كتبوا عن كرّومي كثيراً ولكنهم لم يكتبوا كل شيء عنه !!
أحمد رجب
|
في يوم حار من
أيام شهر تموز أرسل شيخ القرية ومختارها ( كنا وقتئذ ) نعيش في القرية بعد أن
تحوّلنا إليها من خانقين رجلاً يعمل لديه لإبلاغي بنقل الماء بواسطة دابة من
القرية إلى مخفر الشرطة الواقع على قمة جبل غداً حسب الدور ( السرة )، وفي
اليوم التالي لم أذهب ولم أهتم بكلام رسول المختار وقلت في قرارة نفسي أنا طالب
متوسطة، وليس من الممكن أن أنقل الماء للشرطة.
بعد يوم نزل
الشرطي النائب العريف عزت من المخفر إلى القرية وما أن وصل إلى بيت المختار شيخ
القرية أرسل شخصاً يطلب حضوري أمامه، وفي الحال لبيت طلبه وفور وصولي إلى بيت
الشيخ هاج كالثور وقام من مكانه وهو يشتم ويسب ويهدد بأنه سيسجن والدي متهماً
إيّاي بالشيوعية، وانه يعرف ماذا يفعل في الأيام القادمة، وللعلم كانت للشرطة
في وقتها هيبة، ويخاف الناس منها وخاصةَ في القرى.
في الرابع عشر من
تموز 1958عادت أختي الصغرى من نبع الماء ( كاني باللغة الكوردية ) وقالت وهي
ترتجف : لقد تمّ قتل الملك فيصل وحاشيته، وهنا صرخت والدتي وهي تقول لاختي:
اسكتي.
سكتت أختي وذهبت
مسرعاً إلى شيخ القرية ومختارها كعادة الناس الآخرين، وصلت هناك لكي أصبح
مترجماً ( شلون ما كان ) للبيانات والبلاغات التي كانت تصدر تباعاً.
تذكرت الشرطي عزت
وما قاله لي، وتهديده بسجن والدي، وقلت لأصدقائي أنا شيوعي ( بصراحة لم أسمع
بالشيوعية ) إلّا من خلال كلام عزت الشرطي، وكتاب الشيوعية والإلحاد الذي كان
يوّزع مجاناً وعلى نطاق واسع من قبل شركات النفط بغية تشويه الشيوعية واسمها.
نعم، لقد تغّير
نظام الحكم الملكي البائد إلى النظام الجمهوري، ومات الملك وجاء الزعيم
عبدالكريم قاسم ليدخل التاريخ بثورته العارمة، لأنّ ثورة 14 تمّوز 1958 تاريخ
ثرّي غني، ومعلم كبير في نظر الطبقة العاملة والجماهير الشعبية، وبعبع مخيف في
نظر البرجوازية، وقد عمدت الدكتاتورية الجبانة، وحاولت بشتى الطرق أن تنسى هذا
التاريخ المشرق وتلغيه بمؤامرة صمت مهلهلة.
لقد كتب العديد من
الأخوة الكثير عن عبدالكريم قاسم ( كرّومي )، ولكنهم لم يكتبوا لحد الآن عن
حقيقة في حياة الزعيم، وهي زيارته قبل الثورة بأيام معدودة بصحبة عبدالسلام
عارف ومجموعة من الضباط والجنود ورؤساء العشائر الكوردية إلى مناطق قريبة من
جبل بمو وزلكة وحاجيلروبانه بوره باسم الصيد، وقد تناول الجميع الأكل في بيت
المرحوم عبدالرحمن، وكنت موجوداً هناك لصداقتي القوية مع أبنائه، وبعد أن ذهب
عبدالكريم والوفد المرافق له قال المرحوم عبدالرحمن ان هذه الزيارة لا تخلو من
حدث ما !!. وبعد قيام الثورة قال المرحوم عبدالرحمن الآن عرفت بأنّ عبدالكريم
قاسم كان ذكياً جداً، لأنه أتى لا بهدف الصيد كما أشاع، وإنّما جاء لمعرفة
المنطقة وتضاريسها فيما إذا فشلت ثورته، ثورة 14 تمّوز، واللجوء إلى المنطقة
ليقود حرباً ضد الملكية.
