تجربتي مع الإنتخابات العراقية

  فينوس فائق
هولندا

  

كان علي أن ألملم أفكاري و أنظمها ثم أكتب عن تجربتي مع الإنتخابات التي مرت.. فقد كانت تجربة جميلة و صعبة في آن واحد ، كمن عليه أن يجري عملية جراحية لابد منها حتى يعيد توازنه الصحي و يستعيد قواه و عزيمته على متابعة الحياة بطريقة أخرى ، ربما بطريقة لم يكن يتمناها لكنها الطريقة المتاحة في الوقت الحاضر و عليه أن يتقبل بها و ينسجم معها...فإجراء الإنتخابات ليست نهاية المطاف ، كما و هي ليست بداية البدأ ، المشاركة في الإنتخابات ربما هي المنعطف التأريخي الذي غير المسار السياسي و الجغرافي و الذي سيغير الكثير في المستقبل.. لننظر إلى الإنتخابات من زاوية أنها بداية تأريخ جديد ، تقويم جديد ، بداية نحو تغييرات أكبر ، فأنا لا أنظر إلى الإنتخابات على أنها بداية للتلاحم أو التوحد ، و إنما أقرأها على أنها إعادة لتنظيم ما لم يكن مرتباً ، و إعادة وضع بعض الأسس التي كانت تنقص التجربة السياسية في المنطقة ، فإيران لها وجهة نظر في تلك الإنتخابات و التي ستليها ، و تركيا لها وجهة نظرها و ردة فعلها ، و سوريا لا تقف خارج المعادلة دون أن تثبت تأثيرها بشكل من الأشكال ، فالإنتخابات العراقية في 30 جنيوري هي الخطوة الأولى نحو تطبيق مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي ترعاه أمريكا..    

بالرغم من أن منظر الحبر على أصبعي لم يكن جميلاً بل كان مقززاً ، لكنه أوحى لي للوهلة الأولى أنه الخطوة الأولى على طريق الديمقراطية ، فبدأنا تجربة ممارسة الديمقراطية من فوهة قنينة صغيرة مليئة بالحبر ، نعم كانت تجربة فريدة ، لم تكن المسألة أنك تنتخب حزب معين و تعينه لينوب عنك في البرلمان أو في مجلس البلدية الفلانية ، و المشاركة الديمقراطية في الإنتخابات لم تقتصر فقط على الإنتخاب فقط بل بالعكس حتى الذي لم يؤشر أمام إسم كيان سياسي معين و سلم ورقة الإنتخاب فارغة ، و حتى الشخص الذي لم يسجل إسمه و لم يذهب لينتخب و الذي سجل إسمه و تراجع عن قراره و لم يحضر يوم 31 جنيوري لينتخب ، هؤلاء كلهم مارس حقه الطبيعي و المشروع بشكل ديمقراطي ، بدون ضغوط أو بالقووة أو قسراً ـ فتلك هي الديمقراطية ، تبدأ بالإنتخاب و رفض الآخر بشكل عادل و حضاري و ديمقراطي ، بدون تخويف أو بالقسر أو بالقوة ، فتلك الممارسات الديمقراطية و بحرية و دون خوف لم تكن موجودة إبان سنوات حكم الطاغية ، حينها كانت السلطة في عالم و الشعب في عالم آخر ، و كل ما كان يربط السلطة بالشعب هو القوة و العنف و الإضطهاد و القتل و الدمار و الحروب..

فكلمة الديمقراطية في القاموس اللغوي و تحيداً في اللغة الإغريقية القديمة تعني حكم الشعب ، و طالما عاش الكل تجربة الإنتخابات لأول مرة عن طريق الإنتخابات التي هي الخوة الطبيعية الأولى بعد زوال أي حكم دكتاتوري ، فإنه نقل بذلك "الحكم" و بشكل طبيعي إلى نفسه كونه فرد من أفراد الشعب ، فهذه هي بداية "اللامركزية" في الحكم ، أن بنبع الحكم من بين أيدي الشعب ، أن يكون هناك مندوبين عن الشعب في مجالس البلديات تمثل الأحزاب التي ينتمون إليها ، و كراسي في البرلمان يجلس عليها بالتناوب في الدورات البرلمانية ممثلي الأحزاب و الكيانات السياسية الذي تم إنتخابهم بالفعل من قبل الشعب ، و أن يكون هناك دستور يوافق عليه الشعب ، أن يكون لك الحق بأن تنتخب بحرية أو أن تعلن عدم مشاركتك في الإنتخابات بدون خوف أو رعب ، أن يكون هناك 111 حزب يتنافس على الحكم و ليس حزب أو عائلة واحدة و شخص واحد تحديداً قابع على الكوردسي و يغمس يده في رقبه الشعب و يمتص دمه على مدار الساعة.. هكذا خاض العراقيون و للمرة الأولى تجربة الحكم اللامركزي بعد أن عاشوا تجربة الحكم المركزي المرة ، و دفعوا ثمن كون الحكم مركزي ، فأن يكون الحكم في كوكب و الشعب في كوكب آخر ، تلك هي مصيبة المصائب..

