الجثة
مسرحية من فصل واحد
تأليف و ترجمة*: فهمي كاكه يي مراجعة : الدكتور فاضل الجاف
الترجمة العربية مهداة إلى الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي بدون مناسبة و إلى كل السومريين بمناسبة تيسير.
حقيقة: (توفي اليوم عجوز في حارتنا، إشترك في دفن جثته سبعة اشخاص، أنا و زوج بنت حفيدته و صبييان إثنان و مجنون حارتنا و رجل دين و مجنون إلتقيناه في المقبرة. خلاصة مراسيم دفن الجثة أفرزت هذه المسرحية.)
الشخصييات: · المرأة · الرجل · العجوز · الشاب · الطفل · رضيع في قماط
( إضاءة خافتة. يقف رجل في وسط المسرح. على الجانب الأيمن من المسرح تنحني إمرأة و هي تنظر من ثقب باب مغلق إلى داخل غرفة.)
المرأة (وهي تنظر) عيناه بدأتا تخفتان رويدا رويدا، لكنه ما زال يأنّ و هو يصارع الموت مطلقا العنان لأطرافه الأربعة لتضرب في كل الإتجاهات. تختنق الكلمات بين شفتيه و أسنانه، مغتصبا منه فرصة التكلم. يدق الأرض بعقبيه غيضا فيتذبذب المصباح مشعّا مع حركاته و خافتا مع سكناته.
الرجل يا لذلك اليوم الذي ينطفئ فيه هذا المصباح اللعين فيتخلص كلا الطرفين، هو و نحن و بالأخص هو.
المرأة (متجهة صوب الرجل) كلا، بالأخص نحن، هو الذي إحتل غرفة كبيرة مع إن مكانا ضيقا يتسعه، متر مربع واحد يتسعه. (تقترب و تهمس للرجل) حسننا! لم لا نفعل شيئا من أجل خلاصنا؟
الرجل مثلا؟
المرأة (خائفة وهي تصّر بأسنانها) مثلا.. مثلا.. مثلا..
الرجل ( مقاطعا و قد فهم قصدها) كلا.. كلما أتتني فكرة كهذه إقشعر لها بدني و بدأت أرتجف..
المرأة أخائف أنت؟
الرجل بلا شك.
المرأة ألا تريد خلاصنا، خلاص الطرفين؟
الرجل بلا شك، لكن ليس بهذه الطريقة، لأننا لا نستطيع إطفاء المصباح و المصباح هو القصد.. عندما ينطفئ المصباح، يخيّم السكون و تتوقف الحركة، يضع الظلام أوزاره على كل شئ بما فيه فكره و حركته، عندها يفقد فاعليته فيهلك. (فجأة) أنظري مرة اخرى!
المرأة (تنظر من ثقب الباب) خفّ أنينه كثيرا.. أما عيناه فقد ضعفتا جدا.. بدأ يفقد الحركة شيئا فشيئا.. و ضوء الغرفة يسايره فيخفت.. إنه يضع يديه تحت حزامه محاولا رفع رجليه لكي يدق الأرض بعقبيه، لكن ركبتاه لا تقويان فيتحسّر خائبا.. يا لهول المشهد.. إنه يتلفظ أنفاسه الأخيرة.. يفتح فمه و يغلقه، كأنما يطلب الماء. (تنسحب)
الرجل أي ماء؟ ما أتذكره أنا و حسب رواية والدي و حتى جدّي.. ما من أحد رﺁه و هو يشرب أو يأكل. يقول البعض إنه ترك الأكل و الشرب لسنين طويلة.. و البعض يقول كلا.. إنه لا يأكل بسبب عدم بقاء أحد من معاصريه.
المرأة إذن لم لا يموت؟
الرجل و أنا أسأل كذلك، لم لا يموت؟ لكن مهما حصل يجب أن نتخلص منه قريبا.. مع إنه يلفظ أنفاسه الأخيرة إلا أنه يضايقنا و يعكر صفو راحتنا.. لا أستطيع أن أنتظر موته أكثر من هذا.
