آفاق المجتمع المدني في العراق

د. بير ممو

وزير الدولة السابق لشؤون المجتمع المدني في العراق

   

إن إعتماد الدولة على المجتمع المدني و مؤسساته ألإجتماعية الغير حكومية علامة نضج للدولة ألتي أعادت النظر بدورها وأسلوب تدخلها في الحياة العامة وقبلت أن يحتل المجتمع المدني موقع النخاع الشوكي من النظام ألإجتماعي بدل أن تكون عموده الفقري كما أن عربة الديمقراطية في المجتمع السليم تسحبها حصن المجتمع المدني، فالدولة الديمقراطية لاتقوم فقط على وجود دولة قانونية وديمقراطية فحسب ولكنه يتجاوز ذلك نحو توطين مبادئ الديمقراطية في ممارسات الفرد والجماعة معا"كما أن النضوج الديمقراطي يركز على السلطة ألإجتماعية أكثر وأكثر مما هو متعارف عليه على السلطة المركزية وهنا تظهر فكرة التعددية.

إن ألمجتمع المدني يقوم بتنظيم المصالح العامة وهذا لايعني إنشاء دولة بديل أو نقيض كما أنه لايمكن قيام مجتمع مدني قوي في ظل دولة ضعيفة بل هما مكوننان متكاملان للبعض منسقين بينهما في توزيع ألأدوار وليس ألإنفصال كما يتصوره البعض. فغياب الديمقراطية يعني غياب نشاط المجتمع المدني كما أن المجتمع المدني مجتمع مستقل الى حد كبير عن إشراف الدولة المباشر وله مقوماته مبتدأ" بالعمل الإرادي الحر أو الطوعي من قبل ألأفراد على هيئة منظمات أو نقابات أو جمعيات حقوق ألإنسان أو المرأة أو ألطفل أو ألبيئة وما غيرها كما عليها أن تقبل التنوع وألرأي ألآخر وأن لاتكون ربحية أو سياسية كما أنه يجب أن لاتطمح للوصول الى ألسلطة.

أن التأكد من صيرورة الديمقراطية في مجتمع ما يمكن قياسه بحيوية وإستمرارية منظمات المجتمع المدني في الدولة ، كما أن بروز ونجاح مؤسسات المجتمع المدني هو فشل وهزيمة للأنظمة القمعية. إن بناء الديمقراطية صيرورة فكرية وثقافية وإجتماعية وتاريخية يتطور على عدة أصعدة من أهمها أولا" المعايير الديمقراطية كألإنتخابات وثانيا"المؤسسات الديمقراطية كالسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية ثم ثالثا" المجتمع المدني وأخيرا" الثقافة الديمقراطية والتي نحن بحاجة ماسة اليها في كافة أنحاء العراق بما فيها الثقافة الدستورية والقانونية وثقافة الوعي ألإجتماعي. أن الديمقراطية وعي إجتماعي متقدم يفقده الشرق ألأوسط (الوطن العربي)، يفقده من زمن طويل عملا" بطبيعة المجتمع الشرقي من جهة وتوظيف الدين من قبل البعض لأغراضهم الفردية أو الجماعية كما هو الحال في بعض الدول العربية. أن المواطن يستطيع ممارسة هذا الوعي ألإجتماعي ضمن مقاييس حضارية يهدف من خلالها الى بناء ذاته وترصينها وتأسيس قاعدة وطنية كعين ساهرة على حياة المجتمع ومصيره. إن محل تواجد المجتمع المدني هي المنطقة العازلة بين السلطة والمواطن ودورها يتمركز حول حماية الفرد والدفاع عنه لدى السلطة كما أنه يتوجب على مؤسسات المجتمع المدني ضبط سلوك الفرد وتأمين إنسجامه مع الخصائص الكلية للدولة لأن سيادة القانون فوق كل شئ. إن إدارة الدولة عبئ ثقيل على الدولة الديمقراطية لوحدها لذى يجب أن تكون هنالك إدارة بالتنسيق مع الدولة من قبل مؤسسات المجتمع المدني كي تساندها في إدارة شؤون الدولة لأن ألأمن الوطني الشامل هو بكل مصداقياته وتطبيقاته رهن الفرد والمجتمع من جهة والحكومة والدولة من جهة أخرى.

إن البيئة الديمقراطية تبني أناس ديمقراطيين كما تربي البيئة البوليسية والفاشية أناس مجرمين فاشيين كما كان الحال لدى نظام صدام الفاشي. أن الحرية والديمقراطية هما من المستلزمات الإنسانية وهي رغبة دفينة لدى الفرد لكن تطورها وإخراجها مرتبطان حاليا" بالممارسات الديمقراطية والتي يمكن أعتبارها درجة الحرارة الملائمة لفقس المبادئ السليمة التي ترتكز عليها حرية الفرد والجماعة ، فللديمقرطية والحرية أعمدة ومؤشرات يمكن قياسها والتأكد من تواجدها بمدى تطبيق ما يلي:

1. يمكن إعتبار الشعب حرا" عندما يستطيع الفرد أن يعبر عن آرائه بدون خوف.

2. عندما يستطيع الفرد أن يمارس طقوسه الدينية بدون أية عرقلة.

3. عندما لايعاني الشعب من الجوع ويكون بمقدور كل فرد أن يمارس حرفة التجارة الحرة وأن يكون هنالك ضمان إجتماعي أو إقتصادي يضمن حياة الفرد وحياة عائلته.

