الشاعرة مهاباد قره داغي

عشقتْ شمس الحرية، لكي لا تموت في الظّلام.

عبد الحكيم نديم الدّاوودي

   

 

مهاباد قره داغي

من ارشيف موقع كردستان نيت

في شهادة امام تاريخ الثقافة الكُردية وتحديداً في خريف 1999 عندما افصحت لمجلة حجلنامة العريقةعن ألمها الدفين لمذابح بني قومها وعن حزنها المخبوء خلف تجاعيد الصّبر. في قلب انسانة شارفت الردى وكانت قاب قوسين او ادنى من رحيق كاس الشهادة، في وطنٍ محتلّ بقوانين الطوارئ ومحاكم التفتيش، ساترك الشاعرة التي عشقت شمس الحرية ان تسرد لنا وللاجيال المقبلة،وكما سجّلت شهادتها الموثقة بروحهاو بحسراتهاالصّادقة لوطن مقدّسٍ،ولحبٍ مخبوءٍ في القلب ولخارطةٍ ممنوعةٍ اسمها كُردستان.عندما سألوا الأديبة المتألقة سؤالاً فوقَ منطق التواضع وادنى من خط التباهي.

 لماذا تكتبين .. .... يامهاباد؟!. او بصياغة خالية من علامات استفهام، اسئلةٌ لا تحتوي في جوهرها على عِلة دوران القلب في مدار الروح، لحظة الموت عشقاً، او الجنون من فرط هجرة طيور بيادر الخير في سنين الحرائق. وينتظر المحرر نطق الذكريات  بالسّرد البريء الموشي بعذاب الطفولة المسكونة باعتقال كل من يحلم بعشق كُردستان، او يتغزل شعراً او نثراً لارض كُردستان.

فتنطق عاشقة شمس الحرية انشودة من الكلمات الدافئة بحرارة الكبد كي تسمعها الانسانية في ارجاء العالم.لماذا تكتب هذه القدّيسة بمحراب عشق ارض كردستان!؟  احبتي اينما كنتم، أكتبُ كي لا أموتَ في الظّلام ... وماذا يعني  كي لا أموت في الظّلام...!

فاقرؤا على مهلٍ شهادتي المتواضعة ، ولدتُ رغماً عني في وطنٍ محتلٍّ . ومثل هذه الولادة هي كارثة ، كارثة ان يُولدَ المرءُ، ولا يرى النور، ولا يسمعَ سوى الشتائم، والإهانات، فتمردتْ روحي في الواقع المهيمنِ والمخيف، وجاءت الكتابةُ كملاذٍ ليضمّ بينَ جنباته روحيَ المتمردة، والشريدة......... وماذا  بعد تمرد الروح على الواقع المهين؟

تذهب في عمق الخيال محلّقاً فوقَ مدينتها المنسية كفري، لتقطرَ رذاذاً في صباحات جبل باوه شاسوار، وتنصت في خشوع لمناجاة شهداء قرية أوبه ري وتلتقط بحذر بقاياقصيدة مساءات عائشة قبالة حي امام محمد. بنيتُ وطني في الخيال، وكنت فيه حَرة، سيدة نفس. وطنٌ أحببته دون لومٍ من أحد، او عقابٍ عندما أمارس حُبّي العظيم له.

هل لنا ان نلتقط صورةً تذكاية بجانب ذلك المعبد الاسطوري الشامخ بالمحبة الطفولية المعتقلة خلفَ تهمة الكتابة لعشق الارض وحرية الانسان.بكل سرور ودعني ان اهديك  هذه الاضمامة القزحية من دفتر ذكريات معتقلة بسبب الانتماء لاصولها الميدية، كنتُ في الرابعة عشرة من عمري، اعلنتُ فيه حُبي لـ كُردستان، فاعتقلتُ لمجرد هذا الحُب الطفولي البرئ لاهلي وأرضي.آنذاك بدأت التساؤلاتُ تطرق روحي، وتملأ وجداني، وجدتُ أجوبةً لبعضها، وما زلت أبحث عن غيرها في الكتابة، عالم الأسرار والمفاجآت.

 

فبعبارة موجزة انكِ تقارعين بمداد قلمكِ سرايا الظّلام، وتعسّف الواقع المُرّ، فالكتابة  عندكِ منذ الطفولة تعبير عن هموم وطنية، اكثر من انفعالات الإفاقة من صدمات ما يسّمونه بالارتطام المميت بعجلات التقاليد البالية.

نعم اني امارس الكتابة كما جاءت في مستهل شهادتي لحجلنامة كي لا أموتَ في الظلام، في ظلام الواقع. أكتب لاعيشَ لحظات الحُبّ والحرية، وأحسّ بنعمة هذه الحياة.