المرأة و كيف يكون الحال لو كنت تنتظر موتك؟
الرجل ما فكرت في موتي قط.. لكي أكون في إنتظاره.
المرأة لو إفترضنا جدلا بأنك في إنتظار الموت.. ماذا كنت ستفعل؟
الرجل و لأنني لا أستطيع إنتظار الموت.. كنت أموت..( نسمع صوت خبطات داخل الغرفة.. الرجل و المرأة يخافان فيتراجعان) أخاف أن يخرج.. هل أقفلتي الباب؟
المرأة نعم أقفلت الباب.. لا تخف!
الرجل حسننا فعلتي.. انظري من ثقب الباب ثانية!
(تتقدم المرأة لتنظر بينما يتراجع الرجل)
المرأة (و هي تنظر) كل شئ ساكن.. لا أنين و لا نظر و لا حركة.. هيا أسرع.. خابر البلدية!
الرجل لا تستعجلي.. قد يكون نائما..
المرأة أي نوم؟ ألم تقل مرارا بأن لا أحد رﺁه نائما؟
الرجل صحيح..( يرفع سماعة الهاتف و يطلب رقما) الو.. البلدية؟ إسمع يا أخي..لقد مات عجوز كبير.. طاعن في السن جدا.. يرجى مجيئكم لإستلام جثته.. الميّت؟ كلاّ.. هو ليس بوالدي.. نعم؟ لا و الله ليس بجدي أيضا.. في الحقيقة لقد مات الجميع بدأ من جد جدي و وصولا إلى والدي.. يجوز.. ماذا أقول لك؟ يجوز.. يجوز.. كل شيئ جائز في عصرنا هذا.. نعم؟ نعم .. عندما كان ما يزال يقوى على الكلام قد إدّعى بأننا جميعا من أحفاده.. نعم.. نعم حتى أنتم.. هذه الحكاية؟ كان قد رواه لجد والدي.. أخي ما لكم بهذه الإستفسارات؟ يكفي أرجوك.. ما كل هذه الأسئلة؟ إذن إنتهى.. لا داعي لإطالة الحديث.. هيا بكم إسرعوا.. (يضع السماعة في مكانها) عجيب أمر هذا الرجل.. و كأننا بصدد إخراج شهادة للميت..
المرأة حسننا.. و من أين سيُخرجون الجثة؟ إلا إذا كسروا الباب..
الرجل لماذا يكسرونه؟ و المفتاح؟
المرأة لقد فقدته، فقدته عمدا..
الرجل لم يستوجب أن تفقديه.. لقد قلت لك مرارا بأننا سوف نحتاجه.
المرأة كنت خائفة.. خائفة من خروجه.
الرجل حسننا فعلتي.. جيد جدا.. ليس هناك من حل.. إلا كسر الباب..
المرأة حسننا.. ألا تخاف البلدية من جثته؟ كيف سيغسلونه؟ كيف سيدفنوه؟
الرجل بما يتعلق و الغسل فهي سهلة.. هناك حمام خاص للموتى.. سيغسلوه هناك و يكفنوه.. و توجد قبور مُعّدة مسبقا فهناك سوف يدفنوه..
المرأة يظهر بأنه عندما يتعلق الأمر بالموت تجري الأمور بسهولة و إنتظام.. حسننا و في أية مقبرة سيدفنوه؟
الرجل في مقبرة الموتى..
المرأة مقبرة الموتى؟! أليست المقابر كلها للموتى؟
الرجل كلا.. ما عدا مقبرة الموتى.. هناك مقبرة للمدفونين أحياءً.. حتى إن هناك مقبرة للأحياء أيضا..
المرأة ماذا يعني هذا؟
الرجل تلك مسألة عويصة.. لا تتدخلي فيها..
(صمت قصير)
المرأة يقال بأن القبر يضيق بالميّت و يهشّم كافة أضلاعه.
الرجل تلك في المقابر الإنفرادية.. الأمر ليس كذلك في المقابر الجماعية..
المرأة حسننا.. في أي قبر يدفن هذا؟
الرجل بالطبع إن من يموت لوحده يدفن في مقبرة فردية و الذين يموتون سوية يدفنون في مقابر جماعية.