4.عندما لايكون هنالك أي خوف من ألإضطهاد أو ممارسة العنف ضد الشعب.

 

إن نجاح الديمقراطية ليس مرتبط بالمستوى المعاشي فيمكنها أن تنجح بالرغم من تواجد الفقر والهند خير مثال على ذلك لأن المجتمع المدني ليس ساحة للتنافس ألإقتصادي بل هي ساحة للتنافس الثقافي  إنطلاقا" من التميز بين السيطرة السياسية والهيمنة الفكرية وألإجتماعية ويعتبر المفكر ألأيطالي غرامشي بأن المثقفين هم أداتها وكما يجب ان يسمح المجال لعدد من جماعات المصالح كي تقوم بدوها في نطاق التفاعلات السياسية لتتحول الى جماعات ضاغطة من أجل تحقبق مصالحها  والحفاظ على هذه المصالح ومنها جماعات رجال ألأعمال والنقابات العمالية كما هي الحال في الدول ألأوربية.

أن العلمانية هو الوجه ألآخر للديمقراطية وليس معناها تقليل دور السلطة الدينية بل تحقيق التعاييش بين الأديان المختلفة كما هو الحال في الهند والتي تعتبر أفقر دولة وأكبر دولة ديمقراطية في العالم، كما أن المبادئ الدينية ستكون لها حرمة أكبر وتقدير عالي لو أبتعد عن الساحة السياسية والقيام بدورها الخيري وألإنساني كما هو الحال في الدول ألأوربية إذ أن الكنائس تعتبر إحدى الجهات الرئيسية التي تقوم بألإهتمام بألفقراء والمعوزيين واللاجئيين المضطهدين وإدارة أمورهم على شتى أشكالها. فنحن ألأن بحاجة الى خلق توازن بين الدين والدولة.

إن إستحداث وزارة الدولة لشؤون المجتمع المدني في حزيران /2004 كان حاجة تتطلبها الظروف التي تمر بها العراق كنظيرتها وزارة حقوق ألإنسان والمهجريين والمهاجرين كما كان الحال أيضا" في السويد في بداية التسعينات عندما أستحدثوا وزارة المهجرين وحقوق ألإنسان للأجانب ، ولقد أستطاعت وزارة الدولة لشؤون المجتمع المدني في العراق أن تخطي خطوات أيجابية واسعة نحو دعم أركان الديمقراطية مبتدأة بالمساهمة في تدريب كوادر مؤسسات المجتمع المدني كمراقبين للإنتخابات خارج العراق ثم إنعقاد المؤتمر الوطني ألأول لمؤسسات المجتمع المدني العراقية في الفترة مابين 19-20/12/2004 وأعتبار هذا اليوم يوم مؤسسات المجتمع المدني بتأييد 600 ممثل لمؤسسات المجتمع المدني العراقية ثم تلاها فك إرتباط تسجيل هذه المؤسسات من وزارة التخطيط وربطها بوزارة الدولة لشؤون المجتمع المدني في كانون الثاني/2005 وكذلك أخذ الموافقة على فتح مكاتب ومراكز لتسجيل هذه المؤسسات وتدريب كادرها وغيرها من النشاطات التي قمنا بها خلال ستة أشهر أثبتت وجودها وأعطت مؤشرا" سليما" لتطوير فكرة مؤسسات المجتمع المدني في العراق مستفيدين من التجربة العالمية ولكن ألإحتفاظ بالهوية العراقية دائما" كما أننا أكدنا دائما" على رفض القوالب الجاهزة للديمقراطية لأن للشعب العراقي بكافة أطيافه ومكوناته ألإجتماعية والقومية والسياسية خصوصيته التي يجب ألإحتفظ بها .

ففي هذه الظروف البالغة التعقيد التي يمر بها العراق مطلوب منا جميعا" أن نفكر ماذا يستطيع كل فرد منا أن يقدم من جهد لبناء تجربة حضارية نرسي من خلالها دعائم مجتمعنا الجديد وطموحات أجيالنا في عراق ديمقراطي فدرالي موحد. إن تجربتنا في هذا الصدد لازالت في مراحلها ألأولى عند المقارنة بتجارب الشعوب التي سبقتنا في هذا المضمار، ونستطيع أن نقول بأننا نمر ألآن بالتجربة التي مرت بها اوربا في عصر النهضة وبعد مارتن لوثر والثورة الصناعية مع خلاف في طبيعة المجتمعين .

أن الهدف الذي نحن بصدده هو سلام لابد أن تأتي به بصيرة ألإنسان كما أن الواجب الملقاة على عاتقنا هو بناء أساس ديمقراطي علمي ثابت في هذه المرحلة التي يمكن تسميتها بالممارسات الديمقراطية وكذلك تشكيل مؤسسات المجتمع المدني النزيهة لأن أصحاب بعض النفوس الضعيفة يسيؤون إستخدام الديمقراطية لمصالحهم الخاصة إذ لامكان للأرهاب لحضارة وادي الرافدين كما أنه لو لم تنجح هذه العملية الديمقراطية في العراق ولن نستطيع صياغة عقد إجتماعي ودستور يضمن حقوق الجميع فأنها لن تنجح في أية بقعة أخرى في العالم العربي.

 

 

د. بير ممو

وزير الدولة السابق لشؤون المجتمع المدني في العراق