الدستور
التركي و سياسة قهر الأكراد
د.جبار قادر
تمارس الجمهورية التركية منذ قيامها عام 1923 سياسة في غاية العنصرية تجاه الشعب الكردي في هذه البلاد و تنتهج في تعاملها مع مواطنيها الكرد أساليب أقل ما يقال عنها أنها لا إنسانية. تواصل الحكومات التي تعاقبت على دست الحكم تلك السياسات مستندة على مايبدو على التراث القمعي لسلاطين آل عثمان و الإتحاديين و لكن بوحشية أشد و بأساليب أكثر تفننا و تدميرا . الغريب أن المؤسسات التركية كلها إنغمست في هذه العلمية لتؤدي باندفاع و إصرار غريبين الأدوار الموكولة اليها على هذا الطريق . فالجيش التركي كان و لا يزال يقمع الكرد و حركاتهم و يدمر قراهم و مزارعهم، والمجلس الوطني الكبير (البرلمان) يصدر القوانين و القرارات المعادية للكرد و الهادفة الى صهرهم و إزالة وجودهم القومي . وتقوم المدارس و المؤسسات التعليمية و التربوية الأخرى بدورها بفرض اللغة و الثقافة التركيتين و تعمل كل ما في وسعها على إزالة أي أثر للكرد و بلادهم في اذهان الأطفال ، فارضة أن يرددوا كل صباح الأناشيد التي تمجد الأمة التركية و الجيش و (أبو ) الأتراك و غيره من (عظماء) الترك على مر التاريخ البشري من أمثال أتيلا وهولاكو وجنكيزخان و تيمورلنك و غيرهم من مدمري الحضارات الأنسانية . كما تفرض عليهم أن يرددوا كل صباح الجملة القبيحة ( كم سعيد انا كوني تركيا - Ne mutlu Turkum diyene ) التي ابتكرها مصطفى كمال و وسائل الإعلام التركية التي لا هم لها سوى تمجيد الترك و بطولاتهم عبر التاريخ و إنتصار جيوشهم الجرارة على مدى الأرض الممتدة من اسوار فيينا حتى سور الصين العظيم . ولا يجد المرء ضرورة للتفصيل في الجهود الكبيرة التي بذلتها المؤسسات (العلمية التركية !) كمجامع اللغة والتاريخ التركيين في إقرار و تثبيت (نظرية اللغة - الشمس ) التي تؤكد على ان اصل اللغات جميعها هي اللغة التركية و اقدم شعوب الأرض قاطبة هم الأتراك . تزامنا مع ذلك يجري بطبيعة الحال تشويه و تزييف الحقائق المتعلقة بالتراث الثقافي الكردي و بالأخص تاريخ الشعب الكردي و اللغة الكردية . في ظل هذه الأجواء العنصرية كرس الدستور (قانونيا) سياسة قهر الكرد و اهدار حقوقهم القومية و الأنسانية . بدء لابد أن نشير الى أن تجارب التاريخ القريب تؤكد بما لا يقبل الشك بأنه ليس كل ما يدون في الدستور يجري الإلتزام به من قبل الدول و الحكومات، فدساتير دول الشرق الأوسط و حتى تلك التي تسودها اكثر الأنظمة دكتاتورية و همجية و غربة عن المجتمع الإنساني تفيض (حرية و ديموقراطية ) ، حتى يخيل للمرء أن سكان تلك البلاد يعيشون في مدينة فأرابي الفاضلة أو جزيرة توماس مور اليوتوبية (الطوباوية ) . ولكن واقع الحال يشير الى صورة مناقضة لذلك تماما ، حيث يتعرض المواطن الى مسخ إنسانيته و هدر كرامته و يتحول الى فرد في (الرعية) لا واجب له الا تمجيد ( الراعي ) و ارضاء غروره و اهوائه الغريبة . وشلة المنافقين و الباحثين عن الكسب الرخيص من الكتبة الرسميين و اشباه المؤرخين لا هم لهم الا التسبيح باسماء الأقزام من الحكام و الأعوان. بدأت التوجهات الشوفينية للكماليين منذ وقت مبكر جدا . فبعد طرد الأجانب من البلاد و انتفاء الحاجة الى دعم الكرد، اظهروا وجههم الحقيقي و انكروا وجود الكرد و انتهجوا سياسة معادية للأخيرين. وقد صورت جريدة (فارليك-Varlik) التي كان الجيش التركي يصدرها في مدينة ارضروم هذه التوجهات في مقال لها في ايلول من عام 1923 ، أي حتى قبل إعلان الجمهورية، عندما كتبت تقول ( لا يوجد في الواقع قوم باسم الكرد ، بل هناك اتراك استقروا في المناطق الجبلية شرق البلاد و الذين بسبب جهلهم التاريخي يحملون هذه التسمية المعيبة "الكرد "، كل من يعيش في حدود تركيا بغض النظر عن المعتقد الديني و الأفكار السياسية يعد تركيا. رغم كل هذه المعطيات التاريخية هناك اناس يسمون اخوتنا الأتراك هناك بالأكراد . فقد تأكد تاريخيا بأن الأتراك الذين يعيشون في الجبال الشرقية و الذين يسميهم البعض خطأ بالكرد ليسوا في الواقع الا اتراكا . وما يتعلق بالفروقات التي تميز هؤلاء الأخوة عنا فان تفسيره يكمن في انهم قبل قرون عديدة و بسبب هجرة الشعوب إضطروا الى الإستقرار في هذه المناطق الجبلية و أصبحوا بذلك منقطعين و معزولين عن الأمة التركية و متميزين من الناحية اللغوية . ولكن العناصر المشتركة في خلق الأمة تسبق المصالح القبلية و اللغوية و الدينية و لا يمكن لاختلاف اللغة ان يضعف وحدتنا التاريخية . والان و بفضل النظام الجمهوري فان الشعب سيتطور ذهنيا و سيزول هذا الفرق الجزئي و تتنامى الروابط القومية اكثر فاكثر . واذا عدنا الى كتب التاريخ العام لن نجد احدا من