المرأة هنيئا للذين يَموتون سوية أو يُمَوّ تون..(صمت قصير) لا شك بأن الميت يشعر بالوحدة في القبر الإنفرادي و عندما يحل الظلام ينتابه الخوف.. أرجو أن تضع فانوسا خلف رأسي إن دُفنتُ في قبر إنفرادي..
( فجأة نسمع صوت رعد شديد، ينفتح الباب المغلق على مصراعيه، يمطر في الخارج، ضوء قوي يكتسح المسرح مسيطرا على الإنارة، يدخل رجل عجوز من الباب و بيده عكازة. عندما يتحرك فإنه لا يخرج من المثلث المضئ الذي رسمه الضوء الخارج من الباب، يشكل الباب إحدى زواياه و نهايتي المسرح من الجهة المقابلة الزاويتان الأخريتان)
العجوز (متجهاّ صوب الرجل و المرأة) و ما فائدة الفانوس.. إنها ليلة أو ليلتان ثم ينطفئ.. من الأفضل أن يكون هناك نور خالد في أعماقكم، نور لا ينطفئ أبدا.
(كلمّا تحرك العجوز إلى الأمام كلمّا تراجع الرجل و المرأة.. المطر مستمر في السقوط.. الرجل و المرأة لا يدخلان المثلث المضئ التابع للعجوز مطلقا)
العجوز لا تتراجعا يا أحفادي فلا داعي للخوف، لأنني ميت.. أنا لم أمت الأن.. لقد متﱡ يوم ولدتُ.. كلاّ.. إنني لم أولد بعدُ.. ليس أنا فقط.. فلا أحد على وجه المعمورة.. يرى نفسه مولودا.. كلٌ ما زال في بطن أمه و امهاتنا في بطون امهاتهن.. هذه قساوة، إنها خطيئة.. بل إن الإنسان في حد ذاته هو الخطيئة الكبرى.. (صمت قصير) لقد توالت عصور عديدة و أنا أحسب نفسي ميتا.. و عصرا بعد عصر ضعفت عيناي.. صوتي..حركاتي.. و كضرورة من ضرورات طبيعة هذه الأرض سكنت كل الأشياء.. و الان و كما أنتما في إنتظار رجل البلدية.. كذلك أنا.. ﺁه من قسوة الإنسان.. الذي يتبرأ من دفن جثة إنسان.
(شيئا فشيئا ينسحب إلى غرفته بينما يتلفظ الكلمات الأخيرة.. ينغلق الباب.. يتوقف المطر عن التساقط.. و يزول المثلث المضئ بالطبع)
الرجل يبدو أن الباب لم يكن مغلقا..
المرأة بل كان مغلقا.. لكن ربما كان معه مفتاح..
الرجل كلاّ.. لم يكن معه مفتاح.. لكن يقال بأن لا شيئ يعيق الأموات.. حتى انهم يولجون من الجدار
(صمت قصير) المرأة حبذا لو كنت أعرف من أين يأتي الموت!
الرجل كل إنسان يحمل موته معه، لذا و في وقت الحاجة.. يقوم الموت بعمله حالا..
المرأة حسننا، و لكن كيف يعيش الإنسان و هو يحمل موته معه..؟
الرجل العجيب في الأمر هو أن الحياة و الموت.. هذان المتضادان يتصارعان في أعماق الإنسان جنبا إلى جنب و بصمت.
المرأة (تسري في جسمها قشعريرة و تصرخ فجأة) قشعريرة..
الرجل (متعجبا) قشعريرة!
