أخذ أحمد مكانه في السيارة بعد أنتهائه من المعانقات والقبلات
الأخيرة مع مودعيه متأملا بصمت قاتل دموع أطفاله وزوجته
ووالدته التي أجهشت بالبكاء والنحيب .الأم التي أجبرتها ظروف
الحياة القاسية بأن تربي أطفالها بنفسها بعد ترملها في بداية
ربيع حياتها الزوجية وقد أمتزجت دموعها الدافئة مع قطرات
المياه التي رشتها من وراء احمد تيمنا بسلامة الوصول والعودة
اليها ثانية
.
بينماکانت السيارة تشق شوارع بغداد متوجهة الی الخط السريع
المؤدي الی الحدود الأردنية ـ العراقية ألقی أحمد
بنظراته للمرة الأخيرة علی زقاقهم الذي ولد ونشأ و ترعرع فيه
دون أن يخطر في باله يوما ما ترکه مرغما
و
بهذه الطريقة المأساوية ، کانت تلك الليلة هي الأخيرة له في
بغداد عندما أخبروه أصدقائه المقربين بقدوم سيارات المخابرات
ورجال بملابس زيتونية و محاصرتهم لکافة النقاط الرئيسية حول
بيتهــــــــــــــــم.
سيارات و حافلات و عجلات تدوي و صهاريج تحمل النفط المهرب الی
الأردن تجتاز الصحراء بسرعة أنشطارية ، الرمال المتطاير علی
جانبي الطريق ينبأ بقدوم قدر محتوم. نهايات مترامية الأطراف ،
صحاري قاحلة ، صخور سوداء وکأن الأنسان علی سطح المريخ ، أنفاس
متقطعة ، آمال ضائعة ،نظرات الی ما وراء الحدود.....
أحمد يکره من يسمي نفسه بأسم طائفته ، في أحاديثه و جلساته و
مناقشاته يتحدث عن الزعيم عبد الکريم قاسم، و يشبه نفسه به من
حيث حبه لوطنه و أبناء جلدته،ياتری هل کان هذا سببا لتطويق
بيتهم؟ أم لأن أخواله من الکرد و فيهم من خدم في ثورة أيلول؟
أفکار و تخيلات کثيرة تأتي وتتلاشی و يستيقظ أحمد من أحلام
يقظته کي يری بوابة اللقاء
طريبيــــــــــــــــــــــل.
بين الخوف والشکوك و الأرتباك من ضباط الحدود و معرفة أسمه يزج
أحمد بنفسه مع عائلة عراقية بمصاحبة طفلهم الذي يبحث عن العلاج
لمرض مزمن في الأردن بعد أن شحت الأدوية في الصيدليات
وأختفت الأجهزة الطبية في مستشفيات الدولة وهاجرت خيرة
الأطباء وذوي الکفاءات بعد اشتداد طوق الحصار وتأثيره على
الشعب وظل أبناء أحمد يتضورون جوعا ورجال
الدولة و زبانيته يمرحون و يبتهجون وهم يحصدون أرباح نفطهم
المهرب وکوبوناته تنهمرعلی کل المشارکين في تمجيد القائد
الضرورة . بين طريبيل و عمان يتنفس أحمد الصعداء بعد أن تمکن
من عبور أخطر حدود
ملتهب في حياته ، وتتراقص الأمنيات أمامه من جديد والأحساس
بالدخول في عالم خيالي بعيد عن الظلم و القمع والأظطهاد .
ساحة الهاشمية أصبحت لغزا للهاربين من محرقة النظام،مابين طبيب
في أنتظار الحصول علی وظيفة تسد رمقه
أوفنان رحل متأبطا عوده هارباً من معهد دراساته النغمية بعد
بطش النظام بكوادر التدريسيين مفضلا بيع الخضراوات علی قارعة
الطريق مع هرج ومرج سمسار ثرثار يدخل في أوساط العامة شارحا
خططه وکيفية الخروج من الأردن و الوصول الی العالم الفردوسي
أورپا،أو سياسي يبحث عن مؤيدين جدد لحزبه الذي ينادي بأسقاط
النظام معتبرين القوی المعارضة الحقيقية في الداخل غيڕ
قادرة طالما يعتمدون علی أنفسهم دون مساندة القوی الخارجية.
