرة ونمط الليبرالية الجديدة بصورة جامحة .

 إن أحد أبرز أوجه الخلاف بين التيار الإشتراكي – الديمقراطي والليبرالي الجديد والتي برزت تجلياتها هنا وهناك أثناء الحملة الإنتخابية الأخيرة دارت ولازالت حول كيفية إنهاء المرحلة الإنتقالية التي بدأت بسقوط المعسكر السوفيتي وكيفية تأمين الإستقرار اللازم لنمو وتراكم الرأسمال مع الأخذ بنظر الإعتبار المديات الواسعة والجبارة للعولمة والسيطرة على تداعياتها وإعادة بناء وهيكلة العالم الرأسمالي الجديد بشرط تأمين الهيمنة السياسية والإقتصادية والفكرية للرأسمالية الأمريكية .

 إن ذلك يوضح أيضا وإلى مدى بعبد لماذا وعلى الرغم من الإمتعاض والسخط الشعبي المتزايدين من السياسات  الأمريكية وخاصة من نهج جناحها اليميني والمحافظ على الصعيد العالمي ، تمت إعادة إنتخاب جورج بوش بوصفه قائد أوركسترا اليمينية والنزعة المحافظة ليس فقط على صعيد المجتمع الأمريكي بل على صعيد المجبمع الرأسمالي العالمي بأسره .

 لقد حفل الأعلام الغربي بعد فوز الحزب الجمهوري برؤى وتصورات سطحية بصدد تحليل أسباب ذلك الفوز مثل إستناد بوش على القيم والمؤسسات الدينية في أمريكا أو عدم إطمئنان الشعب الأمريكي لتغيير الرئيس أثناء الأزمات الحادة أو عدم وضوح مواقف كيري وغيره من التحليلات السطحية الأخرى التي ينجر ورائها أو وراء بعضها بعض القوى اليسارية أيضا .

 إن تلك التصورات ، سواء التي تنعكس على صعيد الأعلام أو في مواقف القوى السياسية ، تذر الرماد في العيون وتلعب دورا بالغ الشأن في تضليل الجماهير عن طريق ستر حقائق جوهرية تلعب دورا هاما .

 إن النصر الإنتخابي لجورج بوش والجمهوريين يعود قبل كل شيء إلى الواقع القائم في خضم النظام الرأسمالي والإمبريالي المعاصر .

 يعتبر بوش حاملا لواء صقور الرأسمال الإمبريالي العالمي والمدافع الأمين عن الإحتكارات الرأسمالية وعن اليمينية والليبرالية البرجوازية المنفلتة من عقالها والمغرقة في الرجعية والميالة إلى العدوان والتوسع .

 ليس بوش وحزبه إلا تجسيدا حيا لنزعة الرأسمال والبرجوازية الإمبريالية في عصرنا ونهجها في الهجوم المتواصل على الطبقة العاملة وقولبة حياتها ومكانتها وفق مصالح حفنة من الشركات والمؤسسات العملاقة .  كما إن بوش بسياساته ومغامراته يمثل رمزا للمسعى الإمبريالي العالمي في النزوع نحو الهيمنة على العالم وتجسيدا لنزعة العسكرتاريا ومدافعا عن سياسة البطش والتوسع والعدوان كما انه خادم أمين لتوق الإحتكارات الأمريكية في حشر أوربا في زاوية ضيقة وعدم تكرار أوجاع تجربة تعدد الأقطاب وكل ذلك عن طريق فرض هيمنة أمريكا وتسلطها على مقدرات العالم كالقطب الأوحد والوحيد .

 لقد فاز بوش على كيري بوصفه مدافعا أقوى وأرسخ وذو جدارة أكبر عن تلكم التوجهات السياسية والإقتصادية قبل كل شيء آخر حيث اصبحت تلك التوجهات هو المعيار وكذلك العقل المهيمن والتصورات السائدة والثقافة السياسية والفكرية الشائعة بين المواطن الأمريكي في الظرف الراهن . كما إنها ضريبة باهظة بات على البشرية الحرة دفعها حقا نتيجة لغياب ( بعبع ) الإشتراكية والشيوعية وضعفها في المعادلات العالمية الراهنة .

 إن الهيمنة الإقتصادية لأمريكا وضرورة عدم بروز منافسين أقوياء لها يتطلب حشر أوربا بشكل خاص في زاوية ضيقة وعلو يد أمريكا على الأصعدة السياسية والعسكرية وبقاء زمام المبادرة بيدها في مناطق الأزمات والتوتر العالمية . وما الصراع الجاري ، الخفي حينا والدائر في العلن تارة أخرى ، بين فرنسا وأمريكا إلا جزء من تجليات ذلك الصراع الأعمق والضرورات الجوهرية .

 ومقابل ذلك ترى أوربا الموحدة ترى نفسها غير ملزمة بقبول هيمنة أمريكا على مقدرات الرأسمالية العالمية والمجتمع الدولي مثلما كان يقبل به طوعا أثناء الحرب الباردة . كما يفسر ذلك أيضا أي المساعي الأمريكية الدائرة بشأن إخضاع أوربا للإصطفاف خلفها ، المحاولات الدؤوبة للأولى لإستغلال العتلة والعامل العسكري وحقيقة عسكرة العلاقات الدولية وتبني سياسة حافة الهاوية على الصعيد العالمي في ميادين الحرب على الإرهاب والحرب في العراق وأفغانستان والتي كانت كلها إنتصارات أمريكية بإمتياز على أوربا الموحدة بمعنى من المعاني التي لازالت تنادي في المقابل بالعودة إلى المؤسسات والشرعية الدولية .

 وفيما يخص الديمقراطيين فإنهم وإن كانوا على وئام مع الخطوط العامة للسياسة الأمريكية في ظل العهد الجمهوري إلا إنهم يؤكدون على تحقيق تلك الأهداف وفق سبل ووسائل قديمة كتلك التي تصر على سلوكها الدول الأوربية أيضا والتي يرى فيها الجمهوريون سبلا إنقضى عهدها ولاتلبي متطلبات المرحلة الراهنة والتحديات الجسام التي تواجه أمريكا المتلهفة للهيمنة القصوى .

 ولم يخفي جون كيري إمتعاضه من سياسة التفرد الأمريكي والتحليق بعيدا عن السرب العالمي وخاصة الأوربي ، تلك السياسة التي تنتهجها بوش وإدارته ، حيث أكد كيري مرارا أثناء حملته الإنتخابية على ضرورة العمل المشترك مع الحلفاء الأوربيين سواء في العراق أو في ميدان الحرب على الإرهاب على سبيل المثال .

 لقد عمل بوش وخاصة في ظل تعزيز مكانة محور المحافظين الأشرار القابعين في وزارة الدفاع وبعزم لا يلين على عكس ذلك أي بدون الأخذ بنظر الإعتبار مصالح وإرادة ورأي القوى العالمية الأخرى في المعسكر الرأسمالي ولم ير من حاجة لإعطائهم الإمتيازات المطلوبة كما لم يرى ضرورة ما للعودة إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمقررات الدولية بل وحتى المواثيق التي تعهد التمسك بها إزاء أوربا حيث أثبت بذلك نزوعه للتفرد والهيمنة اللامنازعة .

 إلا إن كل ذلك وبالرغم من أهميتها لن يأتي بالثمار المطلوبة وليس بوسعها تحقيق تلك الآمال المنشودة .

 فالإدارة الأمريكية تواجه إخفاقات متزايدة ومتعاقبة كما هو جار في العراق أو تخبطه في ميدان الحرب على القاعدة وإستمرار بل وتصاعد نشاط المنظمات الإرهابية الإسلامية .

 لقد إنتصرت الإدارة الأمريكية تحت قيادة بوش في حربها في العراق إلا إن مرارة الفشل بدأت بالتصاعد بعد أقل من شهرين من الإنتصار العسكري.

 ولم يكن فوز كيري وفشل بوش في حال حصوله يعني في ظل هذه الأوضاع بالنسبة لمراكز القوى السياسية في أمريكا سوى الإذعان بالفشل ولم يكن بمقدور الإحتكارات الرأسمالية الأمريكية المتحكمة بالحياة السياسية هناك قبول مرارة ذلك .

 كما إن إنتخاب بوش يمثل بذاته دفعة قوية لأجل التصدي للعجز الأمريكي على الساحة العالمية وخاصة في العراق .

  إلا إن ما عجز بوش وبطانته من تحقيقه خلال 4 سنوات يبين عقم تلك الستراتيجية بالرغم من الجيوش الجرارة وحشد الطاقات الهائلة للرأسمالية الأمريكية من أجلها .

 إن العالم الرأسمالي على أبواب تعميق أكبر للتناقضات سواء بين دولها أو كتلها أو وهذا هو الأهم بين طبقتيها الأساسيتين : العمال والرأسماليين .

ومن جهة أخرى فإن الذرائع التي تم دق طبول الحروب والحملات المتتالية على حياة العمال والكادحين تحت ظلها بدأت تسقط واحدة تلو الأخرى وبات العالم ينادي ملأ شدقيه بأن الديمقراطية والإستقرار والأمن والسلام وحقوق الإنسان لا تعني في القاموس الأمريكي سوى الحروب والدمار والعنف والقحط والفقر والتخلف و الرجعية السياسية ليس إلا وهذا ما يتجلى بأبشع صوره في أفغانستان والعراق وفلسطين .

 كما بات العالم أمام درس مهم أفرزه تجارب العقدين الماضيين على الصعيد العالمي ألا وهو : إن جبهة الرأسمال والإمبريالية العالمية بقيادة أمريكا بحروبها ونهبها للثروات وهيمنتها والفقر والجوع والتخلف الناجم عنها لا يمكن ردها والوقوف بوجهها سوى عن طريق جبهة تضامن عالمية أخرى ألا وهي جبهة الطبقة العاملة الأممية وكل القوى الساعية للتحرر الحقيقي تحت راية الإشتراكية ونهجها وحلها العملي المنشود .

                                                     نوفمبر 2004  

HOME