جودت هوشيار
الحديث
عن المستشرقة الروسية مرجريت رودينكو ( 1930 – 1976 ) يعني الحديث عن المخطوطات
الكوردية , فقد افنت زهرة شبابها وكرست كل طاقتها العلمية الخلاقة خلال اكثر من
ربع قرن في سبيل الكشف عن ذخائر التراث الكردي المتمثلة في المخطوطات الكردية
القديمة وتحقيقها وترجمتها الى اللغة الروسية ونشرها . وحققت في هذا المجال
إنجازات باهرة .
مرجريت رودينكو : جورجية المولد . أوكرانية اللقب , روسية التعليم والثقافة .
ظهر نبوغها في وقت مبكر , حيث كانت في حوالي العشرين من عمرها حين أنهت دراستها
الجامعية بتفوق , والتحقت في عام1951 بمعهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم
في لينينغراد (بطرسبورغ حاليا" ) كطالبة في الدراسات العليا , واختارت بحسها
الجمالي الرهيف – أروع ملحمة لأحد الشعراء الكرد العظام و نعني بذلك ملحمة ( مم
وزين ) لأحمد خاني لتكون موضوعا" لرسالتها العلمية , التي دافعت عنها بنجاح في
عام 1954 وحصلت على شهادة الدكتوراه في الادب الكوردي , ثم عملت لفترة طويلة
باحثة علمية في المعهد المذكور .
في عام 1957
نشرت رودينكو كتابا" تحت عنوان ( مجموعة أ لكسندر
ذابا
من المخطوطات الكوردية ) التي جمعها المستشرق البولندي الاصل الكسندر
ذابا
خلال عمله الدبلوماسي بصفة قنصل روسيا القيصرية في مدينتي ارضروم و سميرنا (
ازمير حاليا" ) وبمعونة عدد من الملالي ورجال الدين الكرد وفي مقدمتهم العالم
الكردي الموسوعي الملا محمود البايزيدي (
1868 - 1797
) , وتتألف مجموعة
ذابا
, كما تقول رودينكو , من ( 54 ) مخطوطة منها (44 ) مخطوطة باللغة
الكردية و ( 4 ) باللغة الفرنسية و ( 3 ) باللغة التركية , وهذه المخطوطات
تتضمن نتاجات في شتى جوانب الثقافة الكوردية ( اللغة , الادب , الفولكلور ,
الاثنوغرافيا , التاريخ ) وهي محفوظة في مكتبة سالتيكوف – شدرين الحكومية
العامة في مدينة بطرسبورغ كما توجد مجموعة ثمينة أخرى من المخطوطات الكوردية في
مكتبة معهد الاستشراق التابع لأكادمية العلوم في
المدينة ذاتها
وتتألف من ( 40 ) مخطوطة منها ( 3 ) مخطوطات مأخوذة من مجموعة زابا اما البقية
فقد قدمت للمكتبة من قبل عدد من المستشرقين منهم ( ب. دورن ) و ( فيليا مينوف –
زيرلوف ) وآخرون مؤسسي الكوردولوجيا و المهتمين بها في روسيا . وفي عام 1961
أصدرت رودينكو كتابها الشهير ( وصف المجموعة اللينينغرادية من المخطوطات
الكوردية ) يتضمن هذا الكتاب وصفا علميا" دقيقا" للمخطوطات المحفوظة في
المكتبتين المشار إليهما فيما تقدم , وقد أصبح هذا الكتاب دليل عمل لكل راغب في
تحقيق المخطوطات الكوردية المحفوظة في خزائن لينينغراد ( بطرسبورغ ) .
ولقد ذكرت
رودرينكو في مقدمة كتابها ولأول مرة بعض المعلومات الأساسية عن الملا محمود
البايزيدي , هذه المعلومات التي تداولتها الأقلام الكردية فيما بعد وتقول
رودينكو : ( إبتداء من عام 1856 أخذالكسندر
ذابا
بتكليف من الاكاديمي ب. درون يدرس اللغة الكردية ويجمع مواد حول أدب وفولكلور
واثنوغرافيا وتاريخ الكرد وكذلك المخطوطات الكردية وقد أسدى إليه العالم الكردي
الملا محمود البايزيدي عونا كبيرا" وفعالا" , وإستنادا" الى المعلومات التي
ذكرها
ذابا
فأن البايزيدي ولد في أواخر القرن الثامن عشر في مدينة بايزيد , حيث تلقى
تعليمه الأولى , ثم رحل الى مدينة تبريز للدراسة وحصل على معارف ممتازة في
مجالات اللغة والأدب والتأريخ والفلسفة الفارسية والعربية . وفي خمسينيات القرن
المذكور رحل الى مدينة ارضروم , ومنذ ذلك الوقت أصبح معاونا" فعالا"
لذابا
في جمع المخطوطات الكردية , والبايزيدي هو المؤلف الحقيقي للعديد من مخطوطات
ذابا
اضافة الى ترجمانه من اللغة الفارسية . بيد انه لم يكن يوقع بأسمه على هذه
المخطوطات في كثير من الأحيان تلافيا" لإثارة استياء رجال الدين الذين كانوا
ولاريب سيدينون العون الذي يقدمه عالم مسلم وبخاصة عالم دين الى رجل مسيحي كلفه
بهذا العمل . ان بعض المؤلفات التي قام البايزيدي بنسخها وقعها باسم محمود
أفندي أو الخواجة محمود أفندي .
