تحتل بهيجة بوران مكانة بارزة في تأريخ اليسار التركي . لقد كرست هذه الأستاذة الجامعية و المرأة العنيدة حياتها للنضال من أجل المبادئ التي آمنت بها. كان بإمكانها أن تعيش حياة رغيدة  بعيدا عن منغصات السياسة و حياة السجون و المنافي . لكنها أبت إلا أن تتبنى قضايا المضطهدين و المظلومين . تميزت بوران بتطبيق ما كانت تؤمن بها على صعيد الحياة اليومية . لقد تحملت ما لم يتحمله الكثيرون من رفاق دربها الذين آثروا التخلي عن أفكارهم و مسايرة أولى الأمر . وصفت في رسالة من السجن الى محاميتها حياتها الشخصية بأنها عبارة عن سلسلة من الميلودرامات الغير معقولة على الصعد المهنية و السياسية و العائلية و يحق للناس أن لا يصدقوها لكم التراجيديا التي تتضمنها . من الصدف الغريبة أنها ولدت يوم عيد العمال العالمي و تساءل الكثيرون ترى هل كان لهذا دورا في تبنيها لفكر اليسار و قضايا العمال و الفقراء . ولم تتخلى بهيجة بوران عن النشاط السياسي و مقارعة الفاشية و الطغمة العسكرية في تركيا الى آخر يوم في حياتها ، فقد ماتت بعد ساعات فقط من عقدها لمؤتمر صحفي أعلنت فيه نبأ تأسيس حزب جديد يوحد في صفوفه قوى اليسار التركي.

تعرضت بهيجة بوران بسبب أفكارها السياسية للفصل من كلية اللغة ، التاريخ و الجرافيا بجامعة أنقرة و جربت حياة المعتقلات و السجون التركية لأكثر من مرة ، بل و وضعت طفلها الوحيد في السجن . مع ذلك إشتهرت بوجهها المبتسم دوما . وكانت بوران على حد تعبير أحد أصدقائها المقربين يسارية حرة و وردة في صحراء السياسة التركية القاحل . أثارت قصة حياتها الغنية بالأحداث شغف العاملين في الحقل الفني الذين يعملون على تحويلها الى فيلم سينمائي .  وكانت بهيجة بوران أول إمرأة تتولى زعامة سياسي في تأريخ تركيا .

ولدت بهيجة بوران في بورصة في الأول من مايس عام 1910 . لقد عاشت في فترة تأريخية مليئة بالأحداث الجسام في تركيا و المنطقة . فقد كانت ولادتها بعد عامين من ثورة الأتحاد و الترقي و عام واحد فقط من خلع السلطان المستبد عبدالحميد الثاني و إعادة العمل بالدستور العثماني. كما  عاشت كطفلة صغيرة كوارث و أحداث الحرب العالمية الأولى و زوال دولة آل عثمان القروسطية و قيام الجمهورية التركية على أنقاضها . تكونت شخصية بوران في ظل سيادة أفكار مصطفى كمال  القومية المتطرفة و العلمانية المتشددة التي وفرت للفتيات من أمثالها فرصا جيدة للتعليم و العمل و المشاركة في الحياة العامة .

أكملت الدراسة الأبتدائية و المتوسطة و الثانوية في أسطنبول . أما دراستها العليا فقد كانت في جامعة مشيكان بالولايات المتحدة الأمريكية حيث درست علم الأجتماع . أثناء دراستها في هذه الجامعة الأمريكية تعرفت على المدارس الفكرية و الأجتماعية المختلفة التي كانت تعج بها ساحة الجامعات الأمريكية . وروت أكثر من مرة بأن الفضل في تعرفها على الفكر الماركسي يعود الى أحد زملائه الأمريكيين أثناء حديث عابر في إحدى كافيتيريات جامعة مشيكان .  بقيت بهيجة بوران مخلصة لهذا الفكر خلال سنى حياتها الباقية و التي بلغت نصف قرن بالتمام و الكمال .

 عادت بعد إكمال دراستها الى تركيا و تعينت عام 1939 أي في نفس العام الذي إندلعت فيه الحرب العالمية الثانية كمدرسة في كلية ( اللغة و التاريخ و الجغرافيا ) بجامعة أنقرة . وكان على الجميع آنذاك تبني الأيديولوجيا الرسمية الكمالية و بخاصة في الجامعات التركية . وساهم ذلك في خلق حالة من الجدب الفكري الأمر الملازم عادة لسيطرة الأنظمة الشمولية . و يتحول الناس خلاله الى مرددين لمقولات الزعيم و التهليل بإسمه . وكان من الصعب على اليسارية المنفتحة القادمة من الولايات المتحدة الأمريكية أن تنساق مع الجوقة الكمالية في الجامعات ، لذلك سرعان ما إصطدمت بالعقليات المتحجرة التي كانت تتحكم بالمفاصل الرئيسية في جامعة أنقرة .