تشتد حدة النقاش بين السمساري و العامة حول الأسعار و الدول
المقترحة الوصول أليها،يأتي من الطرف الأخر فريقا من الرياضيين
العراقيين للشباب بالسباحة لغرض المشارکة بالمسابقات التي تقام
هناك وهم يبحثون عن فندق رخيص يتناسب مع دخلهم المحدود .بعد
مضي شهور من المعاناة والأيام العجاف يتمکن أحمد من الحصول علی
التأشيرة التايلندية وجواز سفر سويدي مستعار بصورته و أسم
سويدي عن طريق أحد المهربين.
حلقت الطائرة من مـطار عمان متوجهة الی بانکوك حاملة علی متنها
آلاف القصص و الأساطير لأناس ولدوا علی هذه الکوکبة وقد کتب
عليهم الشقاء
.
بينما المسافرين يتحدثون و يتسامرون فيما بينهم ،سحب أحمد جواز
سفره المستعار کي يتمرن علی أسمه الجديد (مارتين أندرسون )الذي
يرافقه طيلة رحلته لحين وصوله الی فردوس أورپا.الساعات الطويلة
من التحليق کان أحمد غارقا في التفکير و هو يتکلم مع أطفاله
ويتذکر دموع والدته الدافئة في أحلام يقظته .
هبطت الطائرة في بانکوك وأحمد لايعلم الکثير عن هذه الدولة سوی
الألعاب الآسيوية و النشاطات الرياضية المقيمة فيها بين الفينة
و الأخری، بقدر معرفته عن کيفية التعامل مع موظفي المطار و
الأبتعاد عن التشنج والأرتباك من أجل الحصول علی ختم الدخول
علی جواز سفره الجديد.
الفندق الذي حل أحمد ضيفا عليهم کان يعج بالسواح من مختلف
الدول الأوربية وخاصة الأسکندنافية وقد سببت الأخيرة أحراجا له
بسبب عدم أجادته للغاتهم ناهيك عن حمله لجواز سفرهم ،حيث تعرف
ذات مرة علی شاب سوداني يعمل في أحدی خطوط شرکات الطيران،
فطلب منه أحمد بعد أن قدم أسمه مساعدته لغرض شراء بطاقة سفرله
لغرض مواصلة رحلته الی السويد .عندما تصفح الشاب السوداني جواز
سفره أندهش من الأسم وقال ماهذا الأسم الوثني ؟هل أسمك أحمد أم
مارتين؟
أجاب أحمد نعم أستاذ لك الحق هذا ليس أسمي الحقيقي وقد أبدلت
أسمي بهذا الأسم کي أتجنب ملاحقتي من قبل رجال المخابرات
والشرطة السرية لبلدي!
أجابه السوداني ياأخوان والله أنتم العراقيين ناس مساکين ، من
الأفضل أن تطلبون اللجوء من السودان والدول العربية بدلا
اللجوء الی حلفاء الصهاينة!
جاء أحمد الی المطارقبل الأقلاع بساعات لغرض التأقلم مع
الأجواء في داخل المطار ودراسة تعامل الموظفين مع المسافرين
السويديين ومحاولته تقليدهم مايتعلق بألقاء التحية فيما
بينهم،وقد أرتدی قميصا مزرکشا أشبه بقوس قزح .مرت دقائق وساعات
والمسافرين يتدفقون علی طوابير شحن حقائبهم والأبتسمات لاتفارق
شفاههم بعد أن أمضوا أياما جميلة علی سواحل أنهار و بحيرات
التايلند حاملين في مخيلتهم ذکريات جميلة لاتنسی.وقد تمکن أحمد
من شحن حقيبته بعد أن حشر نفسه بينهم.
باتت القاعة فارغة جزئيا بعد أن شحنوا المسافرين حقائبهم و
ألتجئوا الی الطائرة التي تنقلهم الی أوطانهم ،ومکبرات الصوت
تنادي باللغة الأنگليزية نرجوا من المستر مارتين أندرسون
اللجوء الی الطائرة... و أحمد غارق في أحلامه وأمنياته بالعودة
القريبة الی الوطن و لقائه بأمه و أولاده .أقلعت الطائرة
متوجهة الی السويد.
أستيقظ أحمد من أحلام يقظته وتوجه الی شباك أحد موظفي المطار
ليقدم نفسه قائلا أسمي( أحمد أندرسون) وهذه بطاقتي متی
أقدرالتوجه الی طائرتي ؟
2006/12/24
|