في الشعر أحاول أن أكونَ مِرآة لانفاس وأحاسيس الإنسان. وفي القصّ أحاول خَلْق الإنسان كما أتمناه، وليسَ كما خلقَه الله. أخلق أوطاناً وبلداناً مثلما أتمناها، ليس مما هو في الواقع.

 

تقصيدين بعملية التكوين وصيرورة ثانية بعد شهادة الميلاد على كوكب الأرض للقاص او الشاعرالشامخ بكبرياء الحرية عندما يروّض جموح كائناته الأرسطوية في اطار عملية الإبداع.!

نعم ..... القاص والروائي هو الخالق على الأرض: خالق الأشخاص التي لا تقبل الذّل، بروحها المتمردة الرافضة للإستقرار في أجساد مهزومة، او أجساد ترفض أرواحاً مهزومة. لنبتعد قليلاً عن فضاءات شهادتك ونعود قليلاً الى زمن اوراقك الشعرية المنشورة في كتيّب منشور كسيرةٍ ذاتيةٍ لبشمركةٍ عاشق متمردٍ اضناه الأعراف من الوصال مع حبيبته فاطمة من سليل الصّوفية وتحت عنوان مدهش لمخيلة العشق

  ( فاتيله) او مذكرات الشهيد د. آتيلا في اربيل سنة 1992.لا أدري أهي نواح الروح أم عتاب الملائكة من شرور خطايا كُتّاب التاريخ المزيّف في تلك القصيدة البكائية الطويلة في مأتم آتيلا المقاتل العاشق  الأبن البار لثوار ملاحم بندر تاله وباوه شاسوار.سنحاول ان نقترب من دفء مشاعرالقلوب المزدحمة بصور الملاحم وصولات رجال البارتيزاني بعد مأساة أنفلة كرميان في عام الشؤم 1988.

 

كانت دروب

كفري في مذاق متعطش لآخرلقاء طلعتك

وفي جريكَ الخاطف كنتَ تماثل الغيم

كنتَ كغيمة متقطعة تنزل بلا  كللٍ

 بأفق هذه المدينة الجريحة،

 فوق القمة وتمتزج القمة مع قلبك،

 وعشقك مع الجبل يصيران نهرا .

 

 

في مساءٍ ما، كان الغيم

 يقول د.آتيلا اكثر مني حيوية

 والقمة تقول انه اكثر مني علواًً

  وصخرة الجبال تقول انه اكثر مني عطشاً

 والنسركان يقول لرؤية الحقائق

 والانتباه للارض المقدسة

 انه كان اكثر مني عاشقاً

 واشعة أكثر ومضةً

 من لهيب البركان وألسنة نيران نوروز.

 

لنتحول الى المقاطع الأكثر إيلاماً في بكائية مهاباد لإبن بلدها العاشق د. آتيلا .

 

عشر سنوات الموت في بحث دائبٍ

 من مكانٍ الى مكان

ومن جبلٍ الى جبل

 ومن منطقةٍ لأخرى

ومن نبعٍ لنبعٍ آخر

 ومن فناء هذه الشجرة وخلفَ تلك الصخرة

وهو يتملص منه

ولا يرفع له راية الإذعان.

 

لحين إيابهِ عندماجعلَ من قلب كفري

 ميداناً لكرنفال المجد

وحوّل كبد كفري.

 الى مجلس للنشيدِ والأغنية.

  ونحاول في خاتمة مطاف نواحها وتمردها على مجانية الموت في ربوع كردستان بدل مجانية الدّواء والتعليم. ان نجفف بطرف ملاءة أمٍ كرميانيةٍ أدّمعَ الأسى، بشهقة مؤطرة الخلود لقامات عشّاق شمس الحرية.

 أواه من هذا الخراب المجلب للمأتم

كم أبناء الكُرد أعمارهم قصيرة،

 وكيفَ يحصدهم منجل الردى في ريعان شبابهم.

وبشرى فرحٍ لكُردستان،

هامات ابناءها كقمة قنديل في العُلى

 ويستشهدون في مقارعة الآعداء.