لقد أعلن
عبدالكريم قاسم خروج العراق من حلف بغداد، كما أعلن قانون الإصلاح الزراعي الذي
وجّه رغم نواقصه الكبيرة ضربة قوية للإقطاع وقوّض سلطته في الريف، وقامت الثورة
بفرض الحريات وتحقيق شرعية العمل العلني للنقابات والمنظمات المهنية التي
انتزعتها الطبقة العاملة والجماهير من البرجوازية إنتزاعاً، كما قامت بنسف
المعاهدات والإتفاقات العسكرية الإستعمارية، وتحرير العملة العراقية من قيود
الأسترليني، وتأميم 99.5 بالمئة من أراضي العراق المشمولة بإمتيازات شركات
النفط الإحتكارية، والشروع في خطوات أولى لبناء صناعة وزراعة وطنية متطورة.
ولأول مرة في
تاريخ العراق فرضت الجماهير الشعبية الإعتراف بشراكة الشعب الكوردي للشعب
العربي في الوطن الواحد في أول دستور مؤقت للبلاد.
لقد ساهمت الأحزاب
الوطنية والحزب الشيوعي العراقي بتحشيد وتجميع قوى الشعب والجماهير
للثورة، بدفع
العملية الثورية في إطارها الوطني الديموقراطي خطوات عملاقة إلى أمام، فحقّقت
ثورة تمّوز في ظرف أشهر ما عجزت عن تحقيقه ثورات وطنية أخرى في سنوات.
لقد ارتعبت
البرجوازية الوطنية والأوساط القومية اليمينية من المد الجماهيري، وأصيبت قوى
الإقطاع المدحور بجزع وذعر كبيرين، وجاءت هذه الفعاليات لتدك مواقع الرجعية
والإمبريالية، ولكي ترسي أسس تحولات ثورية عميقة، فأخذت الأحزاب البرجوازية
تتطاحن من أجل الإستئثار بالسلطة، وعملت بكل طاقتها على حصر الثورة في أفقها
البرجوازي الضيق، وتنكرت لكل شعاراتها بالحرية والديموقراطية، وتخلت عن حلمها
بإقامة جمهورية برلمانية برحوازية، وتنازلت عن سلطتها المدنية للدكتاتورية
العسكرية لتحمى سلطتها وتضمن دوام استغلالها.
وتواصلت المكائد
والمؤامرات دون إنقطاع، وأنقلبت الديموقراطية إلى دكتاتورية، وتحوّل الإعتراف
بالحقوق القومية للشعب الكوردي إلى حرب شوفينية ضد هذا الشعب المناضل، وبات
العداء للشيوعية شعار الساعة، يشترك في رفع رايته المشينة أيتام العهد الملكي،
وأزلام الإقطاع، وأحزاب البرجوازية المذعورة، والرجعيين الجدد وإمتداداتهم في
بعض العواصم العربية وفي مقدمتها القاهرة وعمان ودمشق والرياض.
بعد إندلاع ثورة
الشعب الكوردي عام 1961 اعتقلت من قبل دائرة أمن دربنديخان وأرسلت إلى مديرية
أمن السليمانية ومن هناك إلى مديرية الأمن العامة في بغداد، وفي باب المعتقل
ضربني شرطي الأمن جبر وبكل قوة عجل ( راشدي ـ محمودي ) على وجهي وهو يقول : أنت
مصطفايي ؟ كان يقصد القائد الملا مصطفى بارزاني، وقلت في الحال : كلا ، وأراد
ضربي مرة أخرى ولكني وبسرعة البرق حركت رأسي لترتطم يده القذرة بالحائط.
دخلت معتقل الأمن
العامة الرهيب، القاوش ( القاعة ) رقم 1 للبارتيين، رقم 2 للبعثيين والقوميين،
رقم 3 للشيوعيين، رقم 4 للمتفرقة والآخرين. دخلت قاوش الشيوعيين، ورحبوا بي
أجمل ترحيب، وبعد أيام من التعذيب في عهد الزعيم عبدالكريم قاسم الذي شاركت
الآخرين بالوقوف معه والتصفيق له، بقيت في القاوش وتعرفت هناك على رفاق مناضلين
وشخصيات عراقية من أمثال : عضو اللجنة المركزية حمزة سلمان المحامي ( أبو وثاب
) وفريد ابو الجام، وفؤاد زلزلة، وحافظ القباني، ومظفر النواب وأخرين لا أذكر
اسماءهم.
