وزن الظل

 

برهان الخطيب
Burhan al-Khatib

 


في الليل ينام العقل وتستفيق الرغبات تبحث عما يروّي عطشا للمطلق والمستحيل خلال سراديب الذاكرة وخلف جدران الممنوع. تجتازها إلى هضاب الطموح البعيدة وذرى الآمال المنيعة على شاطئ آخر من الوجود، حيث الغياب مرآة الحضور.

سارية في كل اتجاه مثل النور والهواء الذي جاءت منه، تواصل بالخيال غزو الفراغ الفسيح. يتراجع العقل المضاد. تصطدم بتيارات الزمن وحواجز الممكن والمألوف البائسة الشفافة، تكتسحها بيسر، بجرأة. تواصل السريان بحثا عما يغذيها، محلقة بكيانه المرئي وغير المرئي.

أجنحة جواد أبيض يأنف المعتاد والمرتاد، بعيدا عن الجدران والخذلان، من صالة للوجود إلى أخرى، نحو غاية عليا سحيقة سعى غيره إليها في دهور من زوايا لا تعد، مَن وطأها وفر لآخرين مشقة الصعود إلى ذرى، أنبأ عن المنتظَر هناك، في نهاية ارتقاء سريع أو زحف كسول، قد تنفد القوة في الطريق، نصف المعنى مجتبى حتى الآن، ما وصل المبتغى، ولا عاد لو ضيع المعنى ونصفه إلى صباه، الشيخ لا يعود إلى صباه.

يصنعه كل مساء حين يكون في حضرة اليقين والمطلق والسرور، حط ملاكه على اليمين، ضائع الملامح في نور وديجور، مسح أعلى جبهته بحنان، يا صديقي العزيز الطيب، مَن يبعد عن الخير يبتعد عنه. قال ما ابتعدتُ لكن ما استطعت وأنا الآدمي العيش من النور والحبور، هل أنا من أهل الشر ولا أدري، كلنا إليه ماضون؟

همس الملاك أراك لم تكتب في زمن طويل. سأل ما أكتب وفي بغداد الآن أكثر من مائتي صحيفة ومدرسة، وفي سوق ورّاقيها آلاف الكتب المندرسة.

غمره النور. غشاه. قال اكتبني. كيف أكتبك وأنت في داخلي، أخرج لأرى. في الغياب نَرى ونُرى أفضل. ترى ابنة أختك البعيدة تفكر فيك، فماذا تفكر؟ اسألها غدا، والآن اكتب. بغداد ما لحسنك حجّبه الردى، قال لسوف يزعل مَن عليهم حجاب وصدى. شرح النور: ربما تكون بغداد ابنة أختك أو امرأة أخرى، ولعلك نسيب المنصور مؤسسها ولا تهتدى. يتضح كل شئ لحظات الكشف وبلوغ المدى، أضف، لحظات الوجد نُدرى، عشاقك ما ضاعوا فيك سدى ..

مهلا أخشى يثير هذا البيت فتنة.

لا تخش، الفتنة فتنة.

ذكرت هذا من قبل فلماذا تعيده؟


سقط خالد في الصحو، واجه نسرين:

"
ما بكَ؟" مسحت العرق المتصبب عن جبهته.

"
مَن تصور علاقتنا تصل هذا الحد بعد أسابيع من لقاء المطبعة".

"
نادم؟" ..

"
لا. أفكر كيف نرتّب وضعنا لاحقا".

"
لا تفكر لها مدبر".

"
أنت أيضا تقولين هذا؟".

"
لست وحيدة حين أقول ما لا أريد وأحيانا العكس".

"
هذا في بلاد لا تعرف قيمة الكلمة، لذلك تأخرنا".

"
لا اعرف أعيش إلى غد أو لا فأي قول تنتظر".

"
لا تقولي غير ما ترينه صوابا ولو ضاقت تكسبي نفسك".

"
ما الصواب يا خالد وما الخطأ في عالم خاطئ".

"
عالمنا الكبير بأيدي كبار، علينا بالصغير".

"
قل ما تريد تجدني جوارك، لكن لا تفكر نمت معك لتأخذني إلى الخارج، حلمت بالسفر هذا معلوم، ليت الدوافع والنتائج تتآخى، أنا حتى لا أعرف تماما تسافر إلى هناك مرة أخرى أو ستبقى هنا، أصارحك، لم أعد أحلم في شيء، ماتت الأحلام الكبيرة منذ زمن بعيد، بقت هذه الأحلام الصغيرة، ألفة وِرقّة مفقودة، وجدتها عندك لو أصبت".