المؤرخين يشير الى شعب باسم الأكراد ، فاخوتنا الذين يسمون كردا هم في الحقيقة أتراك ) (1) . يتضمن هذا النص الطويل كما كبيرا من التشويه و المغالطات التاريخية التي يعرفها كل من له المام بسيط بتاريخ المنطقة و لعل في مقدمتها أن الكرد سكنوا هذه المواطن قبل قدوم الترك اليها بأكثر من ألفي عام على أقل تقدير، لذلك فإنها لا تستحق حتى الرد عليها. تأتي أهمية النص من حقيقة كونه صادرا من الجيش الذي حقق الإنتصار على المحتلين الأجانب و أخذ يتحكم بزمام الأمور في البلاد من خلال مصطفى كمال و عصمت اينونو و رفاقهما. ومن هنا فان المقولات الواردة فيه شكلت الإطار العام للسياسات اللاحقة بحق الكرد سواء على الصعيد العملي السياسي أو النظري ( العلمي ) ، فقد ردد العديد من رجالات الدولة و الأحزاب السياسية على مدى العقود التالية هذه المقولات بصيغة او بأخرى ، كما تبنتها الأدبيات التركية في حقول المعرفة المختلفة. فقد ورد في دائرة المعارف التركية - Hayat Ansiklopedisi عن الكرد مايلي ( اكثرية الاكراد في تركيا تعيش مثلنا نحن الأتراك و يتحدثون باللغة التركية و لا نجد سببا لان نعتبرهم باي حال من الأحوال منتمين الى أمة أخرى ) . كما ردد الساسة الأتراك و على مدى العقود الماضية هذه المفاهيم و الآراء . فقد أكد على سبيل المثال لا الحصر وزير (العدل ) التركي و أحد المقربين من مصطفىكمال و كان بالمناسبة أستاذا في القانون و نقصد به محمود أسعد بوزكورت امام ناخبيه في مدينة اوديمش قائلا ( نحن نعيش في اكثر بلدان العالم ديموقراطية، أقصد تركيا. التركي هو السيد و صاحب الحق الوحيد في هذه البلاد ، اما الذين لا ينتمون الى العرق التركي النقي فلهم حق واحد و هو ان يكونوا خدما و عبيدا . دع الصديق و العدو يعرفان هذه الحقيقة و دع الجبال تعرفها أيضا ) (2) . هذا الكلام لوزير العدل في اكثر بلدان العالم ( ديموقراطية ) و في بلد لا زال يضم من بين سكانها و فق الإحصائيات الرسمية إثنتان وثلاثون قومية و أقلية قومية و دينية . من الجدير بالذكر ان الصحافة التركية و على مدى القرن الماضي كانت زاخرة بمثل هذه المقولات و التصريحات و يمكن ايراد كم كبير منها على سبيل المثال . و لابد أن نشير الى مسألة أخرى اجدها ضرورية في هذا الباب ، فان هذه الآراء لم تكن بنات يومها و ذهبت مع الأحداث التي إرتبطت بها، بل انها تمثل سياسة مستمرة و لا تزال تتحكم بعقول شريحة واسعة من السياسيين الترك. كما أن هذه الآراء و الأفكار تسود أوساط المثقفين و الصحفيين الأتراك الذين تلقوا على مدى العقود الطويلة تربية سياسية تقوم على كراهية الآخر و بخاصة الكرد. واذا ماحاول أحدهم أن يتمرد على هذه الأفكار أو يطعن فيها فانه يتهم بالخيانة و يلقى به في غياهب السجون ، ويمثل عالم الإجتماع التركي الدكتور اسماعيل بيشكجي نموذجا حيا و مثالا صارخا على هذه الحقيقة المرة . و تجني الأوساط الحاكمة التركية الان ثمار ما زرعتها في اذهان الأطفال و الشبيبة التركية من مفاهيم عنصرية و مقت للاخرين . وتجد تلك الأوساط حاليا صعوبة كبيرة في تبني سياسات واقعية ازاء القضية الكردية كجزء من متطلبات العضوية في الأتحاد الأوروبي، إذ يتهم كل من يبدي المرونة إزاء الكرد بالخيانة و تهديد وحدة البلاد و الأمة التركية من قبل الجنرالات و القوى السياسية الشوفينية و العنصرية المتطرفة . رغم التطورات الكبيرة التي شهدتها تركيا على مختلف الأصعدة في السنوات الأخيرة إلا أننا يجب ان لا نستبعد كليا الإنقلابات العسكرية و حتى التصفيات الجسدية و الإغتيالات بحق الخارجين على السياسة الرسمية العنصرية . و للدلالة على ذلك نشير الى بعض الأمثلة المعبرة التي تظهر أن السياسة الرسمية التركية لازالت تقوم على مبدأ نفي وجود الكرد أو وجود قضية كردية في البلاد ، رغم الإعترافات الخجولة خلال السنوات الأخيرة بهدف إقناع الأتحاد الأوروبي و محاولة الأنسجام مع معايير كوبنهاغن . لقد أثار إقرار رئيس الوزراء التركي مؤخرا بوجود (مسألة كردية ) في تركيا و ضرورة التصدي لحلها ثورة من الغضب و الإحتجاج من لدن الجنرالات و القوى القومية المتطرفة . في حين أغلقت جريدة (Yeni Gundem ) لأنها أشارت قبل سنوات الى وجود مشكلة كردية في تركيا. وقدم مطرب تركي مشهور الى المحاكمة بتهمة الغناء باللغة الكردية خارج تركيا . أما مجلة ( 200e dogru ) فقد منعت لأنها اشارت الى حقيقة تاريخية مفادها أن مصطفى كمال وعد الكرد بمنحهم الحقوق القومية اثناء مقارعة الإحتلال الأجنبي للبلاد . لقد أعتبر كلام المجلة (عملا من شأنه اضعاف الشعور الوطني و القومي لدى المواطنين ) ، وجرى تغيير اسماء حوالي 80% من القرى الكردية الى اسماء تركية