قراءة أولية في تصريحات
أردوغان حول القضية الكردية في تركيا
د.جبار قادر
أثارت التصريحات الأخيرة لرئيس الورزاء التركي رجب طيب أردوغان أثناء لقائه بجمع من المثقفين الأتراك ، الذين طالبوا الحكومة باللجوء الى الأساليب الديمقراطية لحل مشاكل البلاد و قطع الطريق على المصادمات المسلحة و إراقة المزيد من الدماء ، عن وجود ما سماها ب ( بمسألة كردية ) في بلاده سيلا من ردود الفعل المتباينة . وعاد أردوغان ليؤكدها خلال زيارته لكبرى مدن كوردستان تركيا دياربكر (يتمسك الكرد بتسمية آمد التاريخية للمدينة) و يوجه رسائل الى الجيش و المعارضة السياسية و القوى القومية المتطرفة في تركيا . فعلى الصعيد الكردي رحبت أوساط عديدة بهذه التصريحات و إعتبرتها خطوة في الإتجاه الصحيح و عبرت عن أملها في أن لا تبقى مجرد كلمات جميلة تسبح في الهواء ، بل تعقبها إجراءات عملية على الأرض وصولا الى إيجاد حل عادل للقضية الكردية في تركيا . ولم تخفي هذه الأوساط مخاوفها من أن تكون تصريحات أردوغان بالون سياسي آخر تطلقه الحكومة التركية عشية بدء مفاوضات العضوية مع دول الأتحاد الأوروبي وفي ظل تزايد المصادمات المسلحة مع مقاتلي حزب العمال الكوردستاني . إتسم الموقف الكردي عموما بالتريث و عدم التسرع في تقويم تصريحات أردوغان ، فالعبرة تكمن برأي الكرد في السياسات و الأفعال على الأرض و ليس في التصريحات التي يطلقها السياسيون هنا و هناك . فأردوغان دون غيره صرح في نيسان من هذا العام أثناء زيارة له الى النرويج بعدم وجود ( مسألة كردية ) في بلاده . ومن حق الناس أن يتساءلوا مالذي حدث خلال الشهور الأربعة الماضية لكي يغير رئيس الوزراء التركي موقفه و يقر بوجود (مسألة كردية ) في تركيا و يعتبرها قضيته و قضية البلاد ، التي يجب العمل على حلها من خلال الإجراءات الديموقراطية ، بل و يذهب الى حد نقد السياسات الحكومية السابقة و ممارساتها للتمييز بين مناطق البلاد و أثنياتها . من هنا يمكن تفهم مواقف المتشككين الكرد في نيات الحكومة خاصة و أنهم إستمعوا خلال العقد الأخير الى تصريحات مشابهة من لدن العديد من المسؤولين السياسيين الترك دون أن يعقبها أي تقدم حقيقي على صعيد الواقع العملي . ويدرك هؤلاء جيدا بأن حكومة أردوغان ستواجه كما كبيرا من الضغوط في مفاوضاتها مع الإتحاد الأوروبي ( في الثالث من أكتوبر من هذا العام ) و التي بدأت التحضيرات لها منذ الآن . فنتائج عمليات الإستفتاء في فرنسا و هولندا رغم أنها لم تكن بصدد قبول تركيا من عدمها،إلا أن المناقشات التي رافقتها أظهرت معارضة شعبية واسعة لتوجهات زعماء الإتحاد الأوروبي فيما يخص هذه البلاد . وليس بإمكان هؤلاء أن يهملوا هذا المناخ الشعبي في مفاوضاتهم مع تركيا . لذا من المتوقع أن تواجه تركيا ضغوطا أكبر فيما يتعلق بقبرص ، قضايا حقوق الإنسان ، دور منظمات المجتمع المدني،حقوق الأقليات ، دور الجيش في الحياة السياسية ، قضايا الفساد الإداري و الرشوة فضلا عن المطالب المتعلقة