المرأة (مُرعبة) تسري قشعريرة في جسمي.. إستعجل! خابرهم مرة اخرى.. لقد تأخروا.. تأخروا كثيرا.. هل أبلغتهم بالعنوان؟
الرجل لا حاجة إلى ذلك.. سوف يدليهم سلك الهاتف بالعنوان. (يرفع سماعة الهاتف كالمرة السابقة) الو.. البلدية؟ نرجوكم يا أخي أن ترسلوا أحدا بسرعة قبل أن تفسد جثته.. ماذا!؟ إسمه..؟ والله لا نعرف إسمه.. ما العمل.. لقد إهترأ.. أقارب؟ نعم.. له أقارب كثيرين جدا.. حتى انه من كثرتهم يحس الميت بأن لا أقارب له.. أخي نرجوكم أن لا تورطوننا.. نحن بإنتظاركم.. (يضع السماعة في مكانها)
المرأة تكلم.. ماذا يقولون؟
الرجل يطلبون إسمه.. يدّعون بأن إسمه يجب أن يمحى من السجلات.. و لكن في أي سجل ينبغي أن يوجد إسمه؟ (صمت قصير بعدها يشمّ) ألا تشمين شيئا؟
المرأة (و هي تشّم) كلا..
الرجل إذن فإنه ما زال على قيد الحياة..
المرأة لماذا..؟ كيف..؟
الرجل لو كان ميتا لكان قد فسد الآن..
المرأة هكذا و بهذه السرعة؟
الرجل نعم.. من بين جميع الأحياء.. فإن الإنسان يفسد قبل الكل..
المرأة لأن..
الرجل لأن الإنسان بحد ذاته.. (مغيرا كلامه) انظري مرة اخرى..
المرأة (تنظر مرة اخرى) تضئ الغرفة شيئا فشيئا.. و هو جالس و قد وضع كفه تحت حنكه تماما كتمثال (رودان)** بينما يفكر. (تركض نحو الرجل و تمسكه من تلابيبه و هي تصرخ) قل لي أهذا حلم أم حقيقة..؟
الرجل حقيقة..لا شك إنها حقيقة.. حقيقة مرة جدا.. و أمرّ ما في الأمر هو إن لم نعرف إسمه و سجله فسوف لن يدفنوه و ربما يعرضوننا إلى ﺁلاف المتاعب.. لنجد له إسما..
المرأة يجب أن يكون له سجل أيضا..
الرجل نعم، يجب أن يكون له سجل.. هذا ما يعقد علينا الأمور..
المرأة إن قيامه قد عقد علينا الأمور أكثر.. حسننا ماذا نقول للبلدية فيما إذا حضروا الآن؟ هل نقول لهم بأننا نريد دفن هذا الرجل حياً؟ (نسمع صوت الرعد و هطول الأمطار من جديد.. ينفتح الباب على مصراعيه.. يظهر المثلث المضئ على المسرح ثانية.. الضوء و صوت الرعد و هطول الأمطار أقوى من المرة السابقة.. حركة الممثلين كالسابق.. حركة الميت ـ الذي يظهر على صورة شاب ـ تكون أقوى و أسرع من المرة السابقة)
الشاب كلا.. إنكما لن تدفناني حيا.. إنني ميت..لا تشكّا في ذلك.. و إنني أنتظر مجئ رجل البلدية بشوق لا يوصف.. إلى حد إن الحياة بعث في من جديد.. كي أتلذذ بالموت أيضا.. ما طعم الموت إن لم ير الإنسان موته بعينيه؟ إن لم يحمل الإنسان جثته حلى كتفه؟ (صمت قصير) يا لحلاوة قبر إنفرادي.. عندما أتمدد في قبري للراحة الأبدية.. عندها لن أتوق للرجوع إلى هذه الدنيا قط.. كطفل لا يتوق للرجوع إلى بطن امه بعد الولادة.. (صمت قصير) هذه المرة ترونني في عمر الشباب، و قد أريتكم نفسي في هذا العمر لأعلمكم بأنني أيضا كنت يوما ما شابا و كنت أستهزأ بالطبيعة و كل القوى الأخرى و لم أكن أثق بأية قوة أخرى غير قوتي.. و ها إنكم ترونني الآن و لا داعي للتوضيح.. في هذا العمر بالذات كنت راعيا.. كل يوم كانت أغنامي تُحلب، لقد كان الحليب يكفي لإطعام قرية بكاملها.. كنت أصب الحليب في أفواهكم العطشة.. ﺁه من قسوة الإنسان.. الذي يتبرأ من دفن جثة إنسان.
