هل إن معضلة كوردستان سوريا آيديولوجية أم تقنية؟

في ضوء تصريحات الرئيس بشار الأسد لقناة سكاي نيوز التركية

محسن جوامير ـ كاتب كوردستاني

 

أجرى مراسل قناة  ( سكاي نيوز ) التركية سردار آك إينان حوارا مع الرئيس السوري بشار الأسد،  تناول فيه مختلف القضايا الداخلية والإقليمية والدولية.. وقد شكّلت المسألة الكوردية في سوريا جانبا من الحوار وذلك من خلال إستفسار المُحاور عن قضية الكورد المحرومين من الجنسية السورية، وعن المفهوم السوري لحل المشكلة الكوردية.. فكان جواب الرئيس السوري هو : ( أن هناك شئ ثابت.. الأكراد جزء أساسي من النسيج الإجتماعي في منطقتنا، وليسوا جزءاً مصطنعا، ويجب أن نأخذ هذا الموضوع بعين الإعتبار.. المشكلة الكوردية هي "مشكلة تقنية" لها علاقة باحصاء حصل في عام 1962 ولم يكن هذا الإحصاء دقيقا من الناحية التقنية.. ولم تكن هناك مشكلة سياسية، ولو كانت هناك مشكلة سياسية تجاه الموضوع الكوردي لما حصل احصاء في الأساس.. لذلك بالنسبة لنا في سوريا نقوم بحل هذه المشكلة أيضا تقنيا لأنه لا توجد موانع سياسية.. ولكن الذي نفكر به هو أن هذا الموضوع يرتكز على تأريخ سوريا الذي لم يتغير في الماضي منذ الإستقلال ولن يتغير في المستقبل )..

 

القارئ لما ورد في جواب الرئيس بشار الأسد الذي جهر به، تختلط عليه الأمور في حل إشكالية ( التقنية ) التي يلوذ بها في تحليله لأصل المشكلة..  ويلحظ بأنه ينأى بنفسه عن الخوض في جذور العلة المتأتية أصلا ومنذ عقود من الأفكار القومية العربية والبعثية المترجَمة عن الطورانية والتي ُبنيت قواعدها واُحضرت في سوريا ولبنان قبل وبعد الاستقلال وأكثر روادها وأساطينها بل وفلاسفتها ـ إن صحت التسمية ـ سُقوا من ماء ومعين واحد، ثم إنطلقوا بأفكارهم إلى بقية دول المنطقة منها العراق، وبغض النظر عما حصل من صراعات وإنشقاقات بين أقطابها ورؤوسها نتيجة التنافس والتقاتل على السلطة وجر كل طرف النار إلى قرصه وبمرور الزمن.

 

 وقد وصل الأمر إلى حد ان صارت العروبة بديلا عن الأديان السماوية والقيم الإنسانية الراسخة، مثل : نحن عربٌ قبل عيسى وموسى ومحمد.. أو كما يقول ميشيل عفلق ( 1910 ـ 1989 ) منظر وفيلسوف البعث : لقد كان محمد كل العرب، فليكن كل العرب محمدا.. أو كما قال بعض مفكريهم : إذا كان لكل عصر نبوته المقدسة، فإن القومية العربية هي نبوة هذا العصر.. بل تجاوزت الدعوة للقومية العربية لتصل إلى مربع الكفر والتحدي لتجعل من ذات العروبة دينا وديدنا، وينجلي هذا في قول الشاعر اللبناني رشيد سليم الخوري ( 1887 ـ 1984 ) الذي يعتبره البعض قدّيس الأمة العربية:

 

هبوني عيدا يجعل العرب أمـــــة

وسيروا بجثماني على دين برهم

سلام على كفر يوحد بيننــــــــــا

وأهلا وسهلا بعده بجهنـــــــــــم

 

إن من يدرس حياة ساطع الحصري (  العضو الفاعل في حزب الإتحاد والترقي التركي ) المولود في حلب عام 1880  ودوره في تنظير فكرة  القومية العربية وشرعنتها نقلا عن الطورانية الكمالية ولكن بعقال عربي، وكذلك كتبه ومحاضراته ومقالاته ولا سيما كتابه ( العروبة أولا ) وكذلك صولاته وجولاته في الدول العربية بدعوة منها لأغراض التربية والتعليم وكتابة المناهج لحين وفاته في بغداد عام 1968 ، لا يخالجه أي شك بأن نظرياته وأطروحاته ساهمت بجانب مثيلاتها وإلى حد كبير في تشكيلة الفكر العربي وأخرجت فيما بعد عقولا وأحزابا جعلت من العروبة عقيدة فوق كل شئ ، وفي طليعتها حزب البعث الذي كان له قصب السبق في هذا المضمار والذي تأسس في عام  1947  على أيدي : ميشيل عفلق، صلاح البيطار، جلال السيد و زكي الأرسوزي.. وكان لهذا الحزب دوره الفاعل في التاثير على كل الحكومات التي طرأت على سوريا بعد الإستقلال عام 1946 بدءاً بحكومة شكري القوتلي وإنتهاءً بحكومة حافظ  أسد عام 1970 وإلى يومنا هذا.. وكان هذا الحزب ومعطياته الفكرية والآيديولوجية سببا لكل ما حصل للكورد وغيرهم سواء في سوريا اوالعراق.