بالإقتصاد و غيرها . كما أن تزايد المصادمات العسكرية مع مقاتلي حزب العمال الكوردستاني و في هذا الوقت بالذات وضع أردوغان و حكومته في موقف يصعب الخروج منه دون خسارة سياسية كبيرة تلحق بحزب العدالة و التنمية . و يعتقد الكثيرون في تركيا أن العسكر يقفون وراء تزايد هذه المصادمات كجزء من إستراتيجيتهم لخلق عقبات إضافية أمام حكومة أردوغان و دفعها الى التخلي عن نهجها في الحد من صلاحيات الجنرالات و دور العسكر في الحياة السياسية التركية . واجه أردوغان سيلا من الحملات الحزبية و الإعلامية الموجهة من قبل الجنرالات في رئاسة أركان الجيش التركي ، الذين تحركوا مباشرة و شكلوا على وجه السرعة فريق عمل يقوم بإعداد تقرير شامل عن ( جنوب شرق الأناضول ) ليقدم الى إجتماع مجلس الأمن القومي في الثالث و العشرين من آب الجاري . سيكون التقرير بمثابة رد الجيش على تصريحات رئيس الوزراء . و تشير المعلومات التي سربتها رئاسة الأركان عن عمد الى الصحافة التركية الى أن التقرير سيركز أساسا على إعتبار ما يجري في جنوب شرق الأناضول حملة ضد إرهاب حزب العمال الكوردستاني و أن أساس المسالة تكمن في الأوضاع الإقتصادية و الإجتماعية و الثقافية المتخلفة في تلك المنطقة ، فضلا عن تأثيرات الأحداث التي تشهدها دول الجوار ، وهي أشارة الى التطورات السياسية الكبرى في كوردستان العراق و أعمال الإحتجاج التي عمت أخيرا مدن كوردستان إيران و قبلها المدن الكردية في سوريا . وتشير هذه الأحداث بمجملها الى نهوض قومي كردي عارم يجتاح المنطقة ستترتب عليه تغييرات مهمة في تناسب القوى على المديين القصير و البعيد . ومن المهم أن نشير هنا الى حقيقة أن دول المنطقة تعاني من صعوبات كبيرة في التعامل مع هذا الواقع الكردي الجديد بالأساليب القمعية المعهودة في وقت لم تتخلى فيه بعد عن عقلياتها القديمة و لم تتبنى بالتالي أساليب جديدة للتعايش مع هذا النهوض القومي العارم . فلأول مرة في التاريخ تشهد الأجزاء الأربعة من كوردستان تحركا سياسيا ملحوظا يطالب من خلاله الكرد بحقوقهم القومية المهضومة و يرفضون العيش في ظل أنظمة القهر و الإستبداد القومي و الديني . حاولت الأحزاب و القوى السياسية التركية المعارضة لحكومة أردوغان و حزب العدالة و التنمية إستغلال هذا الموقف في صراعها على السلطة. فقد إعتبر دينيز بايكال زعيم أكبر حزب معارض أي حزب الشعب الجمهوري كلمات أردوغان مدعاة ( لإثارة الخلافات الأثنية ) ، رغم أن حزبه إعترف في برنامجه السياسي في بداية التسعينات بوجود (مسألة كردية ) في تركيا . الغريب في الأمر أن أصواتا من داخل حزب أردوغان نفسه عبرت عن عدم رضاها من هذا التوجه ، رغم مزاعم أردوغان بأن حزب العدالة و التنمية عمل و يعمل على إلغاء السياسات الحكومية الخاطئة بحق المواطنين الكرد و مناطقهم . و لم يفلح أردوغان في ترضية الجنرالات عبر تأكيده على التفريق بين ( المسألة الكردية و إرهاب حزب العمال الكوردستاني ) و رفضه الجلوس مع كل