في يوم من أيام
الشتاء البارد جاء الزعيم عبدالكريم قاسم إلى سجن مديرية الأمن العامة، وعند
دخوله ردّد البعثيون والقوميون العرب، وكان من ضمنهم عناصر الزمرة الجبانة في
حادثة إغتياله في رأس القرية : أحمد طه العزوز، وذياب العلكاوي، وسمير النجم
وآخرين هتافات ضده من قبيل جبان، جبان، وألتفت إليهم قاسم وقال لهم : أنتم
جبناء وسوف أطلق سراحكم، وكرّر أنتم جبناء، وقد تصافح مع الرفيق حمزة سلمان
بصفته صديقاً له، وفي يوم 3 كانون الأول 1961 أصدر قاسم قراره الموسوم ( عفا
الله عمّا سلف )، وبموجبه أطلق " كرّومي " سراح جميع المجرمين المنفذين في
المؤامرة.
لقد ساهمت تصرفات
الزعيم عبدالكريم قاسم وسياساته المتذبذبة ومحاربته للأحزاب والقوى الوطنية
التي وقفت إلى جانبه المجال للرجعية والقوى الإجرامية بتنفيذ مؤامرتها
المشؤومة، مؤامرة 8 شباط الأسود عام 1963.
انّ الحزب الفاشي
الحاكم في العراق وقف منذ الأيام الأولى، موقف العداء من ثورة تمّوز وأهدافها
الوطنية والديموقراطية رافعاً راية العداء للشيوعية والأفكار التقدمية، كما وقف
تحت نفس الراية منحدراً في طريق خيانة الاهداف الوطنية والقومية، حزباً
دكتاتورياً، إرهابياً، وعدواً لدوداً للطبقة العاملة وللجماهير الشعبية,
ولحركات التحرر العالمية ، وحليفاً للرجعية العربية والامبريالية العالمية.
ان البرجوازية
التي تنكرت للحقوق القومية للشعب الكوردي المثبتة في الدستور المؤقت لثورة
تموز، واصلت على يد النظام الدكتاتوري الفاشي سياستها القومية الشوفينية إزاء
الشعب الكوردي وحقوقه العادلة والمشروعة، وحقه في إدارة شؤونه بنفسه ضمن إطار
الجمهورية العراقية الديموقراطية.
يقول عدد غير قليل
من القوميين العرب وحتى البعثيين بأنّ عبدالكريم قاسم كان وطنياً في سيرته
المدنية والعسكرية.
وفي هذه الأيام
يستعد الشعب العراقي للإحتفال بالذكرى السابعة والأربعين وسط الأوضاع المزرية
والإنفلات الأمني بسبب أعداء العراق من الزمر الإرهابية والقوى الظلامية وبقايا
النظام البعثي، لذا من الضروري إستيعاب الدروس من الماضي ولعل المرء يستطيع أن
يلخص أبرز تلك الدروس بالقول أن فترة ما بعد ثورة 14 تموز 1958 برهنت على مدى
عجز البرجوازية عن قيادة الثورة الوطنية الديموقراطية حتى نهايتها، وانّ هذه
المهمة لا يمكن إنجازها إلا في ظل التحولات الإجتماعية ومن خلال عمل الأحزاب
والقوى الوطنية والتقدمية.
انّ أمام القوى
الوطنية والتقدمية في الوقت الحاضر مهمة تحقيق وحدتها وتلاحم صفوفها لكي تستطيع
أخذ زمام المبادرة في التغيير الثوري، ولتعيد الجمهورية الديموقراطية التي
دشنتها ثورة 14 تموز إلى الحياة وعلى مستوى أكثر تفدماً وعمقاً من حيث أهدافها
وآفاقها التاريخية.
13/7/2005
|