كتجربة أولى أقيمها بشكل إيجابي رغم كل الأخطاء و التجاوزات و ربما الخروقات الصريحة التي سمعنا بها و حتى الأحداث الأليمة و المؤسفة التي تخللت عملية الإنتخابات و تلك التي سبقت الإنتخابات ، و حتى ظاهرة قائمة الأحزاب و القوى و الكيانات السياسية الطويلة فوق الطبيعي التي رشحت نفسها كرد فعل طبيعي و رفض لشكل الحكم الدكتاتوري السابق ، فهذه الحالات تتكفل التجربة الديمقراطية بحلها و تنظيمها في المستقبل.

لكن أعود إلى تجربتي الشخصية مع الإنتخاب ، ذلك الحق الذي مارسته بعد كل هذه السنين ، و كل تلك المصاعب و المذلات و الأهوال التي عشناها ، و في لحظة أحسست بكل الماضي و هو يمر أمامي كشريط سينمائي ، رأيت أمهات الشهداء يبكين و يندبن ، رأيت جهنم حلبجة و كارثة الأنفال ، مررت بكل قرية أحرقها الطاغية و أباد أهلها كبيرهم و صغيرهم ، شابهم و عجوزهم ، رأيت الهجرة المليونية حتى وصلت إلى تلك الجبال التي آوتنا أياما و ليالي بدون ماء و لا زاد ، و دفنتُ شهداء حلبجة الخمسة آلاف مرة أخرى بيدي ، و ودعت شهداء الأنفال إلى مثواهم الأخير الذي لا أدري أين هو؟ و مررت بكل السجون و المعتقلات و الزنزانات و السجون الإنفرادية و أتلفت بنفسي كل أدوات التعذيب المختلفة من كهربائية و هراوات و غير ذلك ، و أسكتتُ بنفسي كل الذين كانوا يتلقون التعذيب في السراديب و يصرخون و يتألمون ، سقيتهم الماء و ضمدت جراحهم ، إلى أن وصلت إلى غرف الإعدامات و قطعت بجنون كل حبال المشانق ، و كل وسائل القتل الفورية و الإعدامات السريعة ، و أفرغت كل المسدسات من الرصاص و أتلفتها و بنادق التصويب التي كانت تسخدم للإعدام رمياً بالرصاص ، إلى أن فجأة قال لي زميلي الذي يقف إلى جانبي أن صناديق الإقتراع وصلت ..

كل هذا و أنا أنتظر الصندوق الأول من صناديق الإقتراع المليئة بأصوات الناخبين و ذلك بعد إغلاقها الساعة الخامسة من مساء يوم 31 جنيوري، وصلت الصناديق الساعة الثامنة و النصف و نحن فريق عد و فرز الأصوات ننتظر في القاعة المخصصة لعد و فرز الأصوات الكائنة في بناية تابعة للقوات العسكرية الهولندية بالإضافة إلى كونه متحف عسكري خاص بالمطار العسكري في منطقة "زايست" في ماكن ما في هولندا الصغيرة. حيث كنت أرأس قاطع عد و فرز الأصوات الخاص بمدينة "أمسترادام" العاصمة التي تمت فيها عملية التصويت في سبعة محطات إنتخابية..

و صلتنا سبعة صناديق مليئة بالأصوات ، أصوات تبكي و هي تنتخب و أصوات تضحك و هي تنتخب و أصوات لا تدري إن كانت تضحك أم تبكي ، سبعة صناديق مليئة بالأصوات التي تقول لا للدكتاتورية ، نعم للديمقراطية ، سبعة صناديق من الأصوات التي كانت مخنوقة في السابق و لا يحق لها أن ترتفع ، هذا عدا الأصوات القادمة من القاطعين الآخرين في "روتردام" حيث تسعة محطات إنتخابية و "زفولا" حيث ثمانية محطات إنتخابية ، نعم كل تلك الأصوات كانت تصرخ بأعلى صوتها و تنادي بالديمقراطية و هي تعيش تجربة الإنتخابات للمرة الأولى ، لذلك لم تكن التجربة سهلة ، و هي لم تكن صعبة على الأقل بالنسبة للذين عاشوها خارج العراق .