بموجب المعلومات التي اوردتها الصحافة التركية في منتصف الثمانينات . و الغريب أن هذا العمل جرى تحت شعار ( حماية الأمن و الإستقرار في البلاد ) . وهكذا لم تتغير الأفكار المعادية للكرد و بقيت الآيديولوجية الرسمية كما هي على حد تعبير الرئيس السابق لتحرير جريدة ( Ozgur Gundem ) (3 ). يصعب على المرء أن يستمع في بداية الألفية الثالثة الى تعريفات السياسيين الترك للقومية و الأمة و تحليلاتهم حولها ،إذ يقول بولنت أجويد مثلا ( عندما نقول الشعب التركي فاننا لا نعني بذلك فقط الاشخاص الذين ينتمون الى العرق التركي بل نقصد الأتراك و الأكراد و العرب و الشركس و كل من يدخل ضمن الشعب التركي ). و حجته في ذلك مثيرة للسخرية و هو عدم وجود عرق نقي في عصرنا الراهن ، ولكن ذلك لا ينفي وجود أمة تركية أو إنجليزية أو فرنسية … الخ . لعل إعتراف أجويد أخيرا بأصوله الكردية يفسر تبنيه لهذا التعريف الغريب للقومية و الأمة. أما وصف زعيم الفاشية التركية ألب أصلان توركيش للكرد فلا مثيل له ، إذ يقول ( بقدر ما هم اكراد فنحن أكراد أيضا و بقدر ما نحن أتراك فهم أتراك أيضا )(4) . الأنكى من كل ذلك فإن هؤلاء (الاتراك) التي حاولت الأوساط التركية الحاكمة على مدى قرن كامل اقناع الناس بتركيتهم و بذلت المؤسسات ( العلمية ) التركية (جهودا) كبيرة لأثبات ذلك، يجري التعامل معهم على اسس غير تلك التي يعامل على أساسها الأتراك ، فالوطني الكردي الشهير الدكتور محمد نوري درسيمي يروي حادثة معبرة في هذا الباب . يقول درسيمي بأنه لجأ الى المحكمة ليشكي والي درسيم دلي (المجنون ) فخري الذي كان ينغص على الناس حياتهم ، و استند في شكواه الى بنود القانون الأساسي للجمهورية التركية.لكن الحاكم سخر منه و خاطبه قائلا (حتى أنت بموجب الدستور تعتبر تركيا ، ولكن في الحقيقة انت لا تختلف عن اي اجنبي … يجب عليك ان تعرف هذه الحقيقة و تعرف بانه اثناء الترشيح لاصغر وظيفة ادارية تقوم ادارة امن الدولة بالتحقيق في شخصية المرشح و هويته ، هل هو كردي أم تركي ) (5 ) . مثلت السلطات التركية نموذجا صارخا لعدم الالتزام بالدستور و قوانين البلاد و بخاصة في سياساتها تجاه الشعب الكردي ، فقد كان قانون درسيم ( Tunceli kanunu )، الذي صدر عام 1935 و بقي ساري المفعول حتى عام 1946 ، قانونا يناقض بنود الدستور التركي جملة و تفصيلا ، مع ذلك لم يعترض احد من النواب و بخاصة ال57 بروفيسورا من أعضاء المجلس . وكان اغلب هؤلاء اساتذة في القانون و العلوم السياسية و الأقتصاد و التاريخ. فقد منح هذا القانون صلاحيات غير محدودة للمفتش العام و الولاة و القادة العسكريين في هذه المنطقة الكردية كإلقاء القبض على الاشخاص و توجيه التهم اليهم و محاكمتهم و اصدار احكام الاعدام بحقهم و تنفيذها . كما حرم القانون المتهمين من حقوقهم الاساسية كحق الدفاع و إستئناف الأحكام، لأن احكام المحكمة كانت قطعية و غير قابلة للتمييز . مع ذلك لم يحرك اساتذة القانون من اعضاء البرلمان ساكنا ( أمام هتك الأعراض و قتل النساء و طرق رؤوس الأطفال بالصخور حتى الموت او قتل الناس بالغازات السامة في الكهوف و المغارات، لأن الزعيم الأوحد كان راغبا في ذلك) على حد تعبير عالم الإجتماع التركي المعروف بمواقفه المبدئية الدكتور اسماعيل بيشكجي (6 ). وتشهد كردستان على مدى العقدين الأخيرين حملات قمع و تنكيل واسعة تقوم بها السلطات التركية لقتل روح المقاومة لدى الناس هناك. ولاتجد هذه السلطات في ظل الدعم الغربي و بخاصة الأمريكي صعوبة كبيرة في ايجاد التبريرات لممارساتها القمعية. فالإتهامات بحق الحركة الكردية جاهزة دوما و يجري تكييفها مع متطلبات العصر . ففي العشرينات عندما كانت افكار التحديث و الخلاص من مفاهيم و اعباء القرون الوسطى تستحوذ على اهتمام الناس و عقولهم ، كان الكرد يتهمون ( بمعاداة التطور و العمل على اعادة الخلافة و السلطنة و العمالة للدول الإستعمارية). ومع قيام الحرب الباردة اصبحت تهمة الشيوعية تلاحق أي تحرك سياسي كردي و هي تهم لا يجمعها جامع . الغريب أن ما كانت تسمى بدول (المنظومة الاشتراكية) كانت تتهم الكرد بدورها ( بالعمالة للغرب و تهديد امن الإتحاد السوفيتي ) . ومع ظهور بوادر انهيار الاشتراكية و انتهاء الحرب الباردة اصبحت تهمة الارهاب تلصق بالحركة الكردية لأن العالم المتحضر ينبذ الأرهاب و يدعو الى الأنفتاح و الديموقراطية و رعاية حقوق الأنسان. وهكذا تبقى تركيا و معها الدول الأخرى التي تسيطر على كوردستان تفبرك الأتهامات بحق الوطنيين الكرد و حركاتهم التحررية و لا تفكر بدلا من ذلك في البحث عن الأسباب الحقيقية للحركات الكردية و التجاوب مع المطامح القومية المشروعية للأمة