يقيناً كلنا في رقعة محصورة من جغرافية معقدة،صنعتهاأعداء أمّة تواقة للعيش بأمان دون مذابح ومجازر، نعود ونتهم الاسلاف في تقصيرهم لتسليم مقاليد كتابة تاريخ لاعداءهم، أليسَ التاريخ بمجمله، هو فتنة الماضي والحاضر، مثلما أشار لتلك الفتنة الاديب الكردي محمد عفيف الحسيني في توطئته لاحتفاء بشرفخان بدليسي مضيفاً - بان ثمتَ تاريخٌ لم يكتبه أحدٌ: التاريخ لبشرٍ عاشوا. تشققت أكفهم،وهم يتضرعون من أجل كيانٍ يجادل الجيران في التقشف المشترك للحياةوترفها-.وبصدد المعاهدات التي اقرّت في قسم من بنودها انشاء الدولة الكردية، ومن اهمّها معاهدة سيفر عام 1920 وكماأجاب د. زهير عبد الملك في سياق سؤال ماهي نصوص المواد المتعلقة بالأكراد في معاهدة سيفر واتفاق لوزان؟ معاهدة سيفرهي:( الوثيقةالسياسية الدولية الوحيدة التي تنص على امكانية اقامة دولة كردية مستقلة،وهكذا لعب الصراع بين مصالح الدول دوراً أساسياً في إلغاء معاهدة سيفر).

ولا أدري لماذا ورثنا من اجدادنا كل هذا التيه بين ممالك الاحزان، ولم يلتفت أحد لصراخ تلكَ الامصار المهجورة، ومن غيّبتهم قسراً ِسنين الشتات، والحيْف نفسه المَّ بالسّلفِ المنكوب كي يساقوا للموت المجاني في حروب طغاة استانة المعروفة بـ (السفربر).وامتداداً للجيلِ المُبّعدِ والمّوزع ِوفقَ المصالح الدّولية،وهذا الفصيح الكردي سليم بركات في تحفته النثرية نكبة العدم يزحّ الظلام والشبحّّ معاً، معوّلاً على مفاجآت الأيام ( الشبحُ الذي كنته متشبثاً بمدار الريح، قرب ضريح الاسلاف هناك، يتخاطفه الذهول من مباهج المرئيين شعوباً مُعَسكِرة في تاريخ بلا لهاث، في يقينٍ بلا لهاثٍ،في حمّى كالقُبلِ إذا مَّستْكَ أدميَتَ شفتاك).

واذهب حد الاتفاق مع ما ذهب اليه د عادل كرمياني بان( كل أشياء الكون وكائناته منذ الازل تمتلك أبعاد الازمنة الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل ، فذا كانَ المستقبل معاشة لاحقاً فان الماضي تم تجاوزه).

فمهاباد قره داغي تلك القاصة والشاعرة التي تجسّدت في همومها الانسانية هذه الاحداث وبكل ابعادهاالمكوّنة للزمن، َمرة كبطلةٍ واقعيةٍ على مسرح المأساة، ومرّات كمدافعة عنيدة عن أدنى حقوق للعيش كانسان، فليس ببعيد على مثل هذه الموجة المثيرة للجدل والقلق ان تمزح معَ الموت، اذا شاخت الشواطيء من فرط السكون.فاي قَدَرٍ هذا ان تجابهَ بطراوة طفولة بريئة ومن فرط عشق كردستان سكاكين الجلاّدين، وهواجس اتباع الظّلام من انبأكِ كل هذه الآسرار بانك مولودة قبلَ الأوان في ارض محتلة، ولماذ تشاركينَ  نواح اوراقكِ  في كلّ مرثية مخفيّة بين نشيج الكلمات لمن عمدوا طريق الحياة بالدّماء،اعترفي،من هُم الذّين يقصّون لكِ كل هذه الحكايات الممنوعةمن زمن وثوب كاوة الحداد في نوروز! لحين صولات خالد كرمياني، ولِمَ يطلق الكرد  تسمية مهاباد على أحفادهم، يقترب المحقق في الداخل بدل الحوار بالمنطق بأدوات التنكيل كالمقص مهددا بقطع اللسان، ان لم تقّر بالحقيقة في ثوان. وفي خارج السجن الكبير يطاردنا مقص الرقيب كي لا نتعودَ على الفصّاحة والكتابة بصدق الكلام، وخلفَ غرف التحقيق، يرهبنا المحقق ثانية بمقصٍ لقص اللسان. وربما هذا غيض من فيض سِجل معاملةدعاة دولة الحرية ونشرالاشتراكية،فمن يطّلع على رواية مهاباد ـ عامٌ في الجحيم ـ  والتي كتبت كمذكرات سجينة تكفي ان تلعنَ كل يومٍ قوى الظّلام، وكل من يحّن لعودة عصر الظّلام. ولقد نشرت مهاباد تلك اليوميات الحزينة قبل سنة وفي حلقات على صفحات جريدة ميديا النصف الشهرية في اربيل.فتنوعت شجون الكتابة لدى مهاباد بين الشعر والقصة والرواية وبينَ الترجمة،وديباجة المقالات في قضايامعاصرةعديدة،في مجال حقوق المرأة ودورهافي المجتمع المدني الجديد.فاصدرت العديد من الدواوين الشعرية والمجاميع القصصية والكتب المترجمة من السويدية والعربية.لذا تعتبر مهاباد من ابرز الاصوات الشعرية النسائية الجريئة في ميدان الشعر الكردي المعاصر، كونها صاحبة رؤية شعرية حالمة، في قراءة سطور الجوانب الانسانية الشفافة. ومواجهة الحقائق بعقلية متفتحة، ولهذه الاسباب نجد ان جلّ كتاباتها مشحونة بمقومات الحرية،وعبر فضاءات تجربتها في الحياة تأتي معظم قصائدها في تلقائية سلسة ومشبعة بعطر المحبة،بحثاً عن طمأنينة أبدية لهلع القلوب.نصوصها تحوي بينَ لحظاتها القلقة مفاجآت للترحال نحو المجهول،وبين دموعها لوطنٍ مكلوم بنقاط التفتيش، وحسراتٍ تتخطى عنف الانفجار بين حواجز امرأة تتمنى معانقة حرية الإبداع. مهاباد شاعرة خارج الطّاقات الإعتيادية في البوحِ عن كوامن الظّلم،ومن قسوة الطبيعة والبشر والمجتمع ،انها تبدو في مجل نصوصها وكتاباتها شاعرة وكاتبة مشاغبة تثير زوبعة في التغيير حسب أحكام منظّري دعاة التقوقع ،وعبّاد الزوايا المعتمة،ونحن نراها استقامة طبيعية.للتغير نحو الافضل في كل شيء، هو العنفوان وعين الابداع في مجمل اشعارها وكتاباتها المعاصرة.

