ديمقراطية کوردستان بين الخيارات

من خلال تحليل عينة الجبهة الترکمانية

محسن جواميرـ کاتب کوردستاني

   

عندما لا يکون الانسان آمر نفسه ومخيرا، وينساق طبقا لما يملي عليه

الاخرون، فهذا الانسان يکون عرضة للاهتزازات والهزات، و يتخبط خبط عشواء في کل امور‌‌ه، لانه‌ فقد ذاته‌ وارادته وتوازنه وسيطرته‌ علی امور‌ه‌ ، و يصبح بالتالی کالدمية التي يحرکها الاخرون... والمشکلة هنا تکمن في ‌ان هذه الحالة النفسية قابلة للعدوی والإنتقال بشکل او بآخر للآخرين، وتنعکس سلبا علی البيت والعائلة والمجتمع والدولة... لذا نجد ان الدول المتقدمة تعتمد في مناهجها من الروضة الی آخر مرحلة من الدراسة ـ حتی للمسنين ـ علی تکوين الذات والشخصية السوية، لان الامر يمس مجمل مکونات العملية الاجتماعية والثقافية والسياسية و  حتی الاقتصادية، ويترک اثره سلبا اوايجابا علی الاجيال القادمة...

والملاحظ ان هذ‌‌ه الحالة قد تظهر في التکوينات السياسية نتيجة عوامل تاريخية او بيئية او خارجية، وقد تظهر شخصيات وابطال في نظر مؤيديهم... وهنا تصبح المشکلة اعقد والکارثة اعظم  و تستوجب العلاج، وذلك بعد تشخيص دقيق ودراسة مستفيضة للحالة... والملفت للإنتبا‌‌‌‌‌‌‌‌ه ان مثل هؤلاء الرجال القادة والذين يحملون مثل هذه العاهات والعقد، يخلقون في نفوس مريديهم نفس الاعراض المرضية التي يحملونها، اضافة الي تعقيدات نفسية اخری تصاحبها، وذلک بسبب الثقة المتولدة لدی المريدين وطاعتهم العمياء، نتيجة استبداد البيئة التي نشاوا فيها في فقد حق الاختيار...وظهور هذه الحالة تکون عادة طاغية في المجتمعات المتخلفة او التي تمر بازمات سياسية، بحيث تفرز شتى الظواهر... وقد تکون " الجبهة الترکمانية " احدی العينات الجديرة جدا بالتحليل والتشخيص من قبل المختصين في السايکولوجية السياسية، وبعد دراسة  للنظرية الاتاتورکية والهتلرية الفوقية الممزوجة بالديمقراطية، مع الاخذ بنظر الاعتبار ان الفکرة الکمالية العنصرية سبقت من حيث التطبيق  النازية والفاشية...

الکاتب المصري ذو الاصل الکوردي عباس محمود العقاد، کتب کتابا في حينه عن الشيوعية باسم "مذ‌هب ذوي العاهات" وتکلم عن تلک النظرية والسمات التي تحملها و تاثيراتها علی شخصية معتنقيها وانعکاساتها السلبية علی البيئة الاجتماعية وعلی مجمل عملياتها، وبالتالي خطورتها علی البشرية... وآنذاک وبسبب الملابسات التي افرزتها الحرب العالمية الثانية بانتصار الشيوعية علی الهتلرية، قوبلت اطروحات الکاتب علی الاغلب بالرفض، وحتی بالاستهجان، ناهيک عن    اتهامه بالعمالة للغرب...ونبؤة ‌هذا الکاتب والاخرين من الشرق والغرب وبالاستقراء وعلی ضوء الثوابت في الطبيعة البشرية وانعکاساتها علی المجتمع البشري، تحققت ولکن بعد عقود...المشکلة الکامنة في التاريخ الانساني، هي انه في کثير من الاحيان يطول عمر السلبيات والازمات، وبالتالي تمر علی الامم حالات ماساوية تتميز بتدمير واسع، کما کان الحال مع عهد صدام حسين وحزب البعث في العراق، حيث حکما العراق ما يقارب 40 عاما بالحديد والنار، وکما هو الحال مع ترکيا و دول اخری في المنطقة...‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌وبقاء حکم ما لمدة طويلة اوحالة الثبات السياسي الظاهري  لا يعبران بالضرورة عن الاستقرار والتقدم المنشود في المسار الاجتماعي والسياسي.

ولو استقرانا الحالة الترکية علی ضوء ممارساتها مع الکورد وبقية الاقوام وفق النظرية الکمالية التي بنيت الدولة الترکية عليها اساسا، ومازالت تسير علی هديها في تعاليها علی الامم الاخری حرفيا، وحرمان الآخرين حتی من حق الاحتفاظ بالهوية واللغة، لوجدنا مدی خطورة الجماعات او الاحزاب التي تربت و صنعت باعين ترکيا وتحت رعايتها حين تواجدها في ترکيا ، ومن ثم عودتها الی کردستان المحررة ، ثم الی العراق بعد زوال النظام البائد...