من يمت بصلة بهذا الحزب و وعوده بالعمل على حل هذه القضية عبر تعميق النهج الديموقراطي في ( إطار دولة واحدة و أمة واحدة و في ظل علم واحد! ) . ويتناقض هذا الشعار مع كلامه عن ضرورة الإعتراف بالأثنيات الموجودة في تركيا كالكرد ، اللاظ ، الشركس ، الأرناؤوط ( الألبان ) و البوشناق ( البوسنيين ) . الغريب أنه لم يشر الى العرب الذين يشكلون نسبة مهمة من سكان جنوب تركيا . و سخر أردوغان من الخوف من الهويات الأثنية لهذه الأقليات بإعتبارها الهوية الثانوية بعد الهوية الأساسية لهؤلاء كمواطنين للجمهورية التركية . وهذا تطور كبير في الموقف التركي على الصعيد النظري على الأقل ، إذ تؤكد تركيا من خلال بنود دستورها على تعبير ( المواطن التركي) فقط ، الأمر الذي يعني نفي وجود القوميات الأخرى دستوريا . كما يمثل إشكالا كبيرا في مسألة تعريف مواطني تركيا من غير الأتراك ، ومن هنا تسرب تعبير ( الأكراد الأتراك ) الغريب الى الإعلام العربي ، في حين لا يقال مثلا ( العرب الأتراك ) بل يقال عرب تركيا . كما لم يساعده التأكيد على أن تورغوت أويزال قال هذا الكلام قبل خمسة عشر عاما. لا بد من الإعتراف بأن تصريحات أردوغان تشكل خروجا على التابوات الكمالية رغم ترديد العديد من المسؤولين السياسيين الترك لكلام قريب مما قاله أردوغان . فقد سبقه الى ذلك تورغوت أويزال الذي أكد في بداية التسعينات من القرن الماضي على ضرورة إيجاد حل لمشكلة ما كان يسميه بجنوب شرق الأناضول . وتحدث مع النواب الكرد في البرلمان التركي و أكد لهم مرارا بأنه سيعمل على حل هذه المشكلة. ويعتقد الكثيرون بأنه ربما دفع حياته ثمنا لموقفه هذا من القضية الكردية . ولكنه كان ينظر اليها من منظور إقتصادي - إجتماعي من دون مقاربة سياسية واضحة . كما وجد سليمان ديميرل نفسه مجبرا أن يقر بما سماه (بالواقع الكردي ) في عام 1992، أما مسعود يلماز ، الملاحق بتهم الفساد الإداري و الرشوة ، فقد بز الآخرين و أكد بأن الطريق الى الإتحاد الأوروبي تمر عبر دياربكر . ولكن وفق تحليلات الصحافة التركية فإن الإقرار بالواقع أمر ، بينما الإعتراف بوجود مشكلة و ضرورة البحث عن حلول لها أمر مختلف تماما . ويجد موقف الجنرالات الترك صداه الكبير فيما يكتبه كتاب الأعمدة في الصحف التركية و بخاصة المعروفين بعلاقاتهم الوثيقة برئاسة الأركان و دوائر الحرب الخاصة .لقد إتهم هؤلاء أردوغان بإثارة الخلافات الأثنية وتعريض وحدة الوطن و الأمة الى مخاطر التفتت ،و ترديد مقولات عبدالله أوجلان حول الجمهورية الديمقراطية ، وتصوير زيارته لديابكر و كأنها زيارة الى دولة أجنبية و غير ذلك من الإتهامات التي تزخر بها الصحافة التركية هذه الأيام . تعمل هذه الصحافة و وسائل الإعلام الأخرى بدفع من الجنرالات و القوميين المتطرفين على خلق أجواء معادية لهذا التوجه ، الأمر الذي قد يضع أردوغان أمام خيارين لا ثالث لهما : إما التخلي عن نهجه هذا و بقاء تصريحاته كلمات جميلة تسبح في الهواء و بالتالي