(شيئا فشيئا ينسحب إلى غرفته بينما يتلفظ الكلمات الأخيرة.. ينغلق الباب.. يتوقف المطر عن التساقط.. و يزول المثلث المضئ)
المرأة (تصرخ متجهة نحو الرجل) إلى متى.. كم سننتظر.. لم لا يأتون.. لم؟ هل يريدوننا أن نموت نحن أيضا؟ هل يريدون أن نموت رعبا؟ هل يريدوننا أن ننصهر؟ قل لي لم لا يأتون؟ إنني خائفة.. خائفة.. خائفة..
الرجل من أي شيئ تخافين؟
المرأة (تؤشر صوب الباب) أخاف من الذي في الداخل.. أخاف منك.. أخاف من نفسي..
الرجل لماذا تخافين مني؟
المرأة لأنك خائف بدورك.. أنظر ما حدث لك من الخوف؟ أنت لا تحس بنفسك.. خابرهم مرة أخرى.. فليستعجلوا.. ويلاه إن استمر الحال هكذا سوف أفنى.. سوف أموت..
الرجل (يرفع سماعة الهاتف) أين أنتم يا أخي؟ لِمَ تأخرتم؟ حسننا.. حسننا.. نعلم إن الأموات كثيرون.. لكن حسب الأولوية.. نعم؟ ألم يأت دورنا بعد؟ لكن متى؟ هل لنا أن ننتظر طويلا..؟ حسننا.. كلا.. ليس لنا علاقة بالأمر.. إغسلوه أنتم.. كل شيئ في عهدتكم.. إن كان الأمر كذلك لوجب علينا إحضار إمام أيضا ليقرأ عليه الياسين.. نعم؟ إسمه؟ إسمه.. إسمه.. إسمه.. إسمه مجهول.. نعم مجهول.. هذا هو إسمه.. مجهول.. لمَ لا؟ أليس معلوم إسم..؟ أذن فهذا مجهول..سجله؟ (يصمت قليلا) سجل من لا سجل لهم.. نعم.. نعم.. نحن في إنتظاركم (يضع السماعة في مكانها) يريدوننا أن نغسله بأنفسنا.. لقد تعلموا الكسل بدورهم.. أنهم يضعون عبء واجباتهم على الأخرين.. إن علينا فقط إخبارهم ليس إلاّ..(فجأة) انظري مرة اخرى..
المرأة لا أجرؤ.. أخاف.. أخاف.. هل أنت جاد؟ لم لا تنظر بنفسك؟
الرجل (ينظر من ثقب الباب و يتعجب) تعالي.. تعالي إلى هنا.. لعلّ عيناي تخدعانني.. ماذا أرى يا إلهي.. إنه يصغر بإستمرار.. و الغرفة.. الغرفة تضئ أكثر فأكثر.. حتى أن أشعة النور تدمع عيناي.. تعالي هنا.. تعالي و انظري..
المرأة (تأتي و تنظر) كلاّ إن عيناك تريان جيدا و لم تخطئا.. إن إستمر الحال هكذا سوف يتحول إلى طفل رضيع.. ماذا سنفعل ﺁنذاك؟
(نسمع صوت الرعد و هطول الأمطار من جديد.. ينفتح الباب على مصراعيه.. يظهر المثلث المضئ على المسرح .. الضوء و صوت الرعد و هطول الأمطار أقوى من المرات السابقة.. حركة الممثلين كالسابق.. حركة الميت ـ الذي يظهر على صورة طفل ـ تكون أقوى و أسرع من المرات السابقة)
الطفل ﺁنذاك يكون الأمر سهلا.. اخنقوني و قولوا لقد اجهض..
المرأة (و هي خائفة) اجهض؟ (للرجل) من اجهضته؟
الطفل قولوا لقد اجهضته الأرض.. قولوا لقد اجهض يوم تمدد على فراشه منتظرا الموت، كل ما بقي له من هذه الدنيا كانت نظرات الناس من ثقب باب مغلق.. قولوها للذين يحبذون حياة الطفولة لكي يعلموا كم هو ثقيل عبء الطفولة و كفاهم تمنيّا.. ﺁه لو علمتم إنه و في هذه الدنيا الصغيرة التي لا تسع لدفن جثة واحدة كم بليونا من الأطفال يجهضون يوميا.. قد تتعجبون لطفل يتكلم بهذه اللغة.. لكن الأطفال كبار.. الأطفال يشبهون الماء.. الطفل و الماء يختلفان بالإسم فقط.. و ليس بالمسمى (صمت قصير) .. ﺁه من قسوة الإنسان.. الذي يتبرأ من دفن جثة إنسان.