الى جانب إنشغالها بإلقاء المحاضرات على طلبة قسم الأجتماع بكلية اللغة و التاريخ و الجغرافيا بدأت تولي إهتمامها بالنشاط الثقافي العام و محاولة ربط الجامعة بالمجتمع و العمل على التخلي عن فكرة إبقاء النشاط العلمي و البحث الأكاديمي بين جدران الجامعات و إصداراتها العلمية . وكانت باكورة نشاطاتها في هذا المجال أصدارها مع آخرين مجلة ( بلادنا و العالم ) و ( خطوات ) منذ عام 1941 . نشرت فيهما مع زملائها الذين شاطروها التوجه المقالات و الدراسات السياسية و الأجتماعية . لم تتحمل العقليات السائدة في الجامعة مثل هذه الظواهر لذلك تدخلت هيئاتها القيادية لدى الحكومة لوضع حد لمثل هذه النشاطات إذ قامت الأخيرة بمنع المجلتين بقرار صادر من مجلس الوزراء التركي عام 1944 .

لم تتحمل الحكومة التركية المتعاطفة آنذاك مع ألمانيا النازية التي كانت تمارس تأثيراتها على السياسات التركية من خلال سفيرها فون بابن ، الأفكار التي كانت تنادي بها الأستاذة اليسارية و زملائها في إظهار وحشية الفكر النازي و تطبيقاته على الأرض . التذبذب التركي بين المعسكرين المتحاربين خلال الحرب العالمية الثانية أمر معروف ، إذ وقفت مواقف في منتهى الأنتهازية مع هذا الطرف أو ذاك لتعلن في النهاية الحرب على ألمانيا بعد أن تأكدت من خسارتها للحرب ولكن دون أن تطلق و لو طلقة واحدة .

تقرر إجراء التحقيق مع بهيجة بوران و ثلاثة من زملائها بسبب المقالات و الأراء التي نشروها في مجلة ( خطوات ) ولكنها أستطاعت مع زملائها أن تكسب القضية و تعود الى طلابها و تستعيد وظيفتها الجامعية . لكن القوى المتحجرة في جامعة أنقرة لم تتخلى عن متابعتها و فتح تحقيق جديد معها و مع عدد من زملائها لكي تنال منهم في النهاية و تبعدها هي عن التدريس عام 1948 و تحرم بذلك الطلبة من أستاذة مثقفة و متحررة من القيود الكمالية المتزمتة.

وتذكرنا هذه بما جرى لزميل لها و لكن بعد ربع قرن تقريبا من ذلك و نقصد به الدكتور إسماعيل بيشكجي الذي تعرض للفصل من الجامعة و قضاء سنوات طويلة في السجون التركية بسبب مواقفه  الأنسانية و العلمية من القضية الكردية في تركيا و إدانته للسياسات العنصرية التركية بحق الكرد خلال عقود القهر و الظلم على مدى القرن العشرين .

تزوجت بهيجة بوران عام 1946 من مترجم معروف هو نوزاد هاكو . لم ينل قرار السلطات الجائر من عزيمتها بل واصلت بحوثها و نشاطاتها الثقافية . إشتهرت بهيجة بوران بدراستها المقارنة عن البنيان الأجتماعي في قريتين إحداهما سهلية و الأخرى جبلية . كما أن دراساتها المبكرة في حقول الأتصال و أدواته و التغييرات الأجتماعية كانت مثيرة لأهتمام أوساط ثقافية و علمية واسعة في تركيا  . لقد كانت هذه مواضيع جديدة في تركيا . وتعتبر طروحاتها في هذا المجال حتى بعد إنطلاق الثورة التقنية و المعلوماتية التي نعيش في ظلها مثيرة للتقدير والأحترام .

لقد كان دخولها عالم اليسار من أبواب الفكر و ليس من خلال التنظيم الحزبي أو النقابي كما كان الحال بالنسبة للأكثرية الساحقة من اليساريين الترك. ومن هنا فهي لم تكن مجرد زعيمة يسارية بل كانت مفكرة أيضا . وقد يكون هذا السبب بالذات وراء تمسكها بهذه الأفكار رغم تخلي أعداد كبيرة من اليساريين الترك عنها . 