 

لعل اسطع مثال ـ وکما اسلفت ـ علی بروز هذه العاهة الکمالية هو ظهور حزب او ظاهرة الجبهة الترکمانية في العراق و کوردستان وبالذات في کرکوک، تلکم الجماعة التي فرت من قبضة صدام لتقع في اسرالعقائد الکمالية التي تعتبرصراحة العنصر الترکي"الجينات الترکية" افضل العناصر قاطبة "ترکي واحد يقابل الدنيا کله" و" ما اسعد الذي يقول انه ترکي" کما قال بعد ذلک هتلر" المانيا فوق الجميع"... حيث اثبتت الوقائع والاحداث بان هولاء مجندون اتراک تربوا خصيصا وبعناية فائقة لنقل وزرع الفکرة الکمالية بين ابناء الاقلية الترکمانية لدق اسفين الشقاق بينها و بين الکورد في کوردستان والعراق وتصوير الکورد وکانهم خلقوا " من قبل من نار السموم"... هذا في حال ان العلاقات بين الکورد والترکمان لم تشهد اية شائبة تدعو الی عدم النسيان او تذکرتها في کل حين وآن من يوم مجئ الترکمان الی کوردستان، ما عدا حادثة واحدة اثيرت في العام(1959) نتيجة تعاون بعض الترکمان المنخدعين مع رجال المخابرات ضد الکورد، واسفرت عن سقوط الضحايا من الطرفين... و بعدها عادت العلاقات الي سابق عهدها... والکل يعلم بان مثل هذه الحوادث متوقعة وواقعة حتی بين افراد عشيرة واحدة او عائلة واحدة ، ‌هذا لا يعني الضرب علی وتر ولحن هذه الواقعة او تلك الی يوم الدين.وهذا الدورالجبهوي في تخريب العلاقات بين الاقوام بعد عودتهم واستغلالهم لاجواء الحرية في کوردستان ومن ثم في العراق، يثبت ان هروب هؤلاء من قبضة صدام واستنجادهم بترکيا، لم يکن من حيث الواقع العملي الا کمن يستجير من الرمضاء بالنار!

ان القول بالاستفادة من التجربة الترکية ، او نقلها الی العراق لترتيب البيت العراقي والکوردستاني علی اساسها، تکون بمثابة نقل کارثة لم تحن بعد اوان انفجارها في ترکيا، ولا يبشر بخير...وان نقل اسوا ديمقراطية في العالم افضل من النموذج الترکي... وان من يدعي بان الديمقراطية الترکية فيها خير العراق  فليقرا في وجو‌‌‌‌ه افراد وتصرفات و مواقف الجبهة الترکمانية الذين"احلوا قومهم دار البوار"... انا کباحث و خبيرفي الشؤون الترکمانية، اضم رايي الی راي من يری ان تمنع اية حکومة کوردية او عراقية منح اجازة العمل السياسي لهذه الجماعة  "الجبهة الترکمانية" اسوة بالحکومات الاوربية التي تحظر انشطة الاحزاب النازية، ف"نوم الظالم عبادة"، وتمهيدا لقطع دابر هذ‌ه الفکرة الوافدة... لان هذه الفئة القليلة لا تمثل في اطروحاتها وداعة الترکمان و طيبتهم وسماحتهم وفطرتهم النقية، ولا تريد مصلحة الترکمان اولا، ولا تلائم طبيعة المجتمع العراقي والکوردستاني ثانيا. انها فئة تاتمر باوامر ترکيا في تعکير صفو العلاقات بين الاطياف والاقوام وخاصة ضد الکورد ووفق خطة مبرمجة بدقة متناهية ... وکل رهان عليها و من اي طرف هو رهان خاسر عاجلا ام آجلا، لانها جماعة ماجورة و" آخر المعروف ينضرب بالکفوف".

ان اي طرف او جماعة في العراق او المنطقة تريد ان تستفيد من التجارب الديمقراطية، فلتذهب الی کوردستان، فهي اقرب إليهم من حبل الوريد... انني بالرغم من ملاحظاتي وانتقاداتي لديمقراطية کوردستان، لکنني عندما اقيمها وانظر اليها من منظار المقارنة  بالدول المحيطة وخاصة بترکيا، اجدها اصلح واجدر بالاستفادة منها ـ بعد تشذيبها وعرضها للجرح و التعديل ـ وجعلها نموذجا ، لان ديمقراطية ترکيا هي للاتراک فقط، مثلها مثل ديمقراطية الحزب الواحد في العراق السابق وغير‌‌‌ه من الدول المحيطة، مع وجود الفوارق بطبيعة الحال... اي انها ديمقراطية عرجاء لا تصلح لمجتمع متعدد القوميات والاطياف،  لانها بنيت اساسا علی محاربة مکونين اساسيين الدين والاقوام غير الترکية...

کثيرا ما نسمع ان هذه الدولة العربية او تلك خطت خطوة معينة في تطبيق الديمقراطية ويشاد بها، في حين لا تتجاوز في نفوسها ومساحتها مدينة کوردستانية من بين مدنها الاربعة، ولکن لا يشاد و لا يذکر" بضم الياء" بلد کوردستان الذي يبز بشهادة العدو قبل الصديق الکثير من الدول في المنطقة في کونه اجمل من الکل بديمقراطيته، لانها تحمل في طياتها کل الالوان وکل الاطياف...ناهيکم عن مؤامرة الاعداء والشواذ، والتي  تستکثر علی الکورد هذا التقدم ولا تريده الا ان يعيش في ظل الاستبداد... والسؤال الذي يطرح نفسه علی الکورد والمنصفين من حلفاءهم ومناصريهم الذين قاوموا احد اکبر استبداد في التاريخ الانساني ، هل سيهتزبنيان ديمقراطيتهم امام المتربصين ام سيکون ابهی؟!

 

mohsinjwamir@hotmail.com