الكردية . من المفيد ان نشير هنا الى ان اول دستور شهدته الدولة العثمانية كان عام 1876 ، ولكن السلطان عبدالحميد الثاني (1876 - 1909 ) سرعان ما انقلب على الدستوريين و قام بتعليق العمل به الى أن اجبر على ايدي الأتحاديين عام 1908 على اعادة العمل به. وعندما اعلن عن قيام المجلس الوطني الكبير في انقرة في 22 نيسان 1920 اقر المجلس (قانون التشكيلات الأساسية ) و الذي كان بمثابة دستور مؤقت للحكومة الكمالية حتى اقرار القانون الأساسي الأول للجمهورية التركية في 20 نيسان 1924 . رغم اشارة الدستور الأول للجمهورية التركية الى حماية الحقوق الأساسية للمواطن كالحرية الشخصية و حرية التعبير و التجمع و غير ذلك من الحقوق، إلا أنه اهمل كليا حقوق المواطنين الكرد خاصة و انه سن بعد توقيع معاهدة لوزان ، اذ توضحت معالم السياسة الشوفينية الكمالية ازاء الكرد . وجاءت مواد الدستور مناقضة تماما للبندين (38) و (39) من معاهدة لوزان. فقد نصت المادة (38) من المعاهدة على ان(الحكومة التركية تتعهد بتوفير الحماية الكاملة للسكان وحرياتهم بغض النظر عن الأصل و القومية واللغة والعرق والدين)،فيما اكدت المادة (39) على تعهد الحكومة التركية بعدم ( إصدار اية قوانين من شأنها التضييق على الإستخدام الحر من قبل مواطني تركيا لأية لغة سواء في شؤونهم الخاصة او علاقاتهم التجارية، وفي حقل الدين أو الصحافة والمطبوعات ، او أثناء الاجتماعات الشعبية)(7). في حين نرى بأن المادة الثانية من أول دستور في تاريخ الجمهورية التركية (1924 ) تعلن ( اللغة التركية اللغة الرسمية الوحيدة للبلاد ) . و أصبحت بذلك مناقضة تماما للبند (39 ) من المعاهدة المشار اليها اعلاه. ولكن المناقشات التي دارت حول مفهوم الأقلية اثناء مؤتمر لوزان توضح هذه المسألة،إذ اصبحت في نهاية الأمر تدور حول الأقليات الدينية اليهودية و المسيحية حصرا ،و لم تقر الحكومة التركية إعتبار الكرد اقلية قومية كونهم (أخوة ) مسلمين أولا و (شركاء ) للترك في الجمهورية الوليدة حسب مزاعمهم و تصريحاتهم خلال فترة المؤتمر . وفي الوقت الذي سمح للأقليات اليهودية و المسيحية بفتح مدارس خاصة بهم ، منع الكرد حتى من التحدث بلغتهم الأم . وجاءت المادة (88) من الدستور لتناقض كل التعهدات التي قدمها زعماء تركيا الجدد للكرد قبيل و اثناء مؤتمر لوزان . فالمعروف ان عصمت باشا أخذ معه عددا من النواب الكرد من اعضاء المجلس الوطني الكبير امثال فوزي برينجي زادة و زولفي زادة ليؤكدا للمؤتمر أن (الكرد لا يرغبون في الإنفصال عن اشقائهم الترك ) . أما عصمت باشا فقد اكد للمؤتمرين ان (تركيا ملك للأتراك و الأكراد الذين يتساوون امام القانون و يتمتعون بنفس الحقوق ). ولكن المادة (88) جاءت لتميط اللثام عن هذه الأكاذيب حين نصت على ان ( جميع سكان تركيا بغض النظر عن الأنتماء الديني و العرقي يعتبرون اتراكا)، والتركي حسب هذه المادة هو ( كل من ولد في تركيا او خارجها من اب تركي، وكذلك الأشخاص الذين ولدوا في تركيا من مهاجرين اجانب واعلنوا عند بلوغهم سن الرشد عن رغبتهم في الحصول على المواطنة التركية ، فضلا عن الأشخاص الذين حصلوا على الجنسية التركية ) . وهكذا جرى الغاء الكرد دستوريا .وجاءت المواد الأخرى كلها لتخص الأتراك وحدهم. فالمادة العاشرة اعطت (الحق لجميع الأتراك،رجالا و نساء من الذين بلغوا 22 عاما من العمر في ان ينتخبوا النواب الى المجلس ) ، بينما منحت المادة (11) (جميع الأتراك من الذين بلغوا 30 عاما من العمر الحق في ان ينتخبوا الى المجلس)، في حين اشارت المادة 68 الى ان (كل تركي يولد و يعيش حرا …) وضمنت المادة (69) (مساواة الأتراك جميعهم امام القانون … ) . واكدت المادة (70) ان (حماية الحرية الشخصية و حرية الكلام و الصحافة و التنقل و المعاملات التجارية و العمل و الملكية و التجمع وإقامة الأتحادات و الشركات و حماية الكرامة ، حقوقا كاملة للأتراك لا يجوز المساس بها ). أما المادة (92 ) فاعطت الحق (لكل تركي بتسنم المناصب الحكومية وفق مؤهلاته وخدماته )(8). وهكذا فان كل من ينظر الى الدستور التركي يقتنع بان سكان تركيا هم من الأتراك فقط ،بينما أهمل الدستور حقوق الكرد والغى وجودهم دستوريا و اعتبر كل دعوى لهم بالخصوصية القومية و اقامة الكيان القومي عملا مرفوضا و يجب قمعه بشدة . و هلل الطورانيون للدستور الجديد ، فقد إعتبره الطوراني اليهودي الأصل تكين ألب (موئيز كوهين ) خطوة كبيرة على طريق (تهيأة الأرضية المناسبة لأندماج الأقليات القومية الكامل في التوركيزم ). وبعد قمع الانتفاضة الكردية الكبرى عام 1925 تنامت موجة العداء للكرد و اخذ الزعماء والصحف التركية تتسابق في التطاول عليهم