الدستور العراقي......أسلمة الديمقراطية ام دمقرطة الاسلام
صفوت جلال الجباري   

    
   ان من يدقق قليلا في ما ورد من مواد وبنود في مسودة الدستور العراقي الجديد يلاحظ كما هائلا من المواد والبنود المتناقضة التي تنسف احدها الاخرىفيما لو وضعت موضع التنفيذ الفعلي ,  الا اذا كان هنالك ثمة اتفاقات وبنود سرية و اتفاقات مسبقة بين الاطراف المعنية بتنفيذ قسم على حساب القسم الآخر وحسب الظروف والمعطيات.... وهنا اريد فقط التطرق الى واحدة من هذه المتناقضات(وهي بلا شك كثيرة) ...احدها تلك التي جاءت في المادةالثانية, البند الاول"الاسلام دين الدولة الرسمي, وهو مصدر اساسي للتشريع ولا يجوزسن اي قانون يتعارض مع ثوابته واحكامه", بينما جاء في البند الذي يليه ,ثانيا"لا يجوز سن قانون يتعارض مع مبادئ الديمقراطية ولا مع الحقوق والحريات الاساسية الواردة في هذا الدستور"

فاذا سلمنا ان مفهوم الديمقراطية قد وجد اصلا لتحديد سلطة الكنيسة  منذ بدايات القرن الثامن عشر واعطاء فسحة واسعة من الحرية لتحرك عناصر الانتاج من رأس المال والخبرات البشرية والمادية للبدأ بتصنيع المجتمع بغية نقله من مرحلة الانتاج الزراعي المتخلف الى الانتاج الصناعي الاكثر تطورا,  الامر الذي كان يتطلب آنذاك  الشروع باطلاق حريات الطبع والنشر والتعبير, وزج كل طاقات المجتمع في العملية الانتاجية رجالا ونساءاوما تلتها من نشوء النقابات والاحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني بعيدا عن وصاية وسلطة الكنيسة ورجالاتها, والتي نادت بالعدالة بالمساواة و ضمان الحقوق والحريات الشخصية التي كانت مكبلة قبل ذلك العصر بقيود الكنيسة ورموزها السياسية والاجتماعية, فظهرت البرلمانات وتم اعادة صياغة القوانين والدساتير بشكل يؤمن تحقيق اهداف المرحلة الجديدة , وكانت لمبادئ الثورة الفرنسية وفلاسفتها في بث دعوات التنوير والمساوات والعدالة الاجتماعية  الاثر البالغ لتشكيل بنيان فوقي للمجتمعات بعيدا عن المسلمات والقوالب الدينية الجامدة والثابتة, والتي اضحت فيما بعد الاساس العملي لتشكيل كافة اشكال تنظيمات المجتمع المدني, وهكذا ترسخت المفاهيم الديمقراطية وشقت طريقها لتأسيس انظمة سياسية استطاعت ولغاية ايامنا هذا ان تقدم لمجتمعاتها نماذج من الحكم يضمن كافة الحريات لشعوبها, ولا تعيق عملية الانتاج والنمو القتصادي مما اوصلت هذه الشعوب الى مديات راقية من التطور والنمو والازدهار.

 

 الحياةالديمقراطيةبمفهومها الشامل تعني  حرية الرأي والرأي الآخر....حرية النشر والتعبير دون قيود( عدا تلك التي تقلل من قيمة الانسان او تحرض على العنف والكراهية بين بني البشر وتحت اية مسميات كانت)....وهي تنشد المساوات التامة بين اعضاء المجتمع بغض النظر عن اللون والعرق والجنس...وهي تعني ايضا حرية الاعلام وكذلك الاحزاب المعارضة داخل وخارج البرلمانات المنتخبة, في مراقبة الحزب او الاحزاب الحاكمة بمختلف الوسائل وعلى كل المستويات بدءأ برأس النظام الى اصغر موظف في ابعد مفصل من مفاصل الدولة....وهي تعني ايضا التداول السلمي للسلطة دون تدخل الدولة( وغير الدولة) واجهزتيهما التنفيذية( والكهنوتية) ... وهي ايضا تفتح الباب للعمل والانتاج  والمنافسة  على مصراعيه باعتبارها وسيلة الرفاه للمجتمع, وتذلل امامها كل الصعاب ....اضافة الى القضاء العادل المستقل الذي يسري احكامه على الكل دون تفريق....وهي تعني ايضا حق الجميع  افرادا وجماعات في  اختيار تقرير مصيرهم بانفسهم وتحديد نوع وشكل علاقتهم بالآخرين أو  بالدولة .....هذه هي ببساطة بعض المفاهيم الديمقراطية التي تؤلف سوية كلا لاواحدا غير قابل للتجزأة او التقليم , اي لا يمكن انتقاء بند منها وترك البنود الاخرى بحجة العامل التأريخي او الاجتماعي او الثقافي او الديني....