وقد بذلت
رودينكو جهودا" مضنية طوال سنوات عديدة لتحقيق وطبع ونشر أهم المخطوطات النفيسة
من المجموعة اللينينغرادية , مع ما يتطلب هذا العمل من جهد لضبط النصوص و
ترجمتها الى اللغة الروسية وكتابة المقدمات الضافية والتعليقات الضرورية , وفق
منهج علمي حديث وفي حياد عملي صارم و موضوعية دقيقة . وتتضمن النصوص المحققة
أبرز الآثار الأدبية الكلاسيكية في التراث الكوردي ومن أهمها ملحمة ( مم وزين )
لاحمد خاني و ( الشيخ صنعان ) لفقي تيران و ( ليلى وجنون ) لحارث البدليسي و
(
يوسف وزليخة ) لسليم سليمان , إضافة الى كتاب (
عادات
وروسوماتنامةي ئةكرادية
) للملا محمود البايزيدي . ولقد حصلت رودينكو في عام 1973 ( أي قبل وفاتها
بثلاث سنوات ) على أرفع درجة علمية حيث منحت شهادة دكتوراه علوم في الفيلولوجيا
وهي شهادة أعلى من شهادة الدكتوراه المعروفة
ب
( P.H.D)
وتمنح لقاء إنجازات علمية بارزة . وقد كانت ملحمة ( يوسف وزليخة )
موضوعا" لرسالتها الثانية لنيل الشهادة المذكورة .
لقد كانت
إنجازات رودينكو حافزا" قويا" لعديد من المستشرقين والباحثين الكرد لولوج ميدان
تحقيق المخطوطات الكوردية و في مقدمتها المجموعة اللينينغرادية . بيد ان
مخطوطات كثيرة أخرى موزعة على مكتبات العالم و بخاصة في ألمانيا و انجلترا و
فرسا اضافة الى دول الجوار و ربما في أخرى كثيرة . مازالت تنتظر من يهتم بها
ويخرجها الى النور , ان الآثار المحققة تظل أسيرة معاهد الاستشراق ولجامعات ولا
يطلع عليها سوى نخبة صغيرة من المستشرقين والباحثين , لذا فقد عملت رودينكو على
ترجمة وتقديم نماذج ممتعة وشائقة من الحكايات والاساطير والقصص الكوردية ,
إضافة الى الأمثال والأقوال السائرة الكردية الى القارئ الروسي العادي , أي
للجمهرة الواسعة من القراء .
وأسهمت رودينكو في عدد من المؤتمرات الاستشراقية ببحوث عن التراث الكردي وعن
الأدب الكردي الكلاسيكي على وجه الخصوص , قبل رودينكو كانت مجموعة من الآثار
الأدبية الكلاسيكية ( وهي أثمن جزء من التراث الكردي ) قابعة في زاوية الاهمال
والنسيان وجاءت هذه الباحثة الرائدة لتخرجها الى دائرة الضوء وتجلوها وتسلط
عليها رؤية علمية متفتحة وتعرضها مشرقة ونابضة بالحياة والحس الإنساني وكشفت في
هذه الآثار أبعادا" جديدة واعادتها الى موقعها من دائرة اهتمامنا وأصبحت جزءا"
من حياتنا الروحية , تحيا فينا ونحيا فيها , وبذلك فندت رودينكو المزاعم
المضللة التي كانت سائدة في الأوساط الاستشراقية حول عدم وجود أدب أصيل مدون
للكرد .
لذا
من الانصاف الإقرار بان نتاجات رودينكو تشكل نقطة التحول الرئيسية في دراسة
واحياء التراث الكردي . فقد عملت الكثير من أجل تعريف المعاصرين بنماذج رفيعة
المستوى من هذا التراث الخصب . ولو امتد بها العمر لقدمت لنا المزيد من أعمالها
القيمة . ولكن الموت أختطفها وهي في قمة نضوجها
الفكرى
وعطائها العلمى. وحري بنا ان نحذو حذوها , فلا ضير ان يدرس الآخرون تراثنا ولكن
من واجبنا ان نشاركهم هذه الدراسة فنحن اولى بها .
إن
لهذه المستشرقة الرائدة فضلا" كبيرا" على كل من يهمه بعث التراث الكردي الأصيل
وجعله في متناول أيدي المثقفين في جيلنا والأجيال اللاحقة و وفاء" لذكرى
رودينكو و خدمة التراث الكردى , فاننا ندعو المؤسسات الثقافية الكردستانية
وبخاصة المجمع العلمي الكردستاني و جامعات الاقليم بترجمة نتاجات رودينكو الى
اللغة الكردية . كما ندعو الى محاولة استرداد المخطوطات الكردية الموجودة في
متاحف ومكتبات العالم , استردادا" مجازيا" بتصويرها تمهيدا" لتحقيقها وطبعها
ونشرها من اجل اطلاع الكورد أنفسهم و المثقفين و الباحثين منهم تحديدا" و
الآجيال اللاحقة علي كنوز هذا التراث ، خاصة و اِن أثمن جزء من هذا التراث أي
المخطوطات الكردية المحفوظة في مكتبات بطرسبورغ تتعرض اليوم الى التلف بسبب
الظروف الطبيعية و قطع التمويل الحكومى عن المؤسسات العلمية و المكتبات العامة
في روسيا .
|