و وصمهم بالتخلف و الدونية . فعصمت اينونو الذي تحدث في وقت ما عن ( شراكة الكرد و الترك في الجمهورية التركية )،أصبح يؤكد أن على ان (للأمة التركية وحدها الحق بالمطالبة بالحقوق القومية و العرقية في البلاد ، و لا يحق ذلك لأي عنصر آخر) . أما جريدة ( حاكميتي مللييه-Hakimiyeti Milliye ) فقد كتبت في آب 1930 حول انتفاضة الكرد في آغري داغ و مطالبتهم بالحقوق القومية، تقول ( نعتبر نحن الأتراك هذه الطلبات من قبل هؤلاء المتوحشين مجرد نكتة ، فالشعب الذي لا يتعدى قاموسه اللغوي 200 كلمة ، فإن المكان الوحيد لإقامة كيان لهم هو وسط افريقيا أو إحدى الصحاري التي تسكنها القردة، أما آسيا مهد الحضارات القديمة فلا يمكن أن تقبل بمثل هذه الطلبات . وكل من يسمح لنفسه ان يحلم بذلك يجب الطرق على رأسه و يجري في الواقع العملي التعامل معهم على هذا الأساس ) (9) . تحكمت هذه المفاهيم و الطروحات الفاشية بعقول فئات واسعة في تركيا على مدى عقود طويلة و ليس ازاء الكرد فقط ، بل شملت مجموعات بشرية و شعوبا عديدة داخل تركيا و خارجها . وفي الوقت الذي بدأت قطاعات واسعة من الأتراك تدرك خطر هذه المفاهيم المعادية للأنسانية و ضرورة التخلص منها للتناغم مع قيم العصر و الأندماج مع العالم الحر ، نرى بأن عدد معتنقي مثل هذه الطروحات الفاشية في تنامي في العراق و عدد من البلدان العربية التي تتبنى الأفكار القومية العنصرية و الأسلامية الفاشية . بعد القمع الوحشي للأنتفاضات الكردية في العشرينات و الثلاثينات دخلت الحركة الكردية في تركيا مرحلة جزر مريعة . فخلال عقدين من الزمن أعقبا ذلك لم يلاحظ أي نشاط سياسي مهم. ومع تبني تركيا لنظام تعدد الأحزاب عقب الحرب العالمية الثانية( في إطار الآيديولوجية الرسمية الكمالية)، أخذت أصوات الناخبين الكرد تشكل ثقلا مهما في اللعبة الأنتخابية و في الصراع على السلطة بين الحزبين الرئيسيين ( الشعب الجمهوري و الديموقراطي). من هنا فإن النصف الثاني من عقد الخمسينات شهد بعض التحركات الثقافية الكردية المحدودة، الا ان حدوث الانقلاب العسكري الأول في آيار من عام 1960 قطع الطريق على هذا مثل هذه التحركات و أدى الى هزة سياسية كبيرة في تركيا على مختلف الأصعدة . إعتقد المثقفون الكرد في البداية بأن هذه الهزة ستؤدي الى شئ من الإنفراج في الوضع الكردي ، الا أن قادة الأنقلاب العكسري سرعان ما أعلنوا تمسكهم بالسياسات السابقة و إصرارهم على تنفيذها ازاء الشعب الكردي . فزعيم الإنقلاب الجنرال جمال كيورسل والذي اصبح رئيسا للجمهورية خاطب سكان دياربكر الكردية مهددا ( لا وجود للكرد و انما نحن جميعا اتراك . الذين يقولون العكس يريدون تفريقنا و زرع بذور الشقاق بيننا . فالأرض التي أنجبت ضياء كيوك ألب - يقصد دياربكر التي ولد فيها منظر الايديولوجية القومية التركية- لا يمكن ان تكون أرضا كردية ، ليس هنا في دياربكر فقط ، بل في جميع الولايات الشرقية يعيش الأتراك فقط )(10). جاء الدستور الجديد الذي سن بعد الأنقلاب العسكري ليكرس التوجهات السياسية و الفكرية للأنقلابيين الذين ضمنوه الأفكار و المفاهيم الشوفينية ، حتى ان احد اعضاء لجنة الدستور طارق ظفر طونايا ، مؤلف اشهر كتاب في تاريخ الأحزاب السياسية في تركيا ،فصل من عضوية اللجنة لمجرد طلبه تضمين الدستور بندا يشير الى مساواة اللغات في البلاد . وكان زعيم الأنقلاب الجنرال جمال كيورسل يؤكد على ضرورة إعلان الإخلاص للمبادئ الكمالية و الفهم الكمالي للقومية و الأمة مطالبا الجميع العمل على صهر السكان في بودقة الأمة التركية . وهكذا جاء الدستور الجديد الذي سن عام 1961 ليكرس السياسات السابقة رغم بعض التغييرات الطفيفة . فقد اشار الدستور في مادته (12)،مثلا، الى أن الجميع ( متساوون امام القانون بغض النظر عن إختلاف اللغة أو العرق أو الجنس أو المعتقدات الدينية أو السياسية أو الفلسفية )، غير ان المادة (54 ) ألغت اي إعتراف بالوجود القومي لغير الأتراك، عندما اعتبرت ( كل من ارتبط بالدولة التركية برباط المواطنة تركيا ) . كما ان هناك العديد من مواد الدستور الجديد صيغت اساسا ضد الكرد و تطلعاتهم القومية المشروعة. فقد اكدت المادة الثالثة، على سبيل المثال لا الحصر، على ان ( الدولة التركية غير قابلة للتجزئة ارضا و شعبا). ويدرك المتابع للوضع التركي و الماكنة الإعلامية التركية التي كانت و لا تزال توصم اي تحرك سياسي كردي في تركيا و في غير تركيا بالأنفصالية و العمل على تفتيت وحدة البلاد، نقول يدرك مباشرة من المقصود بالكلام الوارد في هذه المادة . وتعني هذه المادة ببساطة ان الكرد لا يمكنهم التمتع بحق تقرير المصير أو إقامة كيان خاص بهم ، بل و لا يستطيعون التمتع حتى بالحكم الذاتي لأن شعب تركيا (موحد) و لا يمكن أن يتجزأ . ومنعت المادة (57) تشكيل الأحزاب السياسية التي تمثل الكرد أو الأقليات الدينية و القومية الأخرى في البلاد.