"
ما قول زوجك لو عاد ورآنا الآن، أو في بيتك غدا، تبدين غير مهتمة كثيرا لفضيحة" ..

"
كذبة بيضاء كانت، لا زوج منذ حملة الأنفال، أخذوه مع الآخرين وغيبوه، لا أدري لماذا كذبت، لي ابن هناك، لم أشأ كشف عمري أو أردت إبعادك فقلت لي زوج هناك".

"
لماذا لم تلحقي ابنك؟".


"
ملته في مالمو مع عائلته وحياته لا يريد إدخالي فيها فهمت، هيا حاكمني، توقعت هذا، اسألني كم من الرجال نمت معهم قبلك، لماذا بقيت من غير رجل، ولماذا نمت معك وما الشرف عندي وقصدي من علاقتنا، أخرج باقي ثعابينك لو كنتَ مثلهم".

"
تعرفين لدي واحد أليف يرعى عندك".

"
باقي أسئلتك، المعلومة والمجهولة، أجيبك في الحال وننتهي من ماضينا للتوجه إلى الحاضر والمستقبل لقتلهما أيضا، كل شئ يقتل اليوم، لماذا نشفق على أي شئ، الحب أول الضحايا، هان قدر الآدمي، تعرف، يمكن قتله في بغداد اليوم بمائتي دولار، سعر الكلب الجيد أغلى قليلا" ..

"
مرارة ابتسامتك قليلة".

"
طفح الكيل، لا مرارة في روحي".

"
ولا لوم لوصول علاقتنا إلى هذا الحد، علاقتنا الحرة آخر درة في تاج بغداد اليوم".

"
صادق، ليقل الأغبياء ما شاءوا، لا يغيروا حتى أنفسهم. ولو شئتَ رأيتُ فيك أيضا نباهة، صدقا مع النفس والغير، قلت الرجل كاتب أريب، في مخطوطته فهمَ البطلة، أنصفها، وسوف يفهمني افضل من غيره، لا يلوم على خفة عقل لو استجبت لهواه وهواي، معه لا تخسر أرملة كثيرا في مدينة فقدت قيودها، حب ساذج سريع حسب الطلب افضل من تيبس مميت عشته".

أنصت متكئا بمرفقه على وسادته، ممددة جواره، مبحرة في السقف، شاعرا مودته تكبر، أكملت منفعلة:

الشرف؟ معلوم مطلوب، بدونه لا عيش في كرامة وانسجام في جحيم الآخرين. مهزلة، رأيتَ بنفسك التمسك بقيمهم ولوازمها قادنا إلى أين، إلى تدمير أنفسنا والآخرين، إلى حلبجة ومقابر جماعية في أريافنا وذبح إخواننا وراء الحدود بحروب واغتيالات.

أقاموا كل شئ، انتماءنا، ولاءنا، على أوهام، لذلك أوصلونا إلى كارثة، لذلك أرى قيمة الشرف في العقل والصدق، لا تحت محزم أو وراء ُستر لا تعني شيئا.

العقل؟ منطق مفتوح لا مغلق، فهمتُ هذا من كتابك في الأقل، شجعني للمجيء معك إلى بيتك، غيرك كان يرى فيه غزوا، كسبا، اقتحاما، التهاما، دعارة بي. صدقني ما كنتُ جرؤتُ وانسقت، لا أحب جعل نفسي ضحية، معك اختلف الحال، ليس لأن عينيكَ اجمل جئتُ معك، ربما لأن عقلك أرجح، سحر لم أفهمه، خلى كل شئ في عالم معتاد ساده غيرك يبدو معك مختلفا، لطفك الطبيعي جرف الخشونة وأسرني ..

تفاهمنا معلوم، لكن لا تظن مشكلتنا حلت مع وسطنا، قد تزداد تعقيدا، عرفت امرأة خرجت مع خطيبها أو صديقها بسيارته، كانا في أتم انسجام، أمامهما سيارة حمل فيها أعراب وطابوق، لحظة غضب أو حسد رفع أحدهم طابوقة ورماها عليهما، تهشمت زجاجة السيارة واصطدمت بأخرى، انتهى الحب.