(شيئا فشيئا ينسحب إلى غرفته بينما يتلفظ الكلمات الأخيرة.. ينغلق الباب.. يتوقف المطر عن التساقط.. و يزول المثلث المضئ)
الرجل (يركض نحو الهاتف، يرفع السماعة و يصرخ) أنتم مهمِلون.. لا تقومون بواجابتكم.. مرة.. مرتين.. عشرة مرات.. كم مرة خابرنا.. أنتم كذابون.. تكذبون علينا.. الميت على وشك أن يرجع إلى بطن امه.. (بعد قليل) ماذا؟!! أتعتذرون من دفنه؟ لم؟ لا مجهول هو إسم و لا سجل من لا سجل لهم هو سجل؟ حسننا إن لم تدفنوه أنتم فمن الذي سوف يدفنه؟ لاشك ان لا بلدية اخرى تقبل بإستلام جثته..(يقهقه ضاحكا) جميل.. جميل.. عمارات مقابر.. حسننا هل علينا أن ننتظر إلى أن يتم بناء هذه العمارات؟ لا شك حتى انذاك تطلبون منا إسمه و سجله.. صراع أبدي.. (يضع السماعة) تماما كالصراع بين الحياة و الموت..
المرأة تكلم..!
الرجل الأراضي التي تملكها البلدية تكفي فقط لموتاهم.. و بما أن هذا الشخص لايملك إسما و لا سجلا.. فإنه لا يحسب من أهل هذه المدينة.. لذا فإنهم يعتذرون عن دفن جثته.. من ناحية اخرى فإن لهم نية بناء عمارات مقابر.. لكن على الرغم من انهم لم يشرعوا ببناء هذه العمارات.. فليس له فرصة الحصول على قبر فيها.. لأن أصحابها قد حددوا من الآن.. (صمت قصير) هنيئا للذين يموتون و هم أصحاب إسم و سجل.
المرأة و الرجل (ينظر أحدهما إلى الأخر في ﺁن واحد و يسألان) أنت.. ما إسمك؟
المرأة و الرجل (يرد أحدهما على الأخر) مجهول.. سجل من لا سجل لهم.. نموت و لا من أرض تحتضننا..
(صمت قصير) الرجل ( رويدا رويدا يخطو نحو الباب بحذر و خوف. ينظر إلى الداخل من ثقب الباب. يضرب كفيه ببعضهما و كأنما الأوان قد فات) ها قد لف نفسه و غدا رضيعا في قماط.. عجيب جدا.. بحجم الصعوبة التي يكبر بها الإنسان، فإنه يصغر بنفس الحجم سهولة.. بحجم الصعوبة التي يرقى بها الإنسان، فإنه يسقط بنفس الحجم سهولة.. (فجأة) أقول؟ لم لا نخرجه و نعتني به.
المرأة نعتني به؟ هل نعتني بمصيبة؟ أنه يصغر بشكل مستمر.
الرجل لكنه من المحتمل أن يكبر شيئا فشيئا فيما لو أخرجناه من الغرفة.. ها انني اشرع بفتح الباب و اخرجه .. عسى أن يساعدنا الله لكي نربيه.. (يفتح الباب، الإضاءة و هطول المطر أشد كثيرا من المرات السابقة، يدخل الرجل إلى داخل الغرفة، يخرج برضيع في قماط، الباب يبقى مفتوحا، يتجاوز الرجل و المرأة حدود المثلث المضئ، لكنهما إن دخلا في المثلث جرت رعشة كهربائية في جسمهما و إن خرجا منها و الرضيع معهما بدأ الأخير بالصراخ و البكاء، عندما يبكي الرضيع يخاف منه الرجل و يقذف به للمرأة، تخاف منه المرأة بدورها و تقذفه للرجل، تتكرر هذه العملية ثلاث أو أربع مرات، يركض الإثنان على خشبة المسرح في كل الإتجاهات الإ أن يتعبان، فلا هما يستطيعان التوقف داخل المثلث لأنهما يصابان برعشة كهربائية و لا هما يستطيعان التوقف خارج المثلث لأن الرضيع يبكي و يصاحب بكائه رعد مرعب و المطر ما زال يهطل بغزارة و بسرعة يدخل الرجل بالرضيع إلى الغرفة مرغما، يخرج و ينغلق الباب.. يتوقف الرعد و المطر و البكاء.)