فقد نصت على (تصاغ برامج الأحزاب السياسية و انظمتها الداخلية بصورة تتناغم عموما مع مبدأ عدم امكانية تجزأة الدولة و الأمة ) . وجاءت المادة (68) لتغتصب حقوق الكرد و ابناء الأقليات القومية و الدينية في تركيا، إذ حرمت ( الذين لا يستطيعون القراءة و الكتابة باللغة التركية من الترشيح للمجلس الوطني الكبير ) . فضلا عن كل هذا فهناك مواد اخرى كثيرة مليئة بالمواقف الشوفينية و القومية و المتطرفة . فقد أشارت المادة الرابعة من نفس الدستور الى ( أن السلطة العليا تعود كليا للشعب التركي ) . أما المادة (58 ) فقد أقرت (بحق كل تركي في تسنم مناصب الدولة ) . في حين اكدت المادة (72) على ان (كل تركي بلغ الأربعين من العمر و تلقى تعليما عاليا يمكنه الترشيح لمجلس الشيوخ ). تجدر الإشارة هنا الى ان البرلمان التركي أصبح يضم مجلسي النواب و الشيوخ وفق بنود الدستور الجديد بعد انقلاب 1960. هكذا كان الدستور الجديد رغم بعض التغييرات الطفيفة كتبديل عبارة (كل تركي ) بتعبير (كل مواطن ) في العديد من مواد الدستور ، معاديا للشعب الكردي و تطلعاته القومية المشروعة . أما الدستور الأخير ( دستور عام 1982 ) الذي لا يزال يعمل به حتى الآن فرغم التعديلات الكثيرة التي أجريت على العديد من مواده خلال السنوات الأخيرة ،فانه يمثل تثبيتا للسياسات القمعية لقادة إنقلاب 12 أيلول 1980 الدموي . لقد فرضت الطغمة العسكرية الحاكمة هذا الدستور على البلاد عبر ( إستفتاء شعبي !) صوري في السابع من نوفمبر عام 1982 و في ظل ظروف استثنائية و سيادة حملات القمع و الملاحقات و الإعتقالات و التهديدات . لقد شهدت البلاد عشية الإستفتاء حملة إعتقالات واسعة و جرى تهديد الممتنعين بالسجن لمدة ستة أشهر، فضلا عن التهديد بالحرمان من الحقوق الأنتخابية لفترة خمس سنوات . اما في كوردستان فقد بثت اشاعات مفادها ان الممتنعين عن المشاركة في عملية الإستفتاء سيعرضون أنفسهم الى عمليات التعذيب في السجون التركية . وجرى ترهيب مختاري القرى من مغبة مقاطعة السكان للأستفتاء . وكان وقوف رجال الشرطة عند صناديق الإقتراع جزءا مكملا لصورة الرعب التي أراد الجنرالات إيصالها الى السكان و دفعهم الى التصويت على الدستور. رغم ذلك كله قاطعت نسبة مهمة من السكان و بخاصة في كوردستان مسرحية الأستفتاء الصوري أو صوتت ضد الدستور . لقد بلغت نسبة المقاطعة في هكاري 30 % ، درسيم 21 % ،سيرت 19 % ، موش 18% ، فيما بلغت في بدليس و دياربكر و أليازيك (العزيز ) و ماردين أكثر من 10 % من السكان . أما نسبة المصوتين ضد اقرار الدستور فقد بلغت 23 % في بينكيول و 20 % في دياربكر و 18% في كل من درسيم و هكاري و 15 % في كل من أليازيك و موش . هكذا تظهر هذه الأرقام بأن نصف السكان في بعض الولايات الكوردستانية وقفوا ضد اقرار الدستور. وقد هاجمهم زعيم الأنقلابيين كنعان ايفرين و نعتهم ب (الخونة و الأنفصاليين ). وجرى اعتقال اعداد كبيرة من الكرد عقابا لهم على رفض الدستور الذي أهمل طموحاتهم القومية المشروعة. فرغم الشعارات الديماغوجية عن مساواة الجميع امام القانون ، إلا ان مراجعة سريعة لديباجة الدستور تظهر عقم هذا الكلام تماما . فالحديث هنا يجري عن (المواطن التركي) الذي يضمن الدستور له دون غيره الحق (ليعيش بكرامة و يطور نفسه على الصعيدين المادي و الروحي في ظل الثقافة القومية و سيادة القانون)(11). وتسود هذه الروح العنصرية التركية مواد الدستور كلها مع الغاء كامل للكرد و القوميات الأخرى. فالمجلس الوطني الكبير يمارس السلطة التشريعية في البلاد بإسم (الأمة التركية) (المادة 7 ). وتنفذ المحاكم المستقلة (السلطة القضائية بإسم الأمة التركية)(المادة 9) فيما تؤكد المادة (70) الى حق (كل تركي لتسنم المناصب الحكومية)، بينما تعطي المادة (76) حق الأنتخاب لكل تركي . وهكذا فان كل من يقرأ مواد الدستور التركي سيعتقد مرة اخرى بأن سكان البلاد هم من الأتراك فقط رغم وجود هذا العدد الكبير من القوميات و الأقليات القومية و الدينية حسب إعتراف المسؤولين و الوثائق الرسمية التركية. و ينبع جزء من هذه الأشكالية من التسمية العرقية للدولة التركية نفسها . فقد جرى خلال القرن الماضي فرض هذه التسمية العرقية ( تركيا ) على هذه الأراضي الشاسعة التي كانت تعرف بآسيا الصغرى و الأناضول و أعالي ميزوبوتاميا و كانت على مر التاريخ و قبل ان تطأها أقدام القبائل التركية بقرون طويلة موطنا لعدد كبير من الشعوب و الثقافات التي ساهمت بقسط كبير