الخالق
حاور الانسان.. وتركيا تستنكف حوار الكورد!
محسن جوامير ـ كاتب كوردستاني
ان من بديهيات وأولويات العلاقات الانسانية للتوصل الى الحلول للمشكلات والمعضلات البشرية صغيرها وكبيرها، منذ عصر ما قبل الحجر وإلى عصر ما بعد الصعود إلى القمر وإلى ان يرث الله الارض ومن عليها.. هو الحوار والتفاوض حول الامور التي تعقدت والشأن الذي صعب تداركه واختلطت حوله المفاهيم والتوجهات طبقا للمصالح المختلفة التي يتشبث بها كل طرف، بحيث يظن أنه هو فقط على الحق وما يدعيه الآخر لا يتجاوز حد الادعاء والترف، وبالتالي يستوجب كسر شوكته وتعريضه للتلف وتلقينه درسا يكون عبرة للقادم والسلف وإلى يوم ( أزفة الآزفة ) وفيه ينصب جهاز الكاشفة.
هذه الطبيعة الانسانية موجودة قبل أن يقتل ( قابيل ) أخاه ( هابيل ) ويعجز ان يكون مثل الغراب فيواري سوءة اخيه.. وستبقى إلى يوم ينفخ في الصور وعلى مدار العصور والتي تسمى بالاختلاف والخلاف والتباين وعدم الائتلاف في التصور والتوجه وما إلى ذلك من تسميات ومسميات مازالت تدرسها مختلف المدارس والاطياف.
ومع وجود خصائص قابيل العدوانية، خلق الخالق خصائص هابيل المتسمة بالدعوة إلى السلام والتوجه إلى الخير والوئام والتفاهم لما فيه خير الأنام ونبذ التسلط والعدوان ( فألهمها فجورها وتقواها.. قد أفلح من زكاها ـ هابيل ـ وقد خاب من دساها ـ قابيل ـ ) . لا بل إن خاصية الترفع قد وصلت إلى أعلى مراتب العظمة والرفعة والسمو ـ لدى هابيل الانسان ـ والتي تجسدت فى عدم مقابلة السيئة حتى بسيئة مثلها ( لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني، ما أنا بباسط يديّ إليك لاقتلك ).
طبيعة مزدوجة ـ لحكمة ما ـ مغروسة في الطينة البشرية، وهي تُرى رأي العين وعلى مدار التأريخ البشري، من خلال المعاملات والعلائق الاجتماعية والعلاقات المنزلية، بل حتى في الاواصر الزوجية ومخدعها وما فيها من أسرار خفية.. حتى غير المؤمن لا يمكنه إنكار هذا الواقع، اللهم الا المخبول والمعتوه والغافل عن الوقائع.
والحل الكافي والبلسم الشافي للوصول إلى ما يقضي على المشكلات أو يخفف من حدة وتوتر وهول الأزمات، هو الحوار والتفاهم والتلاقي والاستماع إلي الخصم والآخر من البشر على قاعدة الرد والتلقي وكذلــك ( إسمعني وأسمعك) وقد يكون بحضور أطراف محايدة ومتصفة بعدم إنجرارها وراء الاهواء لكونها خارجة عن حلبة الدوامة والصراع وغير متأثرة بالعواطف والهلوسة التي يفتقدها عادة أصحاب القضية الذين يكاد من فرط حماسهم تقتلهم الغيرة والوسوسة.
وأعتقد أن الحالة التركية تجاه الكورد هي أفضل مثال يجدر بالعقلاء دراسته في مختبر الفكر السياسي المعاصر، وبالتالي تقييمه فيه وجعله نموذجا للعناد السياسي في عصر يوشك ان تفوت فيه أوان آفة العنصرية وأصبح الحوار ديدنه، وفي أسوأ الاحوال شعاره، وذلك كمرحلة أولى لخوضه من خلال تهيئة الاجواء والنفوس، ولا مناص من البدء بها قبل اللجوء إلى الرماح والفؤوس لضرب الابدان والرؤوس.