أسست مع آخرين (جمعية محبي السلام التركية - عرفت في الكثير من البلدان الأخرى بمنظمات أنصار السلام ) عام 1950 و أنتخبت رئيسة لها . وفي العام التالي إصطدمت بحكومة عدنان مندريس بسبب قرارها القاضي بإرسال 4500 جندي تركي للمشاركة في الحرب الكورية . إنتقدت جمعية أنصار السلام هذا القرار بشدة و أصدرت بيانا الى الرأي العام التركي قامت بهيجة بوران بتلاوته في إحدى ساحات أنقرة و وزعت نسخا منه على الناس . وما كان من الحكومة إلا أن القت القبض عليها مع عدد من رفاقها من أعضاء الجمعية و صدر الحكم بحقها بالسجن لمدة 15 شهرا . وكانت منظمات أنصار السلام متهمة بممالاة الأتحاد السوفيتي الأمر الذي كان يعرض المنتمين اليها الى  مضايقاة السلطات الحكومية .

كما خضعت بوران للتحقيق مع عدد آخر من السياسيين خلال التحقيقات التي جرت بشأن النشاط الشيوعي في تركيا في بداية الخمسينات . و ألقي القبض عليها في عام 1953 و قضت حوالي العام في السجن ليطلق سراحها عام 1954 .

إنضمت الى حزب العمال في تركيا عام 1962 . وكان الحزب قد تأسس عام 1961 بعد إصدار دستور جديد عقب الأنقلاب العسكري الأول الذي شهدته تركيا في مايس 1960 . لقد وفر هذا الدستور بعض الحريات الديموقراطية الأمر الذي سمح بتأسيس حزب إشتراكي في تركيا . وفي ظل تنامي و إنتشار الأفكار اليسارية و حركات التحرر الوطني للشعوب المستعمرة تحول حزب العمال خلال فترة قصيرة الى قوة سياسية مهمة تحت قيادة محمد على أيبار حتى أنه حصل على 3 % من أصوات الناخبين في إنتخابات 1965 . و لعب الكرد من طلبة الجامعات و المثقفين و الكوادر النقابية دورا كبيرا في الحزب . وكان من بين 15 نائبا أنتخبوا على قائمة الحزب في تلك الأنتخابات أربع من الكرد . كما أنتخبت بهيجة بوران الى البرلمان عن ولاية أورفة الكردية في تلك الأنتخابات .

منذ المؤتمر الأول للحزب أنتخبت بهيجة بوران لعضوية هيئته التفيذية المركزية. و لكنها   دخلت في صراع مع زعيم الحزب محمد علي أيبار منذ منتصف الستينات . فقد بدأ الأخير يميل الى النموذج الأوروبي الغربي للأحزاب الشيوعية و الماركسية أو ماعرفت بالأوروشيوعية ، إذ أخذت الأحزاب الشيوعية الأوروبية تتحرر من هيمنة الحزبين الشويعيين السوفيتي أو الصيني . لقد أخذت هذه الأحزاب تضع الظروف الموضوعية في بلادها في مقدمة أولوياتها و أساسا لتحليلاتها السياسية و إختيار طريقها الى بناء الأشتراكية الأمر الذي لم تحاول الأحزاب الشيوعية الشرقية أن تجربه إلا في حدود ضيقة . لقد أدان أيبار القمع السوفيتي لحركة ربيع براغ في عام 1968 بينما لم تقم بهيجة بوران بذلك بل إتهمت أيبار بالتخلي عن الماركسية و الأشتراكية العلمية . مع ذلك و رغم تحالفها مع سعدون إيرن ضد محمد علي أيبار لم تتمكن من تصفية الأخير في المؤتمر الثالث للحزب الذي إختار أيبار زعيما للحزب مرة أخرى . وهكذا أصبح هناك تياران متنافسان داخل الحزب حتى قرر أيبار ترك الحزب عام 1969 و قد إنتخب المؤتمر الرابع الذي عقد في أكتوبر 1970 بهيجة بوران زعيمة للحزب. وكانت هذه أول مرة تتزعم فيها أمرأة حزبا سياسيا في تأريخ تركيا و لم تكن مجرد زعيمة للحزب بل مفكرة أيضا .

ويعتبر المؤتمر الرابع الذي عقد في أكتوبر من عام 1970 و الذي أنتخبت خلاله بهيجة بوران زعيما للحزب منعطفا مهما في تأريخ الحزب و اليسار التركي بل و في مجمل التاريخ السياسي التركي .إذ  وقف حزب العمال التركي في مؤتمره الرابع هذا و بقيادة بهيجة بوران موقفا شجاعا من القضية الكردية في تركيا . فقد إعترف هذا الحزب القانوني لأول مرة في تأريخ الجمهورية التركية بوجود الشعب الكردي في تركيا و بتعرضه على أيدي الحكومات الفاشية الى القمع و سياسة الصهر القومي و المذابح الدموية . كما طالب بالتخلي عن تلك السياسات و إقرار الحقوق المدنية و حقوق المواطنة الكاملة للكرد في تركيا . و طالب بإيلاء الأهتمام بتطوير كوردستان تركيا ( الولايات الشرقية أو جنوب شرق الأناضول وفق التسمية الرسمية) إقتصاديا و إجتماعيا و ثقافيا و العمل على القضاء على الظلم الأقطاعي و القبلي و محاربة الفساد و القمع البوليسي . و دعا الحزب اليساريين الكرد و الترك الى التعاون و النضال معا من أجل تركيا جديدة تزول فيها العنصرية و الفاشية و الظلم الطبقي .