أحد الحضور من مندوبي وسائل الإعلام و المنظمات الذي كان موجوداً يوم الأول من فبراير بينما كنا منهمكين في إنجاز المهام الماقاة على عاتقنا و نحن نقوم بفرز و عد الأصوات ، أحد هؤلاء إقترب مني و أهداني تقويماً جديداً عليه رمز منظمتهم ، و قد وضع أمامي بالقلم الأحمر دائرة حول تأريخ 30 جنيوري 2005 ، و قال هذا التأريخ لن أنساه قط ، حينها عرفت أن هذا الحدث و هذا التأريخ لم يكن يعني العراقيين و الكورد فقط و إنما كان يعني للكثيرين الشيء الكثير ..

صبيحة يوم الإنتخابات 31 جنيوري إلتقيت صديقي الشاعر العراقي "حميد حداد" على باب المحطة الإنتخابية في "روتردام" التي كنت قد سجلت فيها إسمي ، و بعدها ذهبت للتصويت ، فقال بدهشة كبيرة: أراك هنا ؟ ألم تعلني أنك لن تشاركي في الإنتخابات ؟ ، فكانت دهشتي أكبر ، و قلت له : و من قال أنني لن أشارك ؟ قال : هكذا سمعت !! حينها فهمت أن ما قلته و عبرت عنه في مقال سابق و حديثي عن حلمي و حلم كل كوردي صغيراً و كبيراً بإقامة دولة كوردية هو الذي تم تفسيره على أنني عازمة على عدم المشاركة في الإنتخابات ، بالرغم من أنني لم آتي على ذكر الإنتخابات و لا على موضوع المشاركة أو عدم المشاركة ، على العكس تماماً فقد كتبت في مقال مستقل عن عزمي على المشاركة في الإنتخابات و ضرورة المشاركة ، لكن طالبت بتأجيلها فقط لإعتبارات ذكرتها و هي كانت معروفة و تناولها الكثيرين من الكتاب في مقالات أخرى .

أنا أعرف أن هناك أسس و أنظمة ثابتة في الأفكار لا تتغير مع التغييرات الطارئة اليومية ، بغض النظر عن أن السياسة فن الممكنات و تحقيق المستحيلات ، و هناك متغيرات قابلة للتغيير حسب التجربة اليومية مع الأحداث ، و عليه فإن الثابت في فكر كل كوردي أن الكل يتمنى دولة كوردية ، و المتغير في هذا الأمر هو اللعبة السياسية التي تمنع قيام هذه الدولة ، من سياسة دولية و تلك التي تتعلق بدول الجوار و الخارطة السياسية التي ترسمها أمريكا في الوقت الحالي لمنطقة الشرق الأوسط على إعتبار أنها سيدة الكون . و هنا لا أحمل وزر عدم إمكانية قيام الدولة الكوردية عرب العراق و لا فرس إيران و لا أتراك تركيا ، بل أحمله السياسة الدولية و الضوابط و الثوابت و المتغيرات التي تكتنفها .

أن أتمنى أو أحلم بدولة كوردية شيء ، و أن يكون لي موقف إيجابي من الإنتخابات العراقية شيء آخر ، فمشاركتي أو مشاركة أي كوردي في الإنتخابات العراقية لا تعني بالضرورة تخلي الكورد عن حلمهم ، بل يعني إخلاصهم لقضيتهم العادلة و قياسها بالمقياس الصحيح و النظر إليها من الزاوية الصحيحة .

فإذا كانت عودة الكورد إلى أحضان العراق (ولو مؤقتاً) يحقق المعادلة السياسية العادلة في المنطقة فأهلاً بها ، لكن الأهم من ذلك أن يحترم الآخر و يقدر هذه التضحية و الرغبة بالتعايش الأخوي على أرض واحدة من جديد ، و هنا إختلافنا في الآراء و الأفكار لا يعني أن لا نحترم بعضنا البعض ، فكوني أرفض أفكارك لا يعني بالضرورة أنني أكرهك ، فلو كنت أمشي حسب نظرية من لا يتفق معي فهو عدوي ، لما ذهبت للمشاركة في الإنتخابات !!

المهم بقينا ليلة 30 على 31 من جنيوري حتى ساعة متأخرة جداً من الليل في تلك البناية العجيبة من أجل إكمال تفاصيل إستلام صناديق الإقتراع ، و عدنا إلى المنزل لكي نعود في اليوم التالي و نفرز أصوات ناخبين يمارسون حقهم الطبيعي لأول مرة في حياتهم في أجواء ديمقراطية ، ففكرت مرة أخرى في شهدائنا و موتانا الذين كانت جل أمانيهم أن يأتي عليهم يوم و يروا يوماً مثل هذا اليوم.

إنتهت عملية الفرز و أعلنت النتائج و عاد كل منا إلى داره ليأوي إلى فراشه و يكمل حلمه ، بعد أن أدى واجباً إنسانياً و أخلاقياً بإخلاص و تفاني قبل أن يكون أي شيء آخر..  

venusfaiq@yahoo.co.uk

HOME