مشهدين من تراجيديا الصّداقة في محمود قه جه ر   

        

         أحمد رشيد خانقيني 

 عندما فشلت الجولات الأخيرة من المفاوضات بين الوفد الكوردي والنظام البعث البائد، في بداية عام 1974 اي السنة الأخيرة من تطبيق بنود بيان آذار. وتنصل النظام من تطبيق البيان الذي تم التوقيع عليه مع القيادة الكردية آنذاك، ومن ثم مناورة الطغمة البعثية الفاشية لاجبار الوفد الكردي بالموافقة على مسودة قانون الحكم الذاتي المزّيف. مع تلويحه بالتهديد العلني لتحرك الجيش نحو جبال كردستان بسحق اية محاولة قد تنوي الحركة الكردية التحررية بها وقتذاك. بعد طول الجولات والمناقشات الحامية لثني النظام البائد في الوفاء بوعوده  التي قطعته في حل المسألة الكردية وتجنب استئناف القتال. بعد عقم المحاولات انسحب الوفد من بغداد  بناء على طلب القيادة وبعد تأكيد البارزاني الخالدعلى عدم التفريط بكردستانية كركوك، واصراره المبدئي مع القيادة الكردية القتال من أجل كركوك. والذي أطلق في حينه مقولته الخالدة بان كركوك هي بمثابة قلب كردستان ولا يمكن التفريط بها، حتى لو كلفت الحرب أجيالاُ ما بعد أجيال. وبعد تأكيد القيادة المضي في طريق السّلم والوحدة الوطنية امام عنجهية النظام البائد. واستقوائه بمساعدات الاتحاد السوفيتي آنذاك بعد توقيع اتفاقيته العسكرية معهم في حزيران عام 1972. وعقده لصفقات مربحة معهم، وزاد من غرور النظام الديكتاتوري بانه سيعطي مهلة أخيرة للكرد، بان يفكروا ولا يفوتوا  من أيديهم فرصة قبول الحكم الذاتي المزيّف. وعقب رفض القيادة لتلك المسودة واعلانها الكفاح المسلّح وقتال النظام البعث المخاتل. توجهت الملايين من أبناء الشعب الكردي الى الجبال تلبية لنداء كردستان والتاريخ والشرف. فتركوا من دون تردد وبحماس مقاتل غيور، وبروحية بيشمركة لا يعرف الأستسلام، وكفدائين منتحرين من أجل الوطن والأمة. منازلهم، مزارعهم، مدارسهم، وظائفهم، ومصالحهم شيباً وشباباً وطلابًا مدرسين ومعلمين، واساتذه جامعيين وعسكريين،ومنظمات نسائية وكوادر ووزراء وكادحين. متوجهين نحو الجبال .كانت تلك الساعات العصيبة من تاريخ كردستان لحظات التحاق الجموع الكوردية كرنفالاً من الأمل والألم فامتزجت فيها دموع الملتحقين بحسرات الأمهات مع دفء قبلات وداع الأبناء. بقي ذلك اليوم كيومٍ مشهودٍ في سجل مواقف المخلصين والمخلصات لحبيبتهم كوردستان. ومن ذكريات أيام التحاقنا بالثورة الكردية، قادتني تزاحم الصور مع سفر الذاكرة لإستذكر مشهدين من تلك اللحظات الصعبة،كان المشهد الأول حين خروجنا من مدينتنا خانقين، وباعتبارنا من أنصار الثورة الكوردية ومن محبيها المخلصين في خانقين. خانقين المدينة المناضلة التي جرعت اتباع النظام في ذلك العهد والى يوم سقوطه أفانين من الضربات الموجعة من أجل الإحتفاظ على هويتها الكردية ومن حملات تعريب وتبعيث النظام البائد. فكانت طلائع ابناء خانقين أولى الطلائع في منطقة ديالى لبّت نداء القيادة آنذاك بالتوجه لخنادق الشرف للدفاع عن كوردستان. فاليوم أتذكرتلك الأيام بكل تفاصيلها، وكيف توجهنا نحن مع تلك الجموع نحو محطتنا الأولى قرية محمود قه جه ر القرية الصامدة الكريمة والواسعة صدرها لإستقبال جموع تلك الأفواج الملتحقة للثورة ومرورنا السريعة ببعض القرى الآخرى. متذكراً لتلك الروح المعنوية العالية من الأخوّة والتعاون الوثيق بين الثورة وأبناءها، وموقف القرى الكوردية في استضافة ابناءها يومياً وبالمئات دون كلل أو ملل، وخدمتهم بكل سخاء وكرم والوقوف ليلا ونهارا في خدمة الملتحقين. فصادفت ايام الألتحاق تلك شتاء قارساً واياما ماطرة وباردة، فعرقلت هطول الامطار الغزيرة تلك السنة حركة التنقل بين القرى والجبال. فلا ينمحي  من ذكرياتي مواقف أهل قرية محمود قه جه ر، كيف استقبلونا واستقررنا بصورة مؤقتة انا وصديقاي في مرحلة الطفولة والثورة العزيزين أسد وجمعة. وكيف صادف حضورنا اقامة فرح العرس، لاحد ابناء تلك القرية، وكان الفرح كبيرا ومناسبة جميلة، فاشتركنا نحن في ذلك الفرح بالعمل والمساعدة معهم، وكان من جملة الذين قاموا بالمساعدة وبروح ملؤها الفرح