جاء موقف الحزب هذا في ظل ظروف موضوعية سادت تركيا و البلدان المجاورة و بخاصة العراق بعد إتفاقية آذار عام 1970 . من المؤسف أن هذه الأوضاع تغيرت بعد فترة قصيرة لصالح قوى اليمين و الفاشية القومية و الدينية التي قامت بإنتهاج أبشع وسائل القمع و التنكيل ضد الحركة اليسارية و  حركة التحرر القومي الكردية.لقد شهدت الحركتان جزرا كبيرا الأمر الذي أجبر حزب العمال الى تغيير مواقفه إزاء القضية الكردية خوفا على منع الحزب من النشاط السياسي أو التنكيل بجماهيره . وكان الحزب قد شارك في التجمعات الجماهيرية التي شهدتها المناطق الكردية في عام 1968 و كان الحزب يدرك بوضوح الدوافع الأجتماعية وراء تلك المظاهرات و التجمعات العارمة .  وشهد الحزب في ذلك الوقت بالذات الصراع بين توجهين سياسيين واضحين و متقاطعين في تحليل الأوضاع و بخاصة إزاء التدخل السوفيتي في جيكوسلوفاكيا و ثورات الشباب في أوروبا الغربية .  

وبسبب موقف الحزب المذكور من القضية الكردية و إنقلاب 12 آذار 1971 المعروف بإنقلاب المذكرة منع الحزب من ممارسة النشاط السياسي و جرى إعتقال بهيجة بوران من جديد و حكم عليها هذه المرة بالسجن لمدة 15 عاما لم تقضي منها في السجن سوى عامين . مع الأنفراج السياسي الذي شهدته تركيا منذ منتصف السبعينات قامت بهيجة بوران و رفاقها بأعادة تأسيس الحزب و أنتخبت مرة أخرى زعيمة للحزب . لقد لوحظ تراجع مهم في موقف الحزب من القضية الكردية الأمر الذي أدى الى ترك عدد كبير من اليساريين الكرد لصفوفه و قيامهم بتشكيل أحزاب كوردستانية خاصة بهم. ويمكن إعتبار ذلك بمثابة نقطة الأفتراق بين الحركتين . وقد تزامن هذا التراجع في موقف الحزب من القضية الكردية مع النكسة التي حلت بالحركة الكردية في كوردستان العراق نتيجة لأتفاقية الجزائر بين صدام حسين و شاه إيران في السادس من آذار عام 1975 .

بقيت بهيجة بوران تتحدى السياسات الحكومية فقد نزلت مع عدد من أنصارها الى الشوارع في الأول من مايس عام 1979 رغم منع السلطات للناس من الأحتفال بالأول من آيار بسبب الصراع بين القوى اليسارية و الجماعات اليمينة المتطرفة و الذي حول المدن الكبرى الى ساحات حرب حقيقية بين المتطرفين من كلا المعسكرين .

وبعد إنقلاب 12 أيلول 1980 جرى منع الحزب من جديد و ألقي القبض على بهيجة بوران و عدد كبير من اليساريين الترك و السياسيين الكرد . وبعد مدة قصيرة جرى السماح لها بالخروج الى خارج تركيا ربما بسبب عمرها البالغ آنذاك السبعين عاما . لقد خرجت مع مجموعة من قيادات حزب العمال في تركيا الى خارج البلاد و لجأت الى بلجيكا حيث عاشت سبع سنوات كلاجئة سياسية. 

لقد سحبت منها جنسيتها التركية بعد أن رفضت الأنصياع لطلب الطغمة العسكرية الحاكمة عام 1981 بلاعودة الى تركيا .   

توفيت في العاشر من أكتوبر عام 1987 في بروكسل ببلجيكا بعد ساعات فقط من مشاركتها في مؤتمر صحفي إعلنت فيه عن تأسيس حزب جديد يجمع شمل اليساريين و الشيوعيين الأتراك . وبعد أخذ و رد طويلين مع الأوساط الحاكمة في تركيا جرت الموافقة على نقل جثمانها الى تركيا حيث  دفنت في مقبرة زنجيرلي كوي .