لذلك وعلى خلفية التراكمات التأريخية التي تولدت عن الواقع السياسي في الشرق، وخاصة بعد ان تحولت أفكار مصطفى كمال أتاتورك ـ الذي يُخيل إليهم أنه من أساطين الحكمة أو كأنه ( ليس كمثله شـئ ) ـ إلى مبادئ بل إلى دين لا غبار عليه ولا نقيصة فيه ولا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه، وكل إنحراف عنه هو بمثابة كارثة تحل بالنفس اللاهثة.. نرى أن رفض الكورد من جانب الأتراك وبكل ملاحقه يسبق كل تصريح ويقدم على كل تلميح أو تقديح من طرفهم، دون الاستماع أو إعطاء الفرصة له ليقول كلمته ويدلي بدلوه على الاقل، حتى لو قرروا مسبقا رفضه جملة وتفصيلا أواتهامه بالارهاب الذي طالما تحولت هذه التسمية المستعارة لديهم الى ما يشبه قميص عثمان أو إسطوانة مكررة يريدون ان يستمع إليها الاخرون ليؤمنوا بها من خلال الادمان على سماعها، لتكون بالتالي ذريعة للاستمرار في ضرب المخالفين والآمنين معا ( لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ).
وأكبر خطأ وقعت فيه تركيا وكذلك تقع فيها، هو في تصورها أن المشكلة باتت منحصرة مع الذين يعارضونها خارج حدودها سواء بالاعلام أو التهديد باستعمال العنف في حالة عدم تغيير سياستها والجلوس معهم للتباحث والتفاوض.. وكذلك في إعتقادها أنه بمجرد تصفية هؤلاء الذين تصوّرهم وكأنهم من الجن ففسقوا عن أمر ربهم، يصفو لها الجو وتتحقق أهدافها وتفوز باكسير الحياة وقضي الامر.. متناسية أن وجود هذه القوة المهددة خارج حدودها هو من نتاج سياستها وظاهرة يمكن ان تتكرر في الداخل، في حال إفتراض القضاء عليها أو تحجيمها فيما وراء الحدود.. ناهيكم عن إحتمال إزدياد شعبيتها، وبالتالي مضاعفة الكراهية لتركيا وإقتناص الفرص للإنتقام بشكل أو بآخر عاجلا أم آجلا..
إن العودة إلى الفطرة السليمة ومراجعة الأفكار والمبادئ العقيمة التي أسست تركيا على بنيانها التي بُنيت على الصواعق ومن دون موانع، والتي تعتبر حالة طارئة أكل عليها الدهر وشرب وتآكلت، بالرغم من دوامها طوال أكثر من ثمانين عاما وفي غرور.. هي صمام الأمان للعيش مع الشعوب وفق المبادئ الانسانية وبعيدا عن الحروب والكراهية.. وهي الضمانة كذلك لاختصار الوقت للدخول إلى حضيرة الدول التي لا تكاد يصدق أبناءها بأن هناك دولة تريد أن تكون عضوا فيها وهي مازالت تحاكم أبناءها لكونهم تحدوا قانونها وتكلموا بغير التركية في إحتفال علني وجماهيري أو إستعملوا حرفا يخالف أبجديتهم، وتدخلهم السجن وتفرض عليهم مبالغ مالية وأتاوات، عقوبة لمخالفتهم لقانون الغاب والباشاوات.
إذا كان رب العالمين جل وعلا قد حاور البشر ـ أولهم سيدنا آدم ـ وكلمهم وهو خالق وعارف بكل شئ والكل إليه فقير وآيل إلى الزوال.. فهل يستنكف الاتراك التحاورمع البشر الذين هم علي شاكلتهم ولا يألون جهدا للتفاهم، حتى لو اُفتُرض أنهم من الدعاة إلى الشر.. على الاقل لاقامة الحجة، على قوم يظنون أن عيشهم مع تركيا تحول إلى ظلام ولُجة.. أم إنهم يريدون التشبث بطبيعة ( قابيل) إبن آدم سيد البشر وتحويل العلاقة بين الكورد والترك إلى وقائع تشبه ملحمة الالياذة التي لا يعرف الكثيرون ما يدور فيها ولماذا، إلى يوم يُدعى ( كل أناس بإمامهم ) رغم أنف كل المبادئ السماوية والأرضية ودعوة وصيحة أنصار ( هابيل ) للسلام.؟
mohsinjwamir@hotmail.com
|