حذار الآن يرمينا آخر رمية اشد. أمس قالوا دخل غرباء على امرأة وقتلوها بتهمة البغاء، لا أفهم، لو أصلحوا الجميع مَن يدخل جهنم، عملهم ضد خالقهم، في الآخرة يجد نفسه بلا شغل، لن يشكرهم على تخطي حقوقه، تفضلوا إلى النار يقول لهم لانتحالكم صلاحيات الغفور الرحيم ..

حين جلستُ مع أمك في غرفة الاستقبال لمحت في عينيها ألف اتهام، كيف ستوضح وضعنا حين نخرج لا أدري، لها حق لو ظنتني عاهرة استأجرتها لليلة، التلفونات بيننا لا تشفع لي، ولا شغل نشر كتابك، تزوجت هي حسب الطقوس القديمة ولن ترضى لابنها تمتعه بحرية، هي في قالب كالسواد، ما خارجه تراه مروقا، لا يهم أخرجتنا منه القنابل أو غيرها، علينا الاستعداد لمعركة قادمة، معاركنا مع الخارج انتهت، بدأت معاركنا في الداخل ..

شبك يديه وراء رأسه، أراحه على حاجز السرير ..

إذن بداية معركة جديدة، ثانية تنتظره نجومه البعيدة، ألن يستقر الرأس يوما حيث يريده، الهرب بالخيال بدل حبوب الوجع فكرة سديدة، نسرين تتابعه كأنه طريدة، من حرير جعلت قيوده، استدارة الرحب الناعم مهرب فسيح، مزهر بأحلام ورغبات عديدة، فوهة الوسط موقع نيزك اختفى نثاره على الحدود المديدة، السهول منحدرة في يسر وخطاه وئيدة، معشوشبة بين المرتفعين المنورين على جانبيه في قَصّة حميدة.

هنا يمتد واد أيضا. ينبوع لذة أكيدة، كأنه الكولورادو لمحلق بطائرة أو خيال، هبوط منحدراته السلسة ممتع لو نبذ الجدال، وبتشبث الشفتين يؤجل السقوط في ظلمة القرار، احتضن مملكة العاج متوَّجا ملكا من غير تاج وخصيان، على القمتين المستديرتين كأجنحة خفق الكفّان، يسعيان دون جدوى في طيران، وحذر من تفاقم عصف وفيضان، وما ينجي من ضياع في العمق دون حسبان ..


تطلعت إليه من الذرى، ما تفعل هناك، لماذا لا تأتي إليّ نجرب النسيان ..

نزعتُ يا نسرين الشرك وبقيتُ واحدا، لا أرصف الكلمات إلاّ كمدا، هكذا خافقي على هذا العشب شدا، ترمقين وأنا إليكِ حَمِدا، حُسنا بغداديا مُضَيعا أمدا، وعاد لي باهرا أخيرا وهدى، تعلو يداي نحو قبتين نهدا، تلملمان السحر بأصابع فردى، فيزهر ما حولنا حتى القدسين وردا، يفوح للمنكوب هنيهات سُعدى، تلعن ما كان علينا سيدا، وتزهو بحلم مسافر أبدا ..

تناهى صوت أمه من وراء الباب مترددا: "تحتاجون شئ شياتين؟" ..

"
لا، نحن وشك الانتهاء من المراجعة".

"
شاي، ماي، حاجة، محتاجة؟" ..

"
قريبا ننزل".

"
الباب لماذا مقفول؟" ..

"
عادة شغل، ننزل بعد دقائق، حضري لنا الشاي".

تلاشت أنفاسها وراء الباب.

جرّت نسرين الشرشف وتغطت: "أمك كانت تنصت وراء الباب، لا زالت هناك، لو نظرت من ثقب المفتاح فضحتنا".

"
انتظري، ما زال مفتاحي في الثقب، التجلي ما اكتمل، حلم داخل الحلم يا للعجب".

"
لا أدري .. نفعل الشئ الصحيح .. أو سنندم".

"
لو بقينا ننتظر الصحيح والوقت المناسب ما فعلنا أي شئ".

"
لهذا الإنسان خاطئ؟".

"
ظننتُ تخلصتِ من الوهم حين طرحتِ ملابسك والصليب على الكرسي وظلك ارتاح من تتبعك حين غفا المصباح، كفاك تلفتا".

"
يتجدد يا خالد، يتجدد" ..

"
وإلاّ كانت حياتنا مضجرة أكثر".

"
كل شئ .. مقابل تبديد ضجري السقيم".


 

 

روائي عراقي مقيم في السويد
              عن كيكا