في الحضارة الأنسانية . من هنا ظهرت تعابير غريبة في الأدبيات التأريخية و الإستشراقية و تسربت الى الصحافة ايضا ، لعل من اغربها تعبير (الأكراد الأتراك ) بدلا من اكراد تركيا . لو كان هذا التعبير مبررا لوجب تسمية عرب تركيا أيضا بالعرب الأتراك و كذلك الأرمن و غيرهم . تحكمت الأفكار القومية المتشددة و لا زالت بعقول فئات واسعة من النخب السياسية و الثقافية التركية ، الأمر الذي يمنعها من رؤية الأشياء بطريقة عقلانية و واقعية . ومما له دلالاته في هذا المجال الحادث الذي جرى للمشاركين في التحضير للأحصاء السكاني لعام 1985 . فقد جرى بمناسبة الإحصاء إعداد دليل للمشاركين في عمليات التعداد السكاني ورد فيه سؤال عن اللغات الأجنبية التي يعرفها المواطن . واعطي مثال عن تلك اللغات كالانجليزية و الفرنسية و (العربية ) و (الكردية ) . وكانت الأشارة الى الكردية حتى كلغة اجنبية كافية لتقديم 11 شخصا من المشاركين في لجنة اعداد الدليل الى (محكمة امن الدولة) بتهمة ( اضعاف الروح الوطنية و الدعاية للأفكار القومية الكردية أو الكورديزم ) . وطالب الإدعاء العام بالحكم عليهم لمدد تتراوح بين 5 - 8 سنوات. وجاء تثبيت منع اللغة الكردية في المادة (26 ) من الدستور عندما اكدت على ( منع استخدام اية لغة من اللغات الممنوعة قانونا في التعبير عن وجهات النظر بصورة شفاهية أو عن طريق المطبوعات) . اللغة المقصودة هنا هي اللغة الكردية بطبيعة الحال . كتب المتخصص الأرمني في الشؤون الكردية في تركيا البروفيسور هسراتيان في هذا الصدد قائلا ( من الصعب ان تجد مثل هذه الحالة في اي دستور آخر في العالم .ماذا تعني اللغة الممنوعة قانونا ؟… هل يمكن للقانون ان يمنع الأنسان من التحدث بلغته الأم ؟ … اللغة وسيلة للتواصل مع الناس ،بدون اللغة لا وجود للأنسان و لا للمجتمع)(12). لم نسمع ببلاد تغرم مواطنيها إذا تحدثوا بلغتهم القومية . لقد سمعت من أصدقاء لي من كرد تركيا قصصا و حكايات كثيرة عن الأساليب الوحشية التي كانت تعتمدها السلطات و المدارس التركية لردع الكرد عن التحدث بلغتهم. رغم القصص المؤلمة الكثيرة التي سمعتها إلا انني لم اتمكن على نسيان احداها رغم مرور السنون. روى لي صديق تركنا الى جوار ربه قبل سنين ما تعرض له شخصيا بسبب تحدثه باللغة الكردية في المدرسة الأبتدائية. لقد عاقبوه بطريقة مهينة لم يتمكن ان يتخلص من آثارها النفسية رغم تخرجه من كلية الطب و مشاركته الفعالة في النشاط السياسي و الثقافي الكردي و تقديمه لأحد أبنائه شهيدا على طريق النضال القومي . لقد قام رجال الجندرمة الأتراك بنزع ملابس والدته و شقيقته أمام أطفال المدرسة عقابا له على تحدثه باللغة الكردية . بقي قويا و صلبا رغم تعرضه للملاحقة و المطاردة و إطلاق النار عليه و إصابته بجروح قاتلة ، كما لم ينل منه موت ابنه على يد الجندرمة أمام عينيه . ولكنه ظل يعانى من كابوس منظر والدته و شقيقته أمام أطفال المدرسه الذي ظل يطارده على مدى اربعة عقود حتى وضع نهاية لحياته عبر تعليق نفسه بشجرة بعد ان قارب الستين من العمر . أما القصص التي سمعتها من السياسيين الكرد الذين قضوا سنينا طويلة في السجون التركية فأن مجلدات لا تكفي لروايتها . لقد كانوا يقفون أثناء المواجهة وجها لوجه مع امهاتهم و زوجاتهم و ابائهم لساعات دون ان ينبسوا ببنت شفة، لأن الأخيرين لم يكونوا يعرفون التركية و يمنع عليهم التحدث بالكردية . لقد أشار عالم الأجتماع التركي الدكتور اسماعيل بيشكجي الى العديد من هذه الحالات في كتبه عن القضية الكردية في تركيا . تضمن الدستور في مادته (228) حظرا على (نشر المطبوعات باللغات الممنوعة قانونا). الغريب ان هذا النص لم يكن موجودا في دستور1961 . يبدو أن تنامي الحركة التحررية الكردية و نشاط المثقفين الكرد و محاولة السلطات إستباق الأحداث و قطع الطريق على تلك التحركات و قمعها في مهدها كانت وراء تضمين الدستور مثل هذه البنود. وبذلك كان دستور عام 1982 تراجعا الى الوراء حتى بالمقاييس التركية .فضلا عن كل ذلك كانت هناك بنودا و موادا حددت حرية تنقل المواطنين و صيغت بطريقة مطاطية كان بالأمكان استخدامها ضد السكان الكرد و تهجيرهم بصورة قسرية الى خارج كوردستان . وفعلا سنت الحكومة في مايس 1983 (قانون الأسكان القومي ) ، وقد نفيت عوائل كردية كثيرة بموجب هذا القانون الى الولايات الغربية التركية . تظهر اية قراءة محايدة لمواد الدستور بأن أحد الأهداف الأساسية لمشرعيه كان يكمن في العمل على توفير الغطاء الدستوري و القانوني لعملية قمع التحركات الكردية و إستباق تنامي حركة سياسية كردية قوية في تركيا على غرار الحركة الكردية في ايران و العراق آنذاك. وتؤكد المواد (14، 68 ، 122 ، 143 ) هذه الحقيقة بصورة لا لبس فيها . لقد دفعت تلك السياسات التي رافقت و أعقبت سن الدستور الجديد ، والتي سدت سبل النضال السياسي السلمي بوجه الكرد، دفعت الأخيرين الى البحث عن وسائل أخرى لمقاومة سياسات القمع و التنكيل التي كانت تمارسها الأوساط الحاكمة في تركيا . في ظل هذه الأجواء المحتقنه و المسمومة بدأت في آب 1984 حركة كردية مسلحة لم تنتهي فصولها بعد . أي أن العمليات العسكرية بدأت في كوردستان تركيا بعد أقل من عامين فقط على (إقرار ) هذا الدستور .