إستمرار التوتر و الصراع لسنوات أخرى ، أو التمسك به و خوض المعركة الأخيرة مع العسكر الذين يرون بأن مصلحتهم تكمن في إستمرار العمليات العسكرية في كوردستان . فسيادة اللاإستقرارا و بقاء الأوضاع المتوترة توفر فرصا كبيرة أمام الجيش للتدخل في شؤون السلطة السياسية و ممارسة الضغوط عليها بحجة حماية البلاد و المبادئ الكمالية ، أي التمسك بمواقعه المهيمنة في الحياة السياسية التركية التي تهددها مطالب الإتحاد الأوروبي و الاصلاحات القانونية لحكومة أردوغان . كما أن إستمرار الحرب في كوردستان يفتح أمام الجنرالات فرصا كبيرة لنهب الثروات و الفساد المالي و أخذ العمولات و غيرها . ولكنهم يدركون في الوقت نفسه بأن الدخول في صراع مكشوف مع الحكومة أمر محفوف بالمخاطر على الصعيدين الداخلي و الدولي . و يعلمون جيدا بأن تقليم أظافر الجنرالات يشكل مطلبا ملحا للأتحاد الأوروبي خلال مفاوضات العضوية . لذلك تتجه الأنظار الى إجتماع مجلس الأمن القومي في الأسبوع القادم. و على الجبهة الكردية أيضا يواجه أردوغان وضعا صعبا . فبسبب السياسات القمعية التركية على مدى عقود طويلة و في ظل الأوضاع السياسية و الإقتصادية و الأجتماعية المتخلفة في كوردستان ، يفتقر الكرد هناك الى حياة سياسية و حزبية صحية يمكن في ظلها خلق جبهة عريضة تستطيع التحاور مع أردوغان و تدعم توجهاته على طريق حل القضية الكردية في تركيا . لم تثمر جميع المحاولات التي جرت على هذا الصعيد حتى الآن عن نتائج يمكن التأسيس عليها . ومن ناحية أخرى يرفض أردوغان شأنه في ذلك شأن جميع المسؤولين في تركيا الجلوس مع حزب العمال الكوردستاني ، الذي يشكل أقوى التنظيمات السياسية في كوردستان تركيا و أكثرها قدرة على تعبئة الجماهير الشعبية الى جانب أو ضد أية ترتيبات سياسية تعمل الحكومة الى التوصل إليها ، إذ يسيطر الحزب على شبكة واسعة من منظمات المجتمع المدني و وسائل الإعلام و حتى أحزاب سياسية قانونية في تركيا . من هنا فإنه سيخلق حتما عقبات كبيرة أمام أية ترتيبات سياسية تحاول تجاوز دوره في اللعبة السياسية . سيقف الجيش و القوميين المحافظين في الجامعات و القسم الأكبر من السياسيين الأتراك و المحاكم التركية و القوى القومية الفاشية معارضين لتوجهات أردوغان ، و سيواجه السياسيون المعتدلون الكرد الراغبون في الحل الديموقراطي صعوبة في إقناع حزب العمال الكوردستاني للتخلي عن السلاح نهائيا . لذلك يجب أن نتوقع تعايش تركيا مع وجود قضية كردية متأزمة لفترة أخرى من الزمن و أن لا نتوقع حلا سريعا لهذه القضية . سيتطلب الأمر وقتا طويلا للتعامل مع المطالب الكردية بصورة عقلانية . و خلال ذلك ستتصارع التيارات السياسية التركية فيما بينها و كذا الكردية الى أن يصل الجميع الى نقطة يجدون أنفسهم عندها مضطرين لمواجهة القضية و التصدي لحلها . وستكون للتطورات الجارية في دول الجوار و عملية الإنضمام الى الأتحاد الأوروبي تأثيرا كبيرا على توجيه في مسار الأحداث في تركيا .
|