 

اما الفكر الديني  وحتى تلك التوجهات الدينية  التي تحاول  فرض وحشر   فكرها بشكل او بآخر في الحياة الدستورية ( كما حدث مع مسودة الدستور العراقي او كما هو موجود في دساتير بعض الدول التي لا زالت تنادي باتخاذ الدين مصدرا رئيسيا او وحيدا  للتشريع ( ايران, , السودان)فانها حتما  تفرض قيودا على حرية التعبير والنشر والاعتقاد وتربطه بعدم مخالفتها لبنود الشريعة لانها تعتقد ان الدين هو الناموس الازلي الصحيح والمطلق واحكامه لا تقبل النقاش( ان الدين عند الله الاسلام) .... و لديها مواقف ثابتة ومسبقة حول المخالفين لها في الرأي او المعتقد او الدين مستوحات من الاجندة الدينية الثابتة(الذين يتخذون الكافرين اولياء من دون المؤمنين, ايبغون عندهم العزة فان العزة لله جميعا)(امرت ان احارب الناس حتى يقولوا لا اله الا الله محمد رسول الله).... افراد المجتمع وبالاخص النساء لا يمكن ان يتمتعوا بنفس الحقوق وواجباتهم في المجتمع مرهونة ايضا بموقعهم في الدين والشريعة( الرجال قوامون على النساءبما فضل الله بعضهم على بعض , وبما انفقوا من اموالهم)(لا يفلح قوم ولوا امرهم امرأة).....الذي يعارض السلطة السياسية او الحاكم كأنما يعارض الدين باعتبار السلطة السياسية منبثقة وفق احكام الشريعة التي لا تقبل الخطأ او النقد والدحض(يا ايها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم)..(لا تسبوا الولاة , فانهم ان احسنوا كان لهم الاجر وعليكم الشكر , وان اساءوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر) ....تداول السلطة تكون بمفهوم التسليم بمبدأ الشورى اي التداول داخل النخبة او اهل العلم ( العلم يعني بالطبع العلوم الدينية ), وكم حدث في فجر الاسلام في اختيار الخلفاء الراشدين بعيدا عن اية مشاركة من الشعب وباسلوب التكتلات والمؤامرات, وبالتالي لا يمكن لاي شخص او اتجاه لا يؤمن بالشريعة اساسا للحكم ان يترشح للانتخابات.....القضاء لا يسري احكامه على الرموز الدينية باعتبارها كيانات مادية او معنوية معصومة لا تخطأ وبالتالي لا تحاسب.... حكم المعارضة بموجب  الشريعة هو الموت(قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون بدين الحق).... اما فيما يخص الاحوال الشخصية وبالذات حقوق النساء في الزواج والطلاق وحضانة الاطفال وحق العمل وحق المشاركة في الحياة السياسية او في الاجهزة التنفيدية في الدولة وحق الشهادة والميراث فحدث ولا حرج.

 

 لو فرضنا ان المشرع العراقي اراد تشريع قانون ما  , فعليه ان يأخذ بالحسبان اولا ان هذا القانون  يجب ان لا يتعارض مع اي من الثوابت الموجودة في الاسلام( وهي كثيرة وتشمل اغلب مناحي الحياة ) بموجب الشريعة والفقه الاسلامي , وعليه ثانيا ان يؤول اسباب صدور القانون المعني الى حكم من احكام الشريعة المستندة الى اساس قرآني او مستند الى السنة النبوية... وعلى افتراض ان هذا القانون لا يتعارض مع  ثوابت الديمقراطية وحقوق الانسان ( ولو انني شخصيا اشك في امكانية الجمع بين الاثنين).......ولكن لو ان التجربة العملية بعد مدة من الزمن اثبتت ان هذا القانون غير صالح( وهذا يحدث كثيرا مع القوانين في مختلف البلدان)... السؤال هنا كيف يستطيع ممثلي الشعب او المعارضة او حتى المشرعين انفسهم تغير هذا القانون الذي استند اصلا الى المقدس والثابت الذي لا يقبل التغيير والتصحيح؟؟؟                                              

 

باختصار هذا هو حكم الشريعة وذلك هو حكم الديمقراطية والسؤال هو ايهما يجب ان يتخلى عن احكامه ومبادئه واسسه حتى يقترب او يتطابق مع الآخر.؟؟؟؟ ....هل علينا في عراق الغد ان نؤسلم الديمقراطية ام نمقرط الاسلام .....اغلب بنود الدستور تميل الى  جعل الديمقراطية ترفع الراية البيضاء امام قوة وجبروت الساحة السياسية الاسلامية السائدة في عراق ما بعد صدام.... ياترى اية تجربة فريدة تنتظر دستورنا( الاسلاموديمقراطي) لتوهب الحرية والمساواة لشعوبنا العراقية المحرومة رجالا ونساءا مسلمين ومسيحيين ويزيدين وصابئة, كوردا وعربا وتركمان وكلدو آشور, وهل ان الاسلام الشيعي العراقي ( الذي يصطبغ به الكثير من بنود مسودة الدستور) قادر فعلا ان يقدم للشعب العراقي ما عجز عنه الاسلام الشيعي الايراني الذي  يحكم الجارة ايران لاكثر من ثلاثة عقود, والتي اغرقت ايران في دهاليز التخلف والظلم والضياع والتي حصدت مئات الآلاف من ارواح المناضلين والمفكرين ورجالات الفن والادب من  مختلف الشعوب الايرانية......انها فعلا صراع الارادات في عراق اليوم  والضحية دوما هو الشعب العراقي......