لقد شخص الكرد منذ وقت مبكر طبيعة الدستور الجديد اللاديموقراطية و المعادية لتطلعاتهم القومية المشروعة . بعد ان فرض الجنرالات دستورا ضمن لهم موقعا متميزا في الحياة السياسية التركية و تمكنوا من خلاله التحكم بالسلطة السياسية في البلاد خلال العقدين التاليين ، سمحوا بقيام أحزاب سياسية في اطار الآيديولوجية الرسمية الكمالية. وتبنت الأحزاب التي ظهرت منذ عام 1983 نفس المفاهيم الشوفينية التي وردت في الدستور لكي تكون برامجها متناغمة مع بنوده. كما تضمن برنامج حكومة تورغوت اويزال المفاهيم نفسها و التي وردت في خطابه الذي عرضه بتاريخ 19 ديسمبر 1983 في المجلس الوطني الكبير. لكن ما تجدر ملاحظته ان سياسة الصهر القومي للكرد و القضاء على ثقافتهم القومية وتدمير البيئة الطبيعية التي يعيشون فيها تتساوى تماما مع جرائم الإبادة الجماعية للجنس البشري (الجينوسايد ) و تتناقض مع المادة الثانية من لائحة حقوق الأنسان التي أصدرتها منظمة الأمم المتحدة عام 1948 و جاء فيها ان الجينوسايد هو ( كل عمل يهدف الى الأبادة الكلية أو الجزئية لمجموعة قومية او دينية . وتعتبر الأمم المتحدة الجينوسايد من الجرائم الكبرى الموجهة ضد البشرية و تدينها الحضارة الأنسانية مع ضرورة إدانة مرتكبيها من قبل الجماعة الدولية ) . لقد شهدت مواد الدستور الأخير تعديلات كثيرة خلال السنوات الأخيرة إستجابة لطلبات الإتحاد الأوروبي و إنسجاما مع معايير كوبنهاغن . الا أن تلك التعديلات لم تخلصه من طبيعته اللاديموقراطية و صبغته القومية المتطرفة . لا زالت القوى السياسية التركية تفتقر الى الشجاعة و الإرادة السياسية المطلوبتين لسن دستور جديد للبلاد بدلا من هذا الدستور الذي سنه الجنرالات . إذا ارادت الأوساط الحاكمة في تركيا أن تجد حلا للقضية الكردية في تلك البلاد ، فمن الضروري أن تقر دستوريا بالوجود الكردي و تثبت حقوقه السياسية و المدنية و القومية و الثقافية و تزيل المفاهيم العنصرية و الكراهية القومية من الدستور . و ستبقى وعود المسؤولين الأتراك كلمات تسبح في الهواء و لن تتحول الى اجرءات عملية على أرض الواقع دون القيام بهذه الخطوة المهمة و الضرورية . الى جانب الدستور هناك كم هائل من القوانين المعادية للكرد صدرت في تركيا على مدى عقود عديدة أعقبت قيام الجمهورية عام 1923 .فمنذ اندلاع الأنتفاضة الكردية الكبرى عام 1925 قامت الحكومة التركية بسن قوانين كثيرة تهدف الى إلغاء الكرد و قمع أي تحرك سياسي لهم . من الضرورة بمكان إلغاء تلك القوانين و إزالة آثارها المدمرة . ولا يمكن ان تسود البلاد روح المواطنة المتساوية دون التخلي عن الفلسفة التعليمية و التربوية الحالية و صياغة أخرى مبنية على الأسس العلمية و القيم الأنسانية النبيلة . المصادر : 1. نقلا عن م.أ. هسراتيان ، كرد تركيا في الفترة المعاصرة ، يريفان 1990 ، ص 53-54 (بالروسية ). 2. أنظر د.جبار قادر ، حول المصادر التركية للتاريخ الكردي ، مجلة -روشنبيري نوى - العدد 106 ، بغداد 1985 ،ص 176 ( بالكردية). 3. أنظر جريدة : ( Ozgur Ulke ) العدد 144 ، 19 ايلول 1994 ( بالتركية ) . 4. Ismail Besikci , Bilim - Resmi Ideoloji , Devlet- Demokrasi ve kurt sorunu , Bonn 1990 , s.130-131. 5. Dr.M.N.Dersimi , Kurdistan tarihinde Dersim. Halep 1952 , s223. 6. Ismail Besikci , Tunceli kanunu (1935 ) ve Dersim Jenosidi , Bilim yonetimi , Turkiye’deki Uygulama : 4 , Bonn 1991 , s. 141-144. 7. للأطلاع على النصوص الكاملة لمعاهدتي سيفر و لوزان انظر : معاهدة سيفر السلمية و الوثائق الموقعة في لوزان باشراف يو .ف . كلوجنيكوف و أ.ف . سابانين ، موسكو 1927 ، ص 152 ( بالروسية ). 8. جبار قادر ، الحركة القومية الكردية في تركيا في فترة مابين الحربين العالميتين 1918-1939 ، أطروحة دكتوراه غير منشورة ، موسكو 1977 ، ص 72 -73 ( بالروسية ). 9. نقلا عن هسراتيان ، المصدر نفسه ، ص 166 . 10. د.جبار قادر ، حول المصادر التركية …. ، ص 177 . 11. Turkiye Cumhuriyeti Anayasasi , Ankara 1982 12. هسراتيان ، المصدر نفسه ، ص 315 .
|