فترجمت كل تلك المشاعر الفيّاضة في سنين الِشتات وأسفار الغربة،في مجاميع شعرية  وقصصية مطبوعةوكتب مترجمة.منها: بانورما،الجبال حقول للذرا،الخيال، خرير الرّوح، الرحيل.وفي مسك الختام اسمعكم جانباُ من همساتها الشعريةالتي همست باذن الأيام في ديوان الجبال حقول للذرا المطبوع في السويد عام 1996 :

 

 

فصلٌ غامق

 

في ذلك الصّباح، عندما قتلوا الّشمس،

ولدتُ قصيدةً ما!

فسميّتها الشمس

في ذلك المساء، عندما امتصّوا دَم الربيع

زيّنتُ جدار فلبي بلوحةٍ ملونةٍ فاسميتها فصلٌ غامق.

 

بانوراما

الخيال

قصرٌ مُشيّدٌ من العُشب.

 

القَلَمْ

منفى الفِكر والدّقات.

 

الحِس

ملاذٌ لاسرار الموضوع.

 

الأرض

غِطاءٌ سرمدي.

 

الماء

دكان جسدٍ مقفل وسدٌّ سميك.

 الحرب

لعبةٌ بلا خاتمة.

الورق

ميدانٌ لسباق العين.

الموت

بداية أغنيةٍ بلا لحن.

الرِجُلْ

لاعبٌ جاهلٌ ومقاتلٌ بلا مقابل.

المرأة

معْملٌ لإنتاجِ لُعَب خرساء.

الولادة

نهاية حُلُمٍ هادئ.

الشعب

سُلّم مبْنيٌّ من العظام.

البرلمان

مراحيضٌ مرشوشة بالعطور، ومسرحية غير واقعية.

الوعي

إعلانٌ قبلَ الأوان، والبحر مملكة العدم.

 

جبل باوه شاسوار في كفري من ارشيف مجلة معلم الكرد عدد 30-31

 

عبد الحكيم نديم الدّاوودي                                                                      

 

المصادر والهوامش:

 

1 ـ مجلة حجلنامة الفصلية العدد 2 1999، المجلة الفصلية التي تعنى بشؤون الثقافة الكردية التي تصدر في السويد رئيس تحريرها الأديب محمد عفيف الحسيني.

2 ـ مذكرات الشهيد د. آتيلا 1992 اربيل. ترتيب وتنقيح .مهاباد قره داغي.

3 ـ مجلة حجلنامة الفصلية العددان 5- 6 السويد.

4 ـ الأكراد وبلادهم كردستان

بينَ سؤال وجواب د. زهير عبد الملك مط آبيك 1999 السويد.

5 ـ   قراءات في القصّة الكردية د. عادل كرمياني دراسة في قصص سالار اسماعيل بغداد 2003