الرجل (قد ضاق نَفَسُه) صحيح ما تقولينه.. إنه مصبية.. لا نستطيع الإعتناء به.
المرأة هل لاحظت؟ ما أن أرجعته إلى مكانه حتى كفﱠ عن البكاء. الرجل (يركض الى الباب و ينظر من الثقب.. يرن جرس الهاتف لكن لا أحد يرفع السماعة) ها قد تحول إلى حفنة من اللحم و يصغر بشكل مستمر.. لأذهب و اخرجه.. (يدخل الغرفة.. تتكرر الحالة السابقة من الرعد و المطر و الضياء لكن بأشد من سابقتها.. ما يتعلق بالرعشة الكهربائية هي نفسها بالنسبة للرجل و المرأة أما بالنسبة إلى قطعة اللحم فنسمع صوت الرعد بدلا من البكاء. قطعة اللحم بيد الرجل يخاف منها و يقذفها للمرأة) خذيها.. المرأة (تأخذها.. تخاف منها.. تصرخ من الرعب و تقذف بها للرجل) خذها..
الرجل (يمسك بها و يتفحصها داخل كفيه) أنظري.. كم صغرت!! إنها بحجم جوزة.. خذيها.. (يحولها إلى المرأة)
المرأة (تمسك بها و تموع قطعة اللحم الصغيرة في يدها) إنتهى.. لقد إنصهر.. تحول إلى سائل مخاطي غليظ (تمسح كفيها بمنديل ورقي أحمر و تقذف به في سلة المهملات، ينطفئ نور الغرفة، تتوقف هطول المطر، يتوقف رنين جرس الهاتف الذي كان يرن طول الوقت، في الخارج يُسمع صوت الإنفجارات و الإنهيارات و تختلط بصوت عواء الذئاب و أصوات الدببة و نعيق الغربان و صوت البوم و مجموعة من الحيوانات المفترسة. الرجل و المرأة يخافان من هذه الأصوات و يدوران حول نفسها و حول بعضهما.. شيئا فشيئا تعوجّ أطرافهما.. تشتد الأصوات.. فجأة يقعان على الأرض كما ينسكب الماء.. يزحفان نحو الغرفة.. بعد جهد كبير يدخلانها.. فجأة يشع نور متذبذب من داخل الغرفة و يرسل أشعته إلى خشبة المسرح.. الأصوات الخارجية تبدو متقطعة مع تذبذب النور.. تخف الذبذبات و تخف معها الأصوات.. بعدها نرى إضاءة مستمرة و تغيب الأصوات.. يضئ المسرح فنرى المثلث مرة أخرى.. يدخل الرجل و المرأة.. فتضئ جميع زوايا المسرح.. بعدها تضئ صالة المسرح و تسدل الستارة)
فهمي كاكه يي السويد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ * كتبتُ هذه المسرحية سنة1981 باللغة الكوردية و نشرتها في مجلة شمس كوردستان التي كانت تصدر عن جمعية الثقافة الكوردية في بغداد و لسبب لا أستطيع إدعائي المطلق بجهله ترجمتها إلى العربية الآن.
** رودان (Auguste Rodin): نحات فرنسي (1840ـ1917)، له متحف خاص في باريس. إمتازت أعماله بالواقعية و القوة و الشاعرية و عمق التعبير. من أعماله (القبلة) و (المُفكّر) من مجموعة (باب الجحيم).
|