 

وبناء على ماسبق فإنه لو لم يكن هناك مشكلة سياسية وخطة مُبيّتة كما يقول السيد الأسد، وكانت المسألة مقتصرة على مجرد إحصاء ونفوس، لِمَ كُلف الملازم محمد طلب هلال ( الذي أصبح من ثم نائبا لرئيس الوزراء ) في عام 1962 بوضع دراسة شاملة عن محافظة الجزيرة من النواحي القومية والإجتماعية والسياسية مرفقة بالمقترحات، ومن ثم نفذ مشروع الحزام العربي الذي إستهدف إبعاد الكورد الساكنين في 300 قرية على الشريط الحدودي بطول 375 كلم مع تركيا وعمق 10ـ 15 كلم وتوطين العرب مكانهم وإستبدال أسماءها بالعربية، مع إعتبار الكورد من الأجانب وتجريد 120000 ألف منهم من الجنسية السورية وعشرات الآلاف دون تسجيلهم في القيود الرسمية من بعد .؟ وكل هذه الإجراءات التطهيرية والعنصرية تمت ونفذت مع إنقلاب البعث عام 1963 وإستمرت بعدها إلى أن تحقق الهدف، بل أصبحت نموذجا يحتذى به في العراق ضد الكورد.. دع عنك ما جرى بعد ذلك من محاولات لتأصيل هذه الخطوة وتوثيقها بدراسات صادرة عن حزب البعث حول كون الكورد شعبا لا أصل معلوم له ولا لغة ولا حضارة، لتمويه الرأي العام .. ويبدو أن تأثير التعريب على بعض الكورد كان إلى درجة أن بعضهم لم يتعرف على أصله إلا حين لجوءه إلى الخارج بعد حادثة حماه، وقد إطلعت على هذه الظاهرة في الخارج حين إلتقيتهم، ولحد الآن لم يحل عندي هذا اللغز!

 

بقدر غموض عبارة ( المشكلة تقنية ) التي يركز عليه الرئيس أسد، فانه بهذا القدر تحمل عبارة ( لا توجد موانع سياسية ) من غموض وضبابية.. لأننا لم نر لحد اللحظة أن هناك تحولا سياسيا ملموسا في سوريا يحمل في طياته إيجابيات تُطمئن الكورد على حاضرهم ومستقبلهم وثقافتهم ولغتهم وتراثهم، ولم نجد أية خطوة تخطى بالاتجاه الذي يعيد بعض حسن الظن على الأقل بالدولة وبالتصريحات، من خلال السماح بفتح مدارس كوردية أو بتسمية الأبناء بأسماء كوردية  دون شق الأنفس أو الطباعة باللغة الكوردية أو عدم ممانعة فتح قناة تلفزيونية أو إذاعة كوردية حرة والتي أصبحت من الحقوق البسيطة على وجه البسيطة.

 

 ربما يكون قول سيادته في نهاية حديثه ( إن هذا الموضوع يرتكز على تأريخ سوريا الذي لم يتغير في الماضي منذ الإستقلال ولن يتغير في المستقبل ) إنذارا وجالبا للشكوك وإيحاءً باستمرار تلك السياسة السابقة.. لأن سوريا ومنذ إستقلالها عام 1946 لم يتوان في حرمان الكورد من كل الحقوق التي كانوا يتمتعون بها في ظل الإحتلال، سواء من الناحية الثقافية أو السياسية،  حيث لم يكن عندئذ أي حظر على الإصدارات الكوردية ولا على التشكيلات السياسية ولا على الأنشطة الثقافية، بلْهَ عدم تعرضهم للملاحقات والتهجير وكانوا على أرضهم مستقرين.

 

نعتقد أن إخفاء الحقائق باللجوء إلى ( تقنية المشكلة ) وعدم التعرض إلى أصل العقدة ( وهي عقيدة الدولة ) بالمشرط لإزالتها كما حصل للمذاهب الفاشلة في إدارة الشعوب، لن يجدي نفعا.. لأن الآيديولوجية الحاكمة على الدولة بمختلف مرافقها قد تهرأت وشاخت وهي آيلة إلى السقوط  إن لم يكن هناك ما يسعفها من تغييرات جوهرية في بنيتها من خلال الإعتراف بعدم صلاحية الآيديولوجية ( كأمها الطورانية ) وعدم مواءمتها لا مع القيم السماوية ولا المبادئ الأرضية.. وإن ضررها المدمر لم يعد مقتصرا على الكورد، إنما إنسحب على الجميع.. وإن التغييرات التقنية كما نفهمها لا يبدو أنها تتجاوز حدود الرتوش والتجميل الخارجي الذي يخفي تحته صورا وأشكالا وتجاعيد مخيفة ترعب الناس حين تظهر على حقيقتها، فكل إناء بالذي فيه ينضح.. ولا يكون حال من يقدم على الحلول الترقيعية من دون الرجوع إلى الأصل ( إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه )..

 

 وقد لا يطول أمد الإنتظار ويضطر الناس بالتالي للإستعانة بمدد الآخرين الذي قد لا يكون له مرد لإبعاد الشبح الجاثم أمامهم بالرغم من إصطباغه بالمساحيق، وعلى قاعدة " مكره أخوك لا بطل " في أسوأ الأحوال.

 

 وإن في بغداد ورئيسها الحي الراحل الذي ينهمك الآن في كتابة الشعر الرومانسي والمذكرات في مرقِده، لعبرة وآية لمن يخشى السقوط عاجلا أم آجلا في حضيض اللاعودة !

 

من يدري ؟ لعل إنشقاق عبدالحليم خدام بداية نهاية الآيديولوجية !

 

mohsinjwamir@hotmail.com