من ضحايا الفكر في تركيا

اسماعيل بيشكجي : نموذج العالم المنصف

   


د.جبار قادر

تعبر المواقف المبدئية الصلبة لعالم الأجتماع التركي الدكتور اسماعيل بيشكجي من قضية الشعب الكردي و حقوقه القومية المشروعة عن ظاهرة فريدة ليس في تركيا فقط ، بل وفي عموم منطقة الشرق الأوسط . فقد تحمل هذا الرجل بسبب مواقفه من قضية الشعب الكردي خلال العقود الأربعة الأخيرة ما لم يتحمله أحد من غير ابنائه. رغم أنه كان يعرف منذ البداية ما ينتظره بسبب ذلك، إلا انه تحدى سلطات بلاده وطرح مفهومه المغاير للقضية الكردية في تركيا .

اشتهرت الحكومات التركية بانتهاجها لسياسة معادية للكرد لمدة تزيد على قرن و نصف من الزمان. بدأ السلطان سليم الثالث (1779 - 1807 ) تلك السياسة عندما أخذ يخطط للقضاء على الأمارات الأقطاعية الكردية ، ونفذها من بعده كل من محمود الثاني (1808 - 1839 ) و عبدالمجيد (1839 - 1861) . تزامنت تلك السياسة مع تنامي النزعة المركزية لدى الباب العالي و محاولات فرض سلطتها على ارجاء الأمبراطورية المترامية الأطراف . وخطت تلك السياسة خطوات اخرى الى الأمام تحت ستار الجامعة الأسلامية على يد السلطان عبدالحميد الثاني (1876 - 1909 )،لتكتسب صبغة شوفينية مقيتة على ايدي رجال الأتحاد و الترقي، خصوصا اثناء تحكم الثلاثي الطوراني ( أنور، طلعت  وجمال ) بمقدرات الدولة العثمانية .

أما في العهد الجمهوري فان سياسة معاداة الكرد و محاولة صهرهم و ازالة وجودهم القومي فقد وصلت الى مستوى الأبادة الجماعية للجنس الكردي و محو كل يمت بصلة الى تراثه الثقافي و التاريخي. لازالت هذه السياسة الظالمة مستمرة بصيغ جديدة كي لا تبدو شاذة عن قيم العصر ومفاهيمه.

في هذا الجو الموبوء بالأفكار العنصرية و الشوفينية و مقت الآخرين برز العالم الدكتور اسماعيل بيشكجي ليعلن على الملأ ليس فقط تمرده على الآيديولوجية الرسمية التركية و المنظومة الفكرية المتحكمة بالمؤسسات العلمية و وسائل الأعلام ، بل ليكرس حياته كلها لأدانتها و محاولة نسف اسسها الآيديولوجية و فضح تطبيقاتها العملية بحق الشعب الكردي و الأقليات القومية و الدينية في تركيا . لقد اثبت الرجل على مدى العقود الماضية إخلاصه لقيم العلم و الحقيقة و استعداده اللامتناهي للتضحية في سبيلها، وهو القائل (ماأجمل العمل و النضال من اجل العلم و الحقيقة و التضحية في سبيل سيادتهما ) .

يعتبر بيشكجي احد اشهر سجناء الرأي في تركيا و العالم . فقد قضى اكثر من عشرين عاما في السجون و المعتقلات التركية و أصدرت المحاكم التركية بحقة احكاما وصلت الى اكثر من قرنين و غرامات مالية تجاوزت المليارات من الليرة التركية بسبب دفاعه عن حقوق الشعب الكردي و ادانته لسياسات الدولة التركية بحق هذا الشعب .

بدأت معاناة بيشكجي مع اول احتكاك له بالكرد في بداية الستينات و اكتشافه لعالم كان مجهولا لديه،حيث منع  الناس من الأطلاع على ذلك العالم وآماله وما يجري فيه . وكتب فيما بعد عن ذلك قائلا ( عندما وصلت الى جنوب شرقي تركيا شاهدت شعبا له لغة و تاريخا و تقاليد تختلف عما لدينا نحن الأتراك ، كما لا يحمل الأسم الذي نطلقه نحن الأتراك عليه ، فهو لا يسمي نفسه باتراك الجبال بل بالكرد). منذ ذلك الوقت كرس الرجل جهوده لدراسة واقع هذا الشعب و الدفاع عن حقوقه ، وكان على مدى العقود التالية اما ملاحقا من قبل الشرطة او ماثلا امام المحكمة او قابعا في الزنازين بسبب كتاب أصدره او مقال نشره او تصريح ادلى به الى وسيلة اعلام تركية او أجنبية مدافعا فيه عن الكرد و حقهم في تقرير مصيرهم ومدينا السياسات الأستعمارية  التركية في كوردستان .

من حق بيشكجي علينا ان نعرف القراء به و بجهوده العلمية و مواقفه الأنسانية ازاء الشعب الكردي و حقوقه القومية . ومن المفرح حقا ان الجماهير الكردية في تركيا و خارجها تقدر فضله و جهاده عاليا ، فقلما تجد بيتا كرديا في كوردستان تركيا أو في اوروبا يخلو من صورة له أو مكتبة تخلو من احد كتبه .

لقد ساعد بيشكجي بنضاله و تضحياته و جهوده العلمية الكبيرة عددا من الكتاب و المثقفين الأتراك للتخلص من أخطبوط المنظومة الفكرية الكمالية العنصرية ويروا الأشياء على حقيقتها وبدأ عدد هؤلاء يتزايد مع مرور الأيام   ويحذون حذوه و يكرسون اقلامهم للدفاع عن الحقيقة و القيم العلمية التي آمن بها كفكرت باشقايا، خلوق كركر، عائشة زاراكولو ، سرور تانيللي و وداد توركالي و كثيرون غيرهم.

رغم تنامي النزعات  العنصرية و الشوفينية في تركيا و المنطقة بسبب تسلط الأنظمة القمعية والدكتاتورية وسيادة الأوضاع السياسية و الأقتصادية و الأجتماعية البائسة والفشل التام لعمليات التحديث و غياب الديموقراطية ، ألا اننا نرى بأن عدد المثقفين المتنورين الذين يطالبون بحل القضية الكردية في تركيا في تنامي مستمر. ويؤكد هؤلاء بعكس ما يشيع عنهم الأعلام التركي ، إخلاصهم للأمة التركية و الخدمة الكبيرة التي يقدمونها لها من خلال تحريرها من العنصرية المقيتة وانقاذ القيم الأنسانية في تركيا وفتح الآفاق امام انتشار فكر انساني بعيد عن التعصب و الشوفينية . يؤكد بيشكجي بأنه ورفاقه يحاولون غسل العار الذي لحق بالفكر التركي خلال قرن كامل من الزمان .

إضطرت الأوساط التركية الحاكمة ازاء تنامي حركة هؤلاء و ضغوطات الأتحاد الأوروبي ان تعيد النظر في الكثير من الأجراءات القمعية و القوانين التي تحد من حرية الفكر ، كما اضطرت الى اطلاق سراح العديد من الكتاب و المثقفين ومن بينهم اسماعيل بيشكجي . تؤكد النخب التركية المتنورة بأن هذه الأجراءات الترقيعية غير كافية ولا يمكن لتركيا ان تزيل الصفحات السوداء من تاريخها إلا من خلال انقلاب جذري يستهدف أسس المنظومة الفكرية العنصرية الكمالية المتحكمة بالحياة السياسية و الثقافية و الأجتماعية التركية وبنخبها السياسية و الثقافية.

كتبت عن بيشكجي لأول مرة عام 1977 (1) بعد ان اطلعت على كتابه ( نظام شرق الأناضول الأجتماعي - الأسس الأجتماعية و الأقتصادية و الأثنية)(2)، واشرت اليه آنذاك بانه ( اول باحث تركي ينهج منهجا علميا لتحليل اوضاع كوردستان. فهو يحلل الوضع الأقتصادي و الأجتماعي من منطلق علمي بعيد عن الأساليب التركية المعتمدة، ويحاول جاهدا ان يشخص الأسباب الحقيقية للحالة المزرية للسكان الكرد . وقد توصل الى نتائج باهرة من شأنها المساعدة في رسم صورة واقعية لأوضاع الشعب الكردي في تركيا ). وكتبت عنه مرة اخرى عام 1985 مشيرا الى سيرته و جهوده العلمية و بخاصة كتابه المشار اليه اعلاه مع التأكيد على التزامه العلمي و إخلاصه للقيم العلمية وللحقيقة ورفضه الأنخراط في جوقة الكتبة و المؤرخين الرسميين للدولة التركية و الذين يحاولون على مدى قرن كامل ان يجعلوا من الكرد تركا دون نتيجة . واشرت في ذلك المقال الى انتقاداته القوية لأجراءات السلطات التركية بحق الشعب الكردي (3).

وغير خاف على احد أن الأوساط الحاكمة آنذاك في بغداد كانت تنفذ سياسة شبيهة بما قام بها الكماليون  بحق الشعب الكردي في العراق بوحشية اكبر وجوقة اشباه المؤرخين والكتبة الرسميين كانوا مشغولين بعقد المؤتمرات (العلمية) و (التاريخية) الصاخبة ونشر الدراسات عن (عروبة سيدنا آدم ) ر(عقد المقارنات بين صدام حسين و صلاح الدين الأيوبي) فضلا عن نشر مجلدات ضخمة حجما و الفارغة مضمونا عن (حضارة العراق) أو (العراق في التاريخ ) و (الصراع العربي -الفارسي) الخ القائمة المعروفة ، مع اهمال كامل لكل ما يتعلق بالشعب الكردي و تاريخه وتزييف الأحداث و الوقائع التاريخية لتتناغم مع التوجهات العنصرية و الفاشية البعثية . وكانت قوائم الكتب الممنوعة تنهال على المكتبات و كأنها قوائم (INDEX ) التي كانت تصدرها محاكم التفتيش في اوروبا خلال العصور الوسطى . وكانت هذه القوائم تضم اول ما تضم كتب التاريخ الكردي بدء ب (شرفنامة ) و انتهاء بالكتب التي صدرت خلال سني حكم البعث نفسه . الغريب أن تلك القوائم طالت مؤلفات عربية مشهورة و مهمة جدا مثل (مقدمة ابن خلدون ) لأنها حوت افكارا شعوبية حسب تقويم اشباه المؤرخين، فضلا عن امهات المصادر العربية الأصيلة. وهكذا كان الكتاب و (المؤرخين ) العراقيين مشغولين بإعادة انتاج ثقافة رفاقهم الكماليين و لكن باسفاف اكبر و سطحية اكثر اثارة للسخرية والأشمئزاز .

بعد كل هذه السنوات و بعد ان تحول اسماعيل بيشكجي الى ظاهرة  في الحياة الثقافية التركية و الكردية، ارى من الضروري أن اعود الى الحديث عنه و الأشارة الى جهوده العلمية و مواقفه المبدئية رغم انني مضطر الى الأعتراف بان مقالي هذا لا يمكن ان يعطي الرجل حقه و هو الذي اشتهر بغزارة انتاجه و سعة اهتماماته .

من الضروري ان تترجم كتاباته الى الكردية و العربية لكي يتمكن القراء الكرد و العرب الأطلاع عليها . من المفرح ان الدكتور زهير عبدالملك نشر ترجمة عربية لكتابه المهم (كوردستان مستعمرة دولية) (4). وكان هذا الكتاب الذي صدر اصلا بالتركية قد ترجم الى الألمانية ، الأسبانية ، الأنجليزية و الكردية و غيرها من اللغات . وكان  المرحوم شكور مصطفى قد ترجم كتاب بيشكجي (نظام شرق الأناضول ،الأسس الأجتماعية و الأقتصادية والأثنية)  الى العربية. كما ترجم آسوس هردي احد كتبه الى اللغة الكردية . كما ان هناك ترجمات منشورة لبعض مقالاته ولقاءاته الصحفية .

يتميز بيشكجي باصرار و عناد غريبين ولم تتمكن السلطات التركية رغم الأضطهاد والملاحقة والسجن والتجويع ان تجبره على السكوت او التخلي عن موقفه المؤيد للقضية الكردية . لقد بلغ مجموع الأحكام التي صدرت بحقه اكثر من قرنين و نصف قضى منها حوالي العشرين عاما. كما فرضت المحاكم غرامات مالية تجاوزت المليار ليرة تركية. واضطرت السلطات التركية مجبرة ان تخلي سبيله و تنصاع لأرادته الفولاذية. وكان جوابه على اسئلة الصحفيين حول خططه بعد كل مرة كان يخرج فيها من السجن او المحكمة هو (أنه سيعود الى الكتابة عن القضية الكردية و حقوق الشعب الكردي ) . وعندما حاول محاميه ان يثنيه عن اطلاق هذه التصريحات امام المحكمة التي خرج لتوه منها، كان يقول (هل اخطأت القول ياعزيزي ؟ انا سأظل اكتب و ادافع عن الحقيقة و لاشئ اجمل منها ومن العمل من اجل تحقيقها ).

وتتجسد صفات العلماء في شخص اسماعيل بيشكجي ، فرغم نشره لأكثر من ثلاثين كتابا و مئات الدراسات و المقالات و البحوث ورغم ان شهرته تجاوزت حدود تركيا منذ أمد طويل ، ألا انه اشتهر بتواضعه الجم ، فإنطبق عليه القول المأثور ( التواضع زينة العلماء ) . كما اشتهر بقلة حديثه الا عندما يتطلب الموقف الحديث . يروي احد النشطاء السياسيين الكرد ممن شاركوه الحياة في المعتقل، انه جئ به يوما والقي في الزنزانة ولم يكن يعرفه السجناء آنذاك شخصيا ، فبقي لأيام عديدة عند باب الزنزانة لضيق المكان ، لم يعره احد اهتمامه ولم يحاول هو ايضا ان يعرف بنفسه . ويقول الناشط السياسي بأنهم عرفوا عن طريق الصدفة فقط بأن هذا الملقى به عند الباب هو الدكتور اسماعيل بيشكجي الذي يدافع عن الكرد و حقوقهم ، عند ذلك هب جميع السجناء لتكريمه و تخصيص مكان يليق به في ظروف المعتقل . وكان يرفض دوما ان يقوم احد بتقديم خدمة له او القيام بعمل بدلا منه . وفي السجن أيضا كان يلقي على اليساريين الترك و الكرد دروسا في الوطنية الحقة و الثورية وينتقد المفاهيم الخاطئة التي جرى تربيتهم بها حول القوميات و حقوقها في ظل الأنظمة السياسية المختلفة .

كما عرف بيشكجي بعزة نفسه ، فهو اذ يدافع عن الحق لا ينتظر من احد جزاء و لا شكورا ، فقد رفض بكل ادب استلام مبلغ عشرة الاف دولار ارسلته احدى الجمعيات الأمريكية المدافعة عن حقوق الأنسان وسجناء الرأي . وقد نشرت الصحافة التركية في ربيع عام 1991 رسالته الجوابية الى تلك الجمعية شاكرا اياها ومعتذرا عن قبول المبلغ ومنتقدا في الوقت نفسه سياسات الدول الغربية في دعم الحكومةالتركية و صمتها ازاء الأنتهاكات الكبيرة لحقوق الأنسان في تركيا .

ولد اسماعيل بيشكجي عام 1939 في اسكيليب (Iskilip ) بولاية جوروم (Corum) .فيها اكمل دراسته الأبتدائية و الثانوية . ومن جامعة انقرة حصل على ليسانس في العلوم السياسية عام 1962. عمل بعدها لفترة قصيرة موظفا في الدوائر الحكومية. تعرف على الشعب الكردي خلال فترة خدمته العسكرية بين 1962 - 1964 في ولايتي بدليس و هكاري بكوردستان الشمالية ( كوردستان تركيا او ما يسمى في الأعلام الرسمي بجنوب شرق الأناضول ) . صدمه الواقع المأساوي لهذا العالم الجديد الذي إكتشفه و كرس منذ ذلك الوقت جل جهده الفكري و نشاطه العلمي لنصرة الكرد دارسا اوضاعهم و مدافعا عن حقوقهم القومية و الديموقراطية و خصوصيتهم الحضارية محاولا افهام المثقفين الأتراك الحقائق الناصعة التي ادركها و التي يتنكر لها الكثيرون في تركيا ودول المنطقة .

عين معيدا في قسم العلوم الأجتماعية بجامعة اتاتورك في ارضروم وذلك بعد انهاء خدمته العسكرية عام 1964 . انشغل باجراء دراسات ميدانية في كوردستان و بخاصة بين القبائل الكردية المتنقلة، وانتهى عام 1967 من اعداد اطروحته للدكتوراه ، وكانت عن التنظيم الأجتماعي لأحدى العشائر الكردية المتنقلة بين منطقة سيلفان وجبال نمرود .

شهدت مدن كوردستان في نفس العام مظاهرات احتجاجية و تجمعات جماهيرية كبرى ضد سياسات التمييز و الأهمال الحكومي للمنطقة و ضد سيادة الأجراءات البوليسية القمعية ضد مواطنيها . طالبت هذه التجمعات بفتح المدارس و المستشفيات بدلا من مراكز الشرطة و الجندرمة. شارك الشاب الثوري بيشكجي في هذه التجمعات بهمة ونشر كتابه الأول عن طبيعتها في نفس العام تحت عنوان ( تحليل تجمعات الشرق )(5 ). حاول في كتابه هذا تحليل المضامين الأجتماعية و السياسية و الأقتصادية لهذه التجمعات و كذلك الشعارات التي رفعتها الجماهير الكردية .وكانت تعبر في مجملها عن سخط الناس من الأوضاع المأساوية التي تسود كوردستان و حرمان الناس في هذه المناطق من الخدمات الصحية و التعليمية و الأجتماعية في الوقت الذي كانت تعاني من تخمة في عدد مراكز الشرطة و الأمن و الجندرمة و المحاكم .

و في العام التالي أصدر كتابا عن التحولات الأجتماعية عند قبائل الرحل الكردية في شرق الأناضول، أعقبه بدراسة عن التحولات و البنى الأجتماعية عند عشيرة عليكان الكردية في كوردستان (6). ضمن كتابيه هذين نتائج بحوثه و دراسته الأجتماعية الميدانية المهمة التي قضى سنوات طويلة للقيام بها بين العشائر الكردية المتنقلة في منطقة ارضروم أثناء إعداده لأطروحته للدكتوراه . ومن هنا تميزت دراساته بالعمق و الشمولية و عبر فيها عن الحقائق المعاشة بعيدا عن التزويق.لكن اهم مؤلفاته في هذه الفترة كان كتاب ( النظام الأجتماعي في شرق الأناضول : الأسس الأجتماعية و الأقتصادية و الأثنية ) الذي اشرنا اليه اعلاه. كان ترحيب القراء بالكتاب كبيرا، أذ نفذت طبعته الأولى خلال فترة قياسية، فقامت دار النشر بأصدار طبعة ثانية له في العام التالي . لكن موقف الأوساط التركية الحاكمة التركية كان على النقيض تماما ، فقد قررت فصله من جامعة أتاتورك بأرضروم التي كان يعمل فيها لأنه تجاوز المسموح به في تركيا .

لقد تضمن هذا الكتاب كما كبيرا من المعلومات و الحقائق العلمية عن الأوضاع الأجتماعية والأقتصادية والثقافية والسياسية في كوردستان فضلا عن الآثار المدمرة لسياسة التمييز والأهمال التي مارستها السلطات بحق الشعب الكردي على مدى نصف قرن تقريبا . وأظهر بيشكجي كيف ان الحكومات التركية المتعاقبة أخفت تلك  الحقائق المرعبة عن بقية مواطني تركيا ، كما كشف عن زيف ادعاءات الحكومة فيما يتعلق بسياساتها الهادفة الى تفكيك البنى الأقطاعية و القبلية في كوردستان . لقد اثبت بالأدلة القاطعة أن العكس هو الصحيح، أي ان الحكومة وفي لعبة مزدوجة ومفضوحة تعمل على ترسيخ وتقوية نفوذ الأقطاعيين والزعماء القبليين الكرد على حساب الجماهير الكردية العريضة.

يمكن القول بأن ظهور هذا الكتاب أشر بداية عهد جديد لدراسة أوضاع الكرد في تركيا. فقد رسم المؤلف استنادا الى الحقائق الواردة في الأحصائيات الرسمية الحكومية وتلك الخاصة بالمؤسسات الأقتصادية والتعليمية والصحية ، فضلا عن أخبار ومعطيات الصحافة التركية والمعلومات الغنية التي جمعها خلال دراساته الميدانية في كوردستان ، رسم صورة واقعية للأوضاع الأجتماعية و الأقتصادية و الثقافية في كوردستان الشمالية. وإعتبر الحكومة التركية مسؤولة مباشرة عن تلك الحالة المزرية التي كان السكان الكرد يعيشون في ظلها ، مدينا سياستها في اهمال المنطقة الكردية وابقائها في حالة من التخلف الشديد على جميع الأصعدة . كما شخص النتائج المترتبة على تلك السياسات و التي ادت الى تأجيج المشاعر القومية الكردية و تنامي النشاط السياسي الكردي في المرحلة التالية . فعندما لم تستجب الحكومة الى المطالب المشروعة للكرد تأزمت الأوضاع وبلغت مرحلة الصدام المسلح .

وفي بداية عام 1971 بدأ بيشكجي العمل أستاذا بكلية العلوم السياسية في جامعة انقرة ، الا انه لم يستمر في عمله الجديد سوى شهورا معدودة لأنه تعرض الى السجن في نفس العام . فبعد إنقلاب 12 آذار 1971 المعروف بانقلاب المذكرة ، قدمت حكومة سليمان ديميريل استقالتها بمجرد ان قدم الجنرالات مذكرة هددوا فيها بالسيطرة على مقاليد الأمور اذا اخفقت الحكومة في وضع حد لتنامي قوى اليسار و الحركة القومية الكردية . لقد اثار التقارب بين اليسار التركي و الحركة القومية الكردية بخاصة بعد اتخاذ حزب العمل التركي لموقفه المعروف في مؤتمره الرابع من الحقوق الكردية المشروعة ، مخاوف الجنرالات و القوى اليمينية المتطرفة التي تحركت بسرعة لقطع الطريق على هذا المنحى (الخطير) للأحداث برأيها.وأشارت المصادر المختلفة في حينها الى ان عملية الأنقلاب كانت مسرحية متفق عليها بين رئيس الوزراء سليمان ديميريل وقادة الجيش التركي لقمع الحركة الكردية واليسارية .

سرعان ماقامت الحكومة الجديدة التي شكلها نهاد ايريم باعلان الأحكام العرفية في اسطنبول و دياربكر وسيرت و جرى اعتقال الآلآف من النشطاء السياسيين . كان نصيب بيشكجي من خيرات الحكومة الأنقلابية ثلاث سنوات قضاها في السجون و المعتقلات التركية . أطلق سراحه مع عدد آخر من سجناء الرأي بموجب عفو صدر عام 1974 ولكن جامعة انقرة رفضت اعادته الى وظيفته ، فقرر بدروه تركها الى الأبد والقيام بدراساته بعيدا عن المؤسسات التعليمية و التربوية التي تسودها الآيديولوجية الرسمية. كما قرر التصدي للفلسفة التربوية والتعليمية التي  تعتمدها هذه المؤسسات العاملة وفق المبادئ الكمالية ، والتي شكلت الأطار العام للنشاط الثقافي والعلمي في تركيا.

كرس بيشكجي منذ ذلك الوقت طاقاته الفكرية الخلاقة لنسف الأسس الهشة التي قامت عليها المنظومة الفكرية الكمالية و تطبيقاتها في تركيا . وهنا ايضا احتل الموضوع الكردي الحيز الأكبر من اهتماماته و مشروعه الفكري الكبير.

فقد أصدر كتابه الأول ضمن هذا المشروع تحت عنوان (منهج العلم ) عام 1976 (7) ، أعقبه بخمسة كتب أخرى ضمن سلسلة التطبيقات التركية للمنهج العلمي ، خصص الكتاب الأول منها لمسألة (الأسكان الأجباري للكرد) و التي أعتمدتها الحكومات التركية منذ بداية الثلاثينات لتوزيع السكان الكرد على مناطق البلاد المختلفة ، بطريقة لا تتجاوز نسبتهم 10 % من مجموع سكان أية قرية او قصبة او مدينة. لقد قامت  جمية (KOMAL ) الكردية ، والتي كانت تضم في صفوفها عددا من الكتاب و المثقفين و السياسيين الكرد في أسطنبول بنشر هذا الكتاب (8). صودر الكتاب و أحيل كاتبه الى المحكمة . حمل الكتاب الثاني من هذه السلسلة عنوان ( الأطروحة التركية في التاريخ : نظرية اللغة - الشمس و المسألة الكردية ) ونشر ايضا عام 1977 من قبل نفس الجمعية (9). وصودر الكتاب الثاني ايضا و احيل مؤلفه مرة اخرى الى المحكمة . نشر الباحث الكردي حميد بوزارسلان تأملاته في اراء بيشكجي المنشورة في كتابه هذا مع قراءة معمقة لمضامين الأطروحات الرسمية التركية  في مجلة (دراسات كردية ) التي كان يصدرها المعهد الكردي في باريس (10).ورغم غرابة و سوريالية هاتين النظريتين على حد تعبير حميد بوزأرسلان، فقد تمت بلورتهما و الدفاع عنهما خلال حقبة الثلاثينات من خلال المؤتمرات والعديد من المنشورات التي كانت تصدرها المؤسسات (العلمية) التركية. حددت النظريتان المذكورتان رؤية النخب الثقافية التركية نحو العالم لأكثر من عشرين سنة وتركت آثارا واضحة على عقلية الأجيال الصاعدة . وتتلخص النظريتان في ان العنصر التركي يشكل المصدر الأصل في جميع حضارات العالم و في ان اللغة التركية هي أم اللغات .

من الواضح جدا ان هاتان النظريتان تأسستا على بناء هش ولم يكن بالأمكان فرضها على الأوساط الفكرية التركية الا بالقمع و منع كل محاولة لنقدها و تفنيدها لأنها من بنات فكر الزعيم الأوحد المعصوم من الخطأ . وكان الشرط  الأساسي في فرض هذه الأفكار السقيمة واستمرار سيادتها وجود دولة قوية وقائد ملهم .

أعقب بيشكجي كتابه هذا بمؤلف آخر ضمن نفس السلسلة تحت عنوان ( برنامج فرقة الشعب الجمهوري 1927 و المسالة الكردية)(11). من المعروف أن التنظيم السياسي الكمالي الذي كان يعرف سابقا بفرقة الشعب الجمهوري تحول في هذا المؤتمر الى حزب سياسي له برنامج و نظام داخلي و حمل اسم حزب الشعب الجمهوري . كما جرى في هذا المؤتمر تحديد ركائز سياسة الدولة التركية. الأخطر من هذا و ذاك هو ترسيخ دكتاتورية مصطفى كمال من خلال دمج الدولة بالحزب في مؤسسة واحدة تربع على قمة الهرم فيها الزعيم الأوحد. كانت خطة قمع الشعب الكردي ومحاولة صهره في بودقة الأمة التركية من ابرز سمات تلك السياسة. لقد حاول حزب الشعب الجمهوري خلال العقدين التاليين تنفيذ مفردات تلك السياسة بوحشية وقسوة فريدتين .

وكان الكتاب الرابع ضمن هذه السلسلة مكرسا للحديث عن مأساة درسيم وحمل عنوان (قانون تونجلي 1935 و الأبادة الجماعية في درسيم ) . جرت مصادرة مسودات هذا الكتاب في المطبعة و أعلن عن ضياعها ، وجاء انقلاب 12 ايلول 1980 ليؤخر طبع الكتاب حتى عام 1990 (12). لقد سبق الكماليون بعقود رفاقهم البعثيين في العراق وسورية في مسألة تغيير اسماء الأقاليم و المدن و القصبات الكردية و فرض التسميات التركية عليها ، ومن هنا كان استبدالهم لدرسيم بتونجلي . وكان استخدام بيشكجي للتسمية الأصلية (درسيم ) تحديا للتابوات التركية على مدى عقود عديدة . لقد حلل في كتابه هذا القانون الخاص الذي اصدره (البرلمان التركي ) للقضاء على الكرد الزازا او العلويين في درسيم والذين عرفوا بشجاعتهم ورفضهم الخنوع للسلطات الحكومية عثمانية كانت ام كمالية . اقامت الحكومة ادارة خاصة في منطقة درسيم و منحت القائمين على تنفيذ السياسات الحكومية في قمع وتشتيت الكرد العلويين صلاحيات مطلقة. لقد عاثت هذه الأدارة في الأرض فسادا و تجاوزت مظالمها كل الحدود الأمرالذي دفع بيشكجي الى ان يسميها بسياسة الجينوسايد (الأبادة الجماعية ) . 

أما الكتاب الأخير ضمن سلسلة تطبيقات المنهج العلمي في تركيا فقد حمل هذا العنوان المعبر ( ثلاث وثلاثون طلقة في حادثة جنرال موله) و نشر عام 1990 (13). يحلل بيشكجي في هذا الكتاب الخلفيات الفكرية والتربوية لتلك الحادثة المروعة التي قام خلالها ضابط تركي كمالي من منطقة موله بإطلاق النار وبدم بارد على القرويين الكرد في قرية على الحدود التركية - الأيرانية عام 1943 وكانت نتيجتها مقتل ثلاث و ثلاثين منهم على ايدي هذا الضابط الكمالي الفاشي . تمكن أحد القرويين الجرحى الذي بقي على قيد الحياة ان يهرب الى شرق كوردستان و ينقل خبر هذه المذبحة الى خارج الأسوار التركية قبل ان يسلم الروح هناك . نشر فيما بعد احد الكتاب الشباب الكرد كتابا عن الحادث حصل عنه على جائزة الكتاب الألمان .تناول بيشكجي هذا الحادث المروع ليغوص الى اعماق الشخصية العنصرية التركية و يحلل كيف يمكن لمجرم عات في دولة مثل تركيا ان ينفذ هذه الجريمة و تقوم الدولة بإخفاء تفاصيلها عن العالم المتحضر .

ونشر بيشكجي مؤلفا اخر صب في الأتجاه نفسه ، نقصد به اتجاه السلسلة المشار اليها اعلاه تحت عنوان (العلم - الآيديولوجية الرسمية - الدولة - الديموقراطية و المسألة الكردية ) في عام 1990 (14). يؤشر بيشكجي في كتابه هذا غياب حرية الرأي التي كانت تسود تركيا عشية صدور الكتاب . و يؤكد حقيقة معروفة تتلخص في أن الحرية الفكرية تؤدي دوما الى إثراء و اغناء المجتمع فكريا و ثقافيا و فنيا و بعكس ذلك فإن الركود سيكون سيد الموقف . ويحلل عالمنا المفاهيم التي عنون بها كتابه مؤكدا ان ما يقدم في تركيا على انه علم ليس الا آيديولوجية رسمية غير قابلة للنقد و الطعن ، الأمر الذي ادى الى ركود فكري و ثقافي وفني معيب . وينتقد من خلال نصوص مقتبسة من الخطاب الكمالي السائد في المؤسسات العلمية التركية هذه المؤسسات و مناهجها القاصرة. كما يتهمها بالأنصياع للآيديولوجية الرسمية و ابتعادها عن المنهج العلمي. كما حاول تفكيك التصورات التركية بشأن القضية الكردية في تركيا وخارجها فاضحا التطبيقات البشعة لهذه الآيديولوجيا بحق الشعب الكردي . وفضح التعاون التركي البعثي ضد الشعب الكردي خلال الثمانينات عندما قام البعث بمجازره الوحشية في حلبجة و الأنفالات، إذ يشير الى انزعاج الحكومة التركية من الأنتقادات الموجهة الى نظام صدام حسين بسبب سياساته الدموية ضد كرد العراق.  كما يشير الى الخلفية التاريخية للقضية الكردية في العهدين العثماني و الكمالي مؤكدا قيام المؤسسات الرسمية بتزييف الحقائق التاريخية و دور وسائل الأعلام في نقل المفاهيم المزيفة الى الجماهير العريضة. ويمكن القول بأن دراسات بيشكجي هذه هزت ركائز المنظومة الفكرية الكمالية بحق الكرد و حقوقهم القومية المشروعة، فقد ناقش فيها بصبر و عناد و بمنهجية علمية الطروحات الكمالية للزعماء السياسيين الترك حكاما ومعارضين مع تجليات تلك الأقوال في دراسات الأكاديميين الأتراك و وسائل الأعلام التركية المقروءة و المسموعة والمرئية مبرزا عنصريتها و غربتها عن روح العصر وكل الشعارات الكاذبة التي ترفعها تلك الأطراف عن الديموقراطية والوطنية والمنهج العلمي و حقوق الأنسان و غيرها . وإعتبرت دار نشر روشن التي نشرت الكتاب على انه جزء مكمل لكتاب بيشكجي المشهور (كوردستان مستعمرة دولية) (15)، الذي أحدث صدوره صدمة ليس في معسكر الأوساط الحاكمة و القوى المرتبطة بها فحسب ، بل على صعيد القوى اليسارية و الديموقراطية التركية و الكردية أيضا. فقد ناضلت هذه القوى جنبا الى جنب و إعتبرت كوردستان جزءا لا يتجزأ من الكيانات السياسية القائمة و الحركة القومية الكردية جزءا من الحركة الوطنية في هذه البلدان . لذلك صدمتها فكرة بيشكجي المركزية في الكتاب و التي تقول (لا يماثل الوضع السياسي في كوردستان و ضع المستعمرات ، كما لا يماثل الوضع في أشباه المستعمرات ، فهو ادنى حتى من مستوى المستعمرة . وللشعب الكردي وضع لا يماثل وضع الشعب المستعمر . فالوضع السياسي لكوردستان وللشعب الكردي ادنى بفارق كبير من وضع المستعمرات . إذ ليس لكوردستان وضع سياسي محدد ، كما لا تتمتع بأية هوية سياسية. والكرد شعب يريدون له ان ينحط الى مستوى العبودية و تدمر هويته . وبكلمة اوضح يراد له ان يختفي من سطح الأرض و يختفي من الوجود . غير ان الشعب الكردي لا يقبل بهذا الوضع أو بالأحرى يرفض هذا الوضع الذي اقحمته فيه منذ الربع الأول من القرن العشرين الدول الأمبريالية و المتعاونون معها في الشرق الأدنى )(16).

حاول بيشكجي بشجاعة نادرة إتصف بها تحديد هوية الكرد و كوردستان و تحويلها الى مستعمرة مشتركة بين الدول الدكتاتورية في الشرق الأدنى رافضا إعتبار الكرد اقلية قومية . وركز وهو محق في ذلك على مرحلة حاسمة في التاريخ الكردي أي السنوات 1915 - 1925 التي شهدت استعباد الأمة الكردية و تقطيع أوصال كوردستان الذي إعتبره جوهر القضية الكردية. وتناول مفردات السياسات القمعية التي انتهجتها هذه الدول و بخاصة تركيا التي نعت سياستها بحق الشعب الكردي بإرهاب الدولة ويورد كما هائلا من المعلومات و الحقائق التي لا يمكن عرضها في هذه العجالة . لقد ترجم الكتاب الى العديد من اللغات الأوروبية و الشرقية .

قضى بيشكجي بسبب كتاباته هذه سنوات طويلة وراء القضبان قبل ان تعرف منظمات حقوق الأنسان الدولية به و بنضالاته و جهوده .ولكن ذلك لم ينل من ارادته الحديدية بل واصل نضاله من خلال البحث و التدقيق في الأوضاع الكردية و السياسات الحكومية التركية. لقد وجه نقده الشديد الى الأكاديميين و المثقفين الترك لأنهم يتحملون برأيه مسؤولية اخلاقية كبيرة ازاء كشف الحقائق لشعبهم . ولم يبخل على المثقفين الكرد بانتقاداته ، اذ كشف عن مواقفهم الأنهزامية و الكوسموبوليتية تحت ستار الأممية الكاذبة و الثورة العالمية وغيرها من التبريرات .   يبدو ان عام 1990 شهد نشر أو اعادة نشر اكثر كتب بيشكجي .ويبدو ان حالة الأنفراج النسبي للأوضاع السياسية في عهد تورغوت اويزال ساهم في توفير الفرصة لنشر كتبه . فقد أصدر الى جانب المؤلفات التي اشرنا اليها  في ذلك العام كتابا اخرا تحت عنوان  ( مثقف - منظمة و المسألة الكردية ) (17). خصص بيشكجي كتابه هذا لمناقشة الآفكار الواردة في كتاب الكاتب التركي المعروف عزيز نسين ( اتراك بلغاريا و اكراد تركيا ) . إعتبر تلك الآراء   افكارا لا تخرج عن اطار الآيديولوجية الكمالية . وكانت العلاقات قد توترت بين بيشكجي و عزيز نسين بسبب اشارات الأخير في مذكراته الى بيشكجي بطريقة غير ودية، اذ فسر انتقادات بيشكجي لأتحاد الكتاب الأتراك في مؤتمره الرابع بسبب مواقفه اللامبدئية ازاء قضية الشعب الكردي ، انتقادا شخصيا له باعتباره رئيسا للأتحاد بل ولم يتردد في ان يتهم بيشكجي بالتطرف و ناكر الجميل وحتى العميل . بالمقابل وصف بيشكجي عزيز نسين بانه كاتب كمالي ولامبدئي و مهتم بمصالحه الشخصية فقط .

وضمن كتابه (تأملات حول المثقف الكردي ) ، الذي صدر عام 1991 ، افكاره عن الكتاب الكرد و طرائق تفكيرهم و تحركاتهم (18). وقد انتقد العديد من هؤلاء وبخاصة الذين كانوا يتشدقون بالأممية ورفع الشعارات الرنانة واعتبر ذلك نوعا من الهروب من المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقهم ازاء شعبهم . فقد اكد بأن هؤلاء عندما يتحدثون عن الأممية و الماركسية و يطالبون بالدفاع عن ثورات العالم لا يتعرضون الى عشر معشار ما يتعرض اليه الكردي الذي يطالب بالحديث باللغة الكردية او ضرورة الأعتراف بالوجود الكردي في تركيا حتى ولو كان من منطلق   الأخوة التركية - الكردية ، واعتبر مثل اولئك الكتاب أناسا منقطعين عن هموم شعبهم و لا يخدعون إلا انفسهم.

كما نشر سلسلة اخرى من الكتب و الدراسات مثل (الأرهاب في الشرق الأوسط ) ، (شروط الأنتفاضة) ، (الدفاع) ، (رسالة الى يونسكو)، ( أطردوا خوف مراكز الجندرمة من رؤوسكم ) وغيرها من الكتب، فضلا عن مئات المقالات و الدراسات التي نشرها في المجلات و الجرائد التركية.وتشكل القضية الكردية و الدفاع عن حقوق الشعب الكردي و حركته التحررية وادانة سياسات الدولة التركية في كوردستان موضوعاتها الأساسية .

وتسببت رسائله الى كتاب العالم و لقاءاته الصحفية في مثوله امام المحاكم و قضائه سنينا طويلة وراء القضبان .   فقد مثل عام 1981 امام المحكمة بسبب رسالة كان قد ارسلها عام 1980 من سجن طوب طاش الى رئيس اتحاد كتاب سويسرا . وقضى بسبب تلك الرسالة الى جانب دعاوي اخرى ست سنوات في السجن . كما مثل مرة اخرى عام 1989 امام المحكمة بسبب لقاء اجرته معه مجلة (المستقبل الحر ) التركية وكان حينها في السجن . رغم انه برئ من قبل المحكمة هذه المرة، الا انه سرعان ما أودع السجن بسبب كتابيه (كوردستان مستعمرة دولية ) و (مثقف .منظمة و المسألة الكردية ) الذين منعا وصودرت نسخهما في المطبعة .

جرى تكريمه من قبل الكتاب و المثقفين الكرد عندما أنتخبوه رئيسا للمعهد الكردي في اذار 1992 في اسطنبول . ولكنه تعرض من جديد الى الملاحقة و التوقيف و المثول امام المحاكم . وقد انشغل في التسعينات بتأليف مجموعة  من الكتب عن الكرد و القضية الكردية للدفاع عن نفسه امام المحكمة و لتوضيح موقفه و سبب دفاعه عن الشعب الكردي .

إضطرت السلطات التركية أخيرا الى اطلاق سراحه بموجب الأصلاحات القانونية وتحسين أوضاع حقوق الأنسان وحرية الرأي التي فرضها الأتحاد الأوروبي على تركيا لكي تكون مؤهلة لبدء مفاوضات العضوية معها .

لا يمكن أن يعرض المرء صورة كاملة لأنجازات بيشكجي الفكرية في مقال كهذا ، فقد تميز الرجل بغزارة نتاجه العلمي و الفكري . نشير هنا الى بعض افكاره التي تجسد نظرته الى القضية الكردية وحق الكرد في تقرير مصيرهم و طريقة تناوله للسياسات الحكومية ازاء الشعب الكردي و تركيزه على فكرة تفكيك  الآيديولوجية الرسمية التي يعمل في اطارها الكتاب و المثقفون و اساتذة الجامعات و وسائل الأعلام التركية ولم يتحرر من أخطبوتها كليا حتى اليساريون الترك و الكرد على حد سواء . سأشير الى آراء بيشكجي هذه بنصوص مقتبسة من كتاباته وسأضعها بين مزدوجين لتمييزها عن تعليقات و توضيحات كاتب هذه السطور .

بدءا القضية الكردية ليست مسألة اقلية قومية عند بيشكجي ( فالكرد ليسوا باقلية، فهم يعيشون في وطنهم وعلى ارضهم . وهم السكان الأصليون لهذه البلاد ، ولم يأتوا الى كوردستان من منطقة اخرى، على العكس من ذلك لم يصل الأتراك الى الأناضول الا في القرن الحادي عشر الميلادي . فالكرد ينتمون شأن العرب و الفرس الى السكان الأصليين في منطقة الشرق الأدنى ) ، لذلك فأن جوهر قضيتهم يكمن برأيه في حقيقة(أن الأمة الكردية و بلادها كوردستان قد قسمت و ووزعت من قبل الدول الأمبريالية و اعوانها في الشرق الأدنى. لقد سلبوا الأمة الكردية حقها في تأسيس دولتها الوطنية المستقلة) . ومن هنا يطالب بيشكجي بضرورة تأكيد (حق الكرد الكامل في تقرير مصيرهم بانفسهم ). و يتساءل (لماذا يجب ان يدير الأتراك و العرب و الفرس كوردستان ؟) . ويجيب بنفسه عن هذا التساءل قائلا ( ان ادارة الكرد لأنفسهم مسألة جد طبيعية و لائقة بهم ، وأسوأ ادارة كردية افضل من احسن ادارة استعمارية و عنصرية و فاشية) . كما لم تعد القضية الكردية برأيه مسألة داخلية تعني أنظمة دكتاتورية محددة ، بل على الكرد ان يخرجوا قضيتهم الى الساحة الدولية و من المهم ان تتدخل الدول و المنظمات العالمية لحماية الكرد من الحملات الدموية التي يتعرضون اليها . ويهزأ بيشكجي من اولئك الذين ينصبون من انفسهم وكلاء للحديث نيابة عن الشعب الكردي و تحديد ما يحتاجه هذا الشعب وماهو جيد له وما يجب ان يمنح، اذ يقول بهذا الصدد ( لا يحتاج الكرد الى تحليلات هذا الفيلسوف او ذاك للتدليل على حقيقة ما تعرضوا له او  التخطيط لمستقبلهم ، لأن الكرد كابدوا الظلم و الأضطهاد و تعرضوا للتدمير الثقافي و المادي والروحي وهم اكثر الناس قدرة على وصف احوالهم ومايحتاجون اليه . أفضل الحلول للقضية الكردية في اطار الدول المحتلة ليس حلا يرضي الكرد ، لأنه لا يعيد الحق الى نصابه و لا يزيل الغبن الذي لحق بهم من جراء تقطيع اوصال بلادهم) . إذن أساس المشكلة عند بيشكجي هو تجزئة وتقسيم كوردستان و شعبها و الحل الوحيد هو اعادة الأمور الى نصابها و اصلاح خطأ التاريخ .

يدين بيشكجي السياسات التركية بحق الشعب الكردي و يؤكد ان كوردستان مستعمرة و اكثر من مستعمرة ، وقد فصل في هذا الموضوع في مؤلفه الذي حمل ذلك العنوان المعبر ( كوردستان مستعمرة دولية ) . ومما يقوله بيشكجي بهذا الصدد (إن كوردستان ليست فقط مستعمرة بل اكثر من ذلك ،اذ يجري هناك التطاول على العرض و الشرف. ليس الشرف مصطلحا علميا و انما اخلاقيا . لا يمكن للمصطلحات العلمية و لا عن طريق المنهج العلمي التعبير عن الام وعذابات المجتمع الكردي ، لأن الكلمات و المصطلحات قاصرة عن التعبير عن الحالة) . فالمستعمرات احتفظت بأسمائها وكانت حدودها معروفة ومعترف بها حتى من الدولة المستعمرة التي لم تحاول ازالة تلك الأسماء وفرض اسماء جديدة كما يجري الحال في كوردستان التي تجري محاولات مستميتة و عنصرية لفرض تسميات من قبيل

( جنوب شرق الأناضول ،  شمال العراق ،  شمال غرب ايران أو اذربايجان الغربية و عيلام في ايران أو منطقة شمال الجزيرة في سوريا) . كل ذلك من اجل عدم ذكر كلمة كوردستان . عندما حصلت المستعمرات على استقلالها من الدول الكولونيالية حملت أسمائها التاريخية الا بلاد الكرد التي حرمت حتى من هوية و وضع مستعمرة.  يواصل بيشكجي كلامه قائلا ( لا وجود بتاتا لحقوق الأنسان في كوردستان . فالأدارة قائمة هناك على اساس الأوامر التعسفية القسرية والأبعاد و مراقبة الناس و سياسة المنع وفرض الأحكام . لا تمثل الأدارة الأستعمارية التركية الشعب الكردي . ان الدولة التركية دولة استعمارية و وضع الكرد اسوأ و اقسى من وضع شعب خاضع للأحتلال الأجنبي . فالتعامل معهم لا يجري على اساس التعامل مع شعب مستعمر . وتديم الدولة التركية سيطرتها على كوردستان عن طريق الدعم الذي تحصل عليه من الدول الأستعمارية و التي تجهز تركيا بأحدث الأسلحة و التجهيزات و الذخائر والتي تستخدم ضد شعب اعزل و مستعبد).

بطبيعة الحال كل ما يقوله بيشكجي عن الدولة التركية و سياساتها ازاء كوردستان و الشعب الكردي تنطبق  مفرداتها كليا مع سياسات الدول الأخرى المحتلة لكوردستان مع فوارق بسيطة كفرض التعريب و التفريس بدلا من التتريك و إستخدم الأسلحة الكيمياوية ضد المدنيين العزل و لا احد يجروء هناك على التحدث عن الكرد و حقوقهم ومستعد للتضحية في سبيلها كبيشكجي .

يدين بيشكجي بشدة سياسة الدولة التركية العنصرية و يعتبرها اكثر عنصرية من اي نظام آخر في العالم ، إذ يقول ( تركيا هي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط  و منطقة البلقان التي لا تعترف بوجود شعب . وفي باب انكار الشعوب و حقوقها فان تركيا معلمة ورائدة في العنصرية ، هل هناك في العالم عنصرية توازي العنصرية التركية؟.  انها اكثر رجعية و وحشية و تدميرا من عنصرية جنوب افريقيا ). وفي اشارته الى نظام التمييز العنصري في جنوب افريقيا يؤكد على ان هذا النظام يفصل بين البيض و السود و لكنه لا ينكر وجود الأخيرين . في حين لا تعترف تركيا بوجود الكرد لا كشعب و لا كمواطنين حتى من الدرجة الثانية، بل تعمل على صهرهم قسرا و منعهم من الأحتفاظ بلغتهم و ثقافتهم القومية. ويتعمق في وصفه للعنصرية التركية قائلا (فالعنصرية التركية لا تشبه العنصرية التي وجدت في الولايات المتحدة الأمريكية أو جنوب افريقيا ، بأن يجري الفصل بين الأجناس على مستوى الحي السكني و المدارس و المقاهي أو ساحل البحر، إذ ان للعنصرية التركية وجه اخر ، فهي تستهدف تدمير الثقافة الكردية باستخدام عنف الدولة ، وبأن تفرض على الكرد الثقافة التركية و لغتها . انهم يريدون انكار وجود اللغة و الأمة الكردية ، وهم يعتبرون جميع السكان اتراكا . ان العالم لم يشهد نظيرا لهذا النوع من العنصرية ، انها اكثر تدميرا و تخلفا من السياسة الرجعية في جنوب افريقيا ، انها عنصر ملازم للأستعمار التركي في كوردستان ). ويعتبر بيشكجي الأستعمار التركي ابشع انواع الأستعمار اذ يقول( لو كانت كوردستان تخضع لسيطرة استعمار اخر مثل الأستعمار البريطاني لكانت قد تحررت منذ امد طويل، ولم تقم اية قوة استعمارية اخرى بذلك التدمير الذي قامت به المؤسسات التركية ، لأن الأستعمار التركي تطاول على كل القيم الكردية ومقومات الأنسان الكردي وداس على كرامة الأنسان الكردي ودمر شخصيته. لم تقم اية قوة استعمارية اخرى في العالم بمثل هذه الأعمال كلما ادرك الكرد هذه الحقائق بوضوح اكبر ازدادت قذارة الأمبريالية التركية بكل قبحها و بشاعتها ) . ويستهزئ بيشكجي من مسرحيات الأحتفالات السنوية بذكرى تحرير مدن ما يسمونه بجنوب شرق الأناضول من الأحتلال الأجنبي خلال حرب الأستقلال 1919 - 1922 و يعتبرها ضحكا على ذقون الناس (  لأن كوردستان لم تتحرر بعد بل وقعت تحت سيطرة عدو جديد هو العدو التركي ، والأنكى ان العدو الجديد اكثر وحشية ودموية من المحتلين السابقين ) .

ويجري بيشكجي مقارنة موضوعية بين الوضعين الكردي و الفلسطيني فيقول(توجد في الشرق الأدنى فوارق كبيرة جدا بين حالة فلسطين و حالة كوردستان . فالكرد محاطون بدول معادية و يتوجب عليهم الدفاع عن وجودهم في وضع يشبه الجحيم ، اما الفلسطينيون فهم محاطون بدول صديقة او تدعي ذلك على الأقل. ولايوجد لفلسطين سوى عدو واحد هو اسرائيل . اما اسرائيل فأعداؤها ليسوا الفلسطينين وحدهم بل 42 بلدا اسلاميا منها 22 دولة عربية بامكان الفلسطينين الذين يخوضون الكفاح ضد اسرائيل ان يعتمدوا باستمرار على الدعم المادي و المعنوي للبلدان العربية بينما الدول المجاورة للكرد معادية لهم و متحالفة فيما بينها لقمع الحركة الوطنية الكردية ) . ويشير بيشكجي بهذا الصدد الى عوامل أخرى اقتصادية و استراتيجية تساعد على تزايد عدد اعداء الكرد وأصدقاء مستعبديهم . من سخرية القدر ان الثروات الطبيعية في كوردستان تلعب الدور الحاسم في كسب الأصدقاء من قبل الدول المحتلة لكوردستان .

الأنكى من كل ذلك وفي الوقت الذي تخلصت المستعمرات الأخرى من الأحتلال الأجنبي و نالت استقلالها فإن الحل الذي فرض على الشعب الكردي أريد له ان يكون حلا ازليا ، يقول بيشكجي بهذا الصدد ( اما بالنسبة للكرد فان الحل الذي فرض عليهم حل نهائي ، اذ يراد للأمة الكردية ان تبقى الى الأبد دون هوية و في وضع العبيد مقسمة و مجزأة و مشتتة ... وحدث لكوردستان عند تجزئتها ان اخطرت الدول التي تستغل كوردستان بصفتها مستعمرة مشتركة الى التعاون فيما بينها حتى تحمي مصالحها).

ويدين بيشكجي اولئك الذين يمارسون العنصرية بحق الكرد و يعودون لينعتوا الكرد بالشوفينية ،اذ يقول في هذا المجال(ثمة وسيلة اخرى استخدمها الكماليون لكي يحجبوا ما يفعلونه بالكرد و هي نعت الأخيرين بالعنصرية. اما الأساليب التي يمارسونها في تحريم اللغة و الثقافة الكردية، واجبار الكرد على تعلم اللغة التركية واخضاعهم لعملية الصهر و التتريك بطريقة وحشية و تغيير أسماء الأشخاص و المواقع الكردية الى مسميات تركية و فرض غرامات على كل من يتحدث بالكردية و القضاء على الشعب الكردي و ثقافته القومية، فان كل ذلك يعتبر من وجهة نظر الكماليين اساليب ثورية و اصلاحات ديموقراطية . وإذا ماطالب الكرد بحقوقهم ونظموا انفسهم لتحقيق ذلك ، فأنهم سيوصمون بالشوفينية . بينما عندما يفعل اتراك بلغاريا ذات الشئ فان عملهم يعتبر فعلا تقدميا مكافحا ضد العنصرية و الفاشية و تتصاعد الأصوات لأدانة الممارسات اللاانسانية في بلغاريا ) . 

وردا على اتهام الكرد بالأنفصالية و الخيانة الوطنية التي كثيرا ما توجهها الأوساط الفاشية التركية والعربية والفارسية الى الشعب الكردي وحركاته يؤكد بيشكجي على سفاهة هذه التهمة لأن ( الكرد لا يريدون تجزئة وطن الأتراك:تركيا، بل يدافعون عن وطنهم كوردستان و يحمونها من المحتلين و يطالبون بتحرير بلادهم التي قطعت اوصالها وحولت الى مستعمرة بين الدول ) . اما عن (خيانة الوطن ) فالمسألة موضوعة برأيه بطريقة معكوسة لأن (الكرد يدافعون عن وطنهم و يعملون على تحريره من السيطرة الأستعمارية لذلك فهم وطنيون . هناك بطبيعة الحال عملاء و خونة في كوردستان يتعاملون مع السلطات الأستعمارية التركية لخلط الأورواق و تزييف الحقائق ، الا ان الأنسان يستطيع تمييز الأبيض من الأسود و تصبح الأمور مع الأيام اكثر وضوحا ) .

ويسخر بيشكجي من السياسة الرسمية التي منت النفس ولعقود طويلة بانها صهرت الكرد و قبرت قضيتهم (الى الأبد). ولكن الأحداث اثبتت ان الكرد لم ينصهروا و لم يكن بالأمكان ان ينصهروا (فالذين حافظوا على كرديتهم  واجهوا الدولة و مخططاتها و الذين تعرضوا للصهر بدأوا يتساءلون من المسؤول عن عدم معرفتهم للغتهم الأم و من المسؤول عن تتريكهم . وهؤلاء كان عداؤهم أشد للدولة الأستعمارية التركية،كما ان استعدادهم للنضال و التضحية في سبيل قضية شعبهم اكبر . وبذلك فشلت سياسة الدولة التركية فشلا ذريعا و على جميع الأصعدة ).

بقي بيشكجي كعالم متضلع متفائلا بمستقبل الشعب الكردي ولم تنل منه الأنتكاسات المؤقتة لهذا الشعب الذي يقاتل ضد الأنظمة الأستعمارية و يتطلع الى موقع يليق به بين شعوب العالم المتحضر . ومن هنا يطالب الرأي العام الديموقراطي و الثوري التركي و العالمي بدعم المقاومة الكوردية .

وكيساري عنيد ينتقد بيشكجي مواقف القوى اليسارية التركية و العربية و الأيرانية المندفعة للتضامن مع شعوب العالم أجمع باستثناء الشعب الكردي ، لذلك يؤكد على الثوريين الكرد ( ان لا يأخذوا بالتعريفات و التحليلات  اليسارية التركية لقضايا الشعوب و الأمم المضطهدة، بل يجب ان يكون لهم تصورهم الخاص بالأمة والقومية والنضال . فما يحتاجه الكرد اليوم ليس الفكر الماركسي - اللينيني بل الشعور القومي الكردي، والحركة القومية الكردية حركة مناضلة تدافع عن الشعب الكردي و تهدف الى كسب نفس الحقوق التي يتمتع بها الأتراك والعرب والفرس لذلك فانها حركة ديموقراطية ومعادية للعنصرية و العدوانية والأحتلال الأستعماري ).

المعروف ان اليسار التركي شأنه شأن الحركات اليسارية الأخرى في المنطقة كانت تدعو الكرد دائما للنضال معا من اجل الأشتراكية و تأجيل القضية الكردية الى ما بعد انتصار الأشتراكية ، واي تحرك مستقل من جانب الثوريين الكرد من اجل كسب حقوقهم كان ينعت بالأنعزال القومي و الأنفصالية و العشائرية وغيرها من النعوت الجائرة و الجاهزة . وهنا يسمي بيشكجي الأشياء بأسمائها الحقيقية فيقول ( ان الثوريين الترك لم يتحرروا من اخطبوط  الأيديولوجية الكمالية الرسمية ، لذلك على الثوريين الكرد ان يفكروا في المسائل المطروحة بطريقة كوردية ويختاروا الأساليب المناسبة لهم ويخططوا بأنفسهم لبناء مستقبلهم لأنهم ادرى الناس بما اصابهم من ضرر جراء السياسات التركية الأستعمارية ).

ويدعوا الكرد الى التمسك باللغة الكردية و التراث الكردي و يسخر من المثقفين و السياسيين الكرد الذين يبررون تحدثهم بالتركية بكونهم (أممين ) . فالأممية لا تعني التحدث بالتركية و اعطاء الأبناء اسماء أصلان و جنكيز، و يدعوهم الى مقاطعة اللغة التركية كما فعل غاندي عندما دعا الهنود الى مقاطعة اللغة الأنجليزية . وعن الكرد الذين يهربون من واقع شعبهم ويخفون انفسهم وراء الشعارات الثورية والأممية الكاذبة يقول بيشكجي ( بصدد هؤلاء انا افكر بهذه الطريقة، هؤلاء الذين يتنكرون لكرديتهم يعرفون كيف يعامل الكردي ، لذلك يزعمون تمسكهم بالأممية و اليسارية ، وتعاملهم المحاكم على انهم امميون . وهكذا فإنهم يحاولون ان يضربوا عصفورين بحجر واحد . فمن جهة يعدون انفسهم اكثر ثورية و من جهة اخرى يدفعون ثمنا أقل ، لأن الكردي المتمسك بكرديته و المطالب بحقوقه القومية و الأنسانية هو الذي يعذب في السجون و المعتقلات ). ويوصم بيشكجي هؤلاء باللاثورية لأن الأنسان ( البعيد عن الام شعبه لا يمكن ان يكون ثوريا حقيقيا ، والأنسان الذي لا يعرف مفردات حياة شعبه ولا يناضل من اجل وضع حد لآلامه لايمكن ان يكون ثوريا صلبا ولن يفيد في شئ دعمه لنضالات الشعوب الأخرى). و التحدث بالتركية من قبل الثوري الكردي يعني له (التفكير في القضية الكردية بطريقة تركية). وهو القائل (يستطيع الكردي في تركيا ان يتمتع بالحريات العامة و بالمساواة شريطة انكاره لهويته القومية وبإمكان الكردي الذي ينكر انتمائه القومي و الذي يصبح تركيا ، ويعلن عن سعادته بكونه تركيا ، بامكانه ان يحصل على كل مايريد أما اذا اصر على كرديته و طالب بحقوقه القومية فإن ما ينتظره هو الملاحقة او السجن . ومن يتنكر لهويته القومية يقبل بالعبودية و الأستلاب . والأنسان المستعبد و المستلب الشخصية يتحول الى كائن فزع و عدواني و سيوجه عدوانه دون ادنى شك نحو اقرب الناس اليه ) .ولدينا أمثلة لا تعد و لاتحصى عن هذا النوع من الكائنات البشرية .

العنصرية التركية أوصلت كوردستان الى حالة لا انسانية على حد تعبير بيشكجي ،اذ يقول ( انه سلوك عنصري عندما يكون تطبيق العدالة و حقوق الأنسان و الحرية مرتبط باكراه المرء على التنكر لهويته القومية ، وهو سلوك رجعي يهدف الى ابادة الجنس البشري . ومثل هذا الأكراه هو الذي يجعل من كوردستان في وضع ادنى حتى من وضع المستعمرة ) ومن هنا و للرد على السياسات العنصرية التركية يؤكد على ضرورة التمسك باللغة الكردية لأنها ( واحدة من اكثر اللغات التي تعرضت لمحاولات المحو من قبل المستعمرين الذين حاولوا بكل الوسائل ازالتها من الوجود ). كما يدعو الكرد الى عدم الأخذ بالتسميات التركية للقرى و القصبات الكردية . كما هو معروف فإن الحكومات التركية المتعاقبة عملت على مدى عقود من الزمن على تغيير اسماء القرى و القصبات الكردية الى اسماء تركية. يصر بيشكجي على التشبث بكل ما يمت الى الثقافة الكردية. فإجادة الغناء بالكردية و الدبكات الشعبية الكردية واستخدام الالات الموسيقية الكردية والأهتمام بالتراث الثقافي الكردي تعرقل برأيه سياسة التتريك التي تنتهجها الحكومة التركية بحق الشعب الكردي .

ويشير بيشكجي الى مسألة اخرى اراها جديرة بوقفة تأمل.فالمعروف ان العديد من المؤرخين و المستشرقين يؤكدون على الحس القومي العالي لدى الكرد و يعتبرونه احيانا من بين الأسباب الرئيسة في تأزم القضية الكردية . أعتقد ان المسألة نسبية ، فبالمقارنة مع شعوب اخرى في المنطقة خاضعة للسيطرة الأجنبية يمكن ان يكون الكرد ذا حس قومي حاد ، ولكن بالمقارنة مع الشعوب التي تعرضت الى ماتعرض له الكرد من مجازر و كوارث ،نستطيع القول بأننا لا نملك ذاكرة تاريخية قوية . وهنا يتهمنا بيشكجي وهو محق في ذلك ( بأن الكرد يعانون من ضعف في الشعور القومي و الألتصاق بالأرض الكردية ) ، ويشير بهذا الصدد الى مثال معبر رواه له احد اصدقائه . تقول الرواية ان احد الآثاريين الفرنسيين ذهب الى افريقيا لأجراء دراسات اثارية و عندما اراد ان يأخذ معه بعض الآثار المنقوشة على الأشجار واجه موقفا متشددا من السكان و حذروه من ان يمس شيئا من ( أحجار و تراب و جذوع الأشجار لأنهم ورثوها من ابائهم و اجدادهم و تشكل تراثهم ) . وبعد فترة من الزمن ذهب نفس الآثاري في مهمة علمية الى كوردستان ليجري دراسات عند منابع دجلة و الفرات ، الكرد ساعدوه كما هو ديدنهم و وضعوا كل ما يملكلونه من اثار ومنحوتات بين يديه ومن بينها احجار ثمينة واواني فخارية منقوشة ليأخذها كهدية معه رافضين قبول اثمانها . وبعد ان قارن الآثاري الفرنسي بين الموقفين اشار الى انه يعتقد ان الشعور القومي والوطني لدى الكرد ضعيف .فقد قدموا له ما يملكونه ولم يتخوفوا او يدركوا ان بلادهم ستفقد بذلك هذه الكنوز التي تشكل جزءا من ماضيهم التاريخي . هناك الأمثلة بالمئات عن نهب آثارنا و كنوزنا الثقافية على ايدي اللصوص المحليين و الأوروبيين .

ويشير بيشكجي وهو محق في ذلك ايضا الى انه عندما يجري الحديث عن الشعور القومي ( يجب التذكير بالأرمن دائما .فقد تعرضوا الى مجازر بشعة ولكنهم لم ينسوا للحظة واحدة تلك المجازر . في حين ينسى الكرد المظالم و حتى المجازر التي وقعت لهم و لاتزال ترتكب بحقهم بسرعة غريبة) . يتذكر الأرمن سنويا ضحايا المجازر الوحشية التي نفذتها بحقهم حكومة الأتحاد و الترقي و لازالت حكومة جمهورية ارمينيا و الجاليات الأرمنية في المنافي المختلفة تعمل من اجل الحصول على الأعتراف العالمي بتلك المجازر و ادانة تركيا بسببها و تحميلها الآثار القانونية و الأقتصادية و الأخلاقية المترتبة عليها .

رغم الحالة المأساوية التي يعيشها الكرد الا ان بيشكجي متفائل بمستقبل الكرد ، فكوردستان تشهد على حد تعبيره ( عملية تحول متسارع . كما تشهد بإطراد توسع نطاق العمل السياسي .بدأ الكرد وبخاصة منذ الثمانينات يطرحون اسئلة محددة تتعلق بهويتهم القومية و تاريخهم و جوانب الضعف في موقفهم والتي سهلت استخدام سياسة فرق تسد ضدهم، ولماذا لم يحققوا الأهداف التي كافحوا من اجلها طويلا. من المستحيل إدارة مجتمع في حالة تغير بهذه السرعة ، ويطرح ابناؤه اسئلة تتعلق بماضيهم و حاضرهم ، باستخدام ايديولوجية رسمية متحجرة لم تتغير و لا تتسم بأية مرونة و لا تخدم سوى ارهاب الدولة . و يمكننا اختصار الوضع الكوردستاني بالصيغة التالية : لم تعد كوردستان كما كانت سابقا . وإن الأمة الكردية لم تعد تلك الطاقة الخامدة التي يسهل تسخيرها بمزاعم اساطير عظمة الأتراك وبأن التركي الواحد يعادل العالم اجمع وبدعاوي جبروت الجيش والشرطة و الجندرمة الأتراك. لم يعد الكرد ضعفاء كما كانوا ، ويشهد عصرنا الحاضر يقظة فكرهم و وعيهم القومي . وتستلزم ولادة الوعي القومي ولادة الوعي السياسي والأجتماعي والأقتصادي . لقد تخلص وعي الشعب الكردي من ملامح السذاجة و الجهل و التواني ). (18).

هذا غيض من فيض ما كتبه و نشره هذا العالم التركي المنصف. من المفرح ان رفاق بيشكجي في تزايد بين الأتراك و العرب و الشعوب الأخرى . هناك في المقابل عدد كبير من حملة الخطاب الفاشي التركي والعربي والفارسي الموجه ضد الأمة الكردية و حقوقها المشروعة و يصم صراخ هؤلاء وزعيقهم الآذان من شاشات الفضائيات ، لكن الخلود سيكون حتما لخطاب بيشكجي ورفاقه و ستستقر نتاجات الأقلام الفاشية و العنصرية في مزبلة التاريخ .            

المصادر و الهوامش : 

          1. جبار قادر، الحركة القومية الكردية في تركيا بين الحربين العالميتين، اطروحة دكتوراه غير منشورة، موسكو 1977. ص 9 (بالروسية ).

           2.   Ismail Besikci, Dogu Anadolu’nun Duzeni, sosyo-ekonomik ve etnik temelleri, Istanbul 1969.

3. د.جبار قادر ، حول المصادر التركي للتاريخ الكردي ، مجلة ( روشنبيري نوى) العدد 106 ، بغداد 1985 . ص 180-181 (بالكردية ).

4. اسماعيل بيشكجي ، كردستان مستعمرة دولية ، ترجمة زهير عبدالملك ، دار APEC ستوكهولم 1998.

5. Ismail Besikci, Dogu Mitingleri’nin Analiz, Erzurum 1967

  6.   Ismail Besikci, Dogu Anadolu’de Gocebe Kurt Asiretlerinde Toplumsal Degisme, Erzurum 1968: Dogu’de Degisim ve Yapisal Sorunler (Gocebe Alikan Asirreti) , Istanbul 1969.

  7.   Ismail Besikci, Bilim Yontemi, Istanbul 1976.

  8.   Ismail Besikci, Bilim Yontemi , Turkiye’deki Uygulama I , Kurtlerin Mecburi Iskani , Istanbul 1977.

  9.   Ismail Besikci, Bilim Yontemi, Turkiye’deki Uygulama II , Turk Tarih Tezi , Gunes - Dil teorisi ve Kurt Sorunu , Istanbul 1978.

10. حميد بوزارسلان ، حول الأطروحة التركية في التاريخ ، مجلة - دراسات كردية - العدد3-7 ، السنة الثامنة ، باريس 1992 ، ص 31-46.

11. Ismail Besikci, Bilim Yontemi Turkiyede’ki Uygulama III , Cumhuriyrt Halk Firkasi’nin Tuzugu (1927) Ve Kurt Sorunu , Istanbul 1978.

12. Ismail Besikci, Bilim Yontemi Turkiyede’ki Uygulama IV, Tunceli Kanunu (1935 ) Ve Dersim Jenosidi , Bonn 1991.

13. Ismail Besikci, Bilim Yontemi Turkiyede’ki Uygulama V, Muglali Olayi Otuzuc Kursun, Istanbul 1991.

14. Ismail Besikci, Bilim - Resmi Ideoloji - Devlet - Demokrasi Ve Kurt Sorunu, Bonn 1990.

15. Ismail Besikci, Devletlerarasi Somurge : Kurdistan, Istanbul 1990.

16. Ismail Besikci, Ayni Eser, S.10                    أنظر كذلك الطبعة العربية : اسماعيل بيشكجي ، كوردستان مستعمرة دولية ، ترجمة زهير عبدالملك ، ستوكهولم 1998 . ص 23 .

17. Ismail Besikci, Bir Aydin, Bir Orgut ve Kurt Sorunu , Istanbul 1990.

18. النصوص الواردة في متن المقال مقتبسة بشكل رئيسي من : أسماعيل بيشكجي ، كوردستان مستعمرة دولية ومن العديد من اللقاءات الصحفية التي اجريت معه ومنها :لقاء مطول أجرته معه صحيفة (سرخوبون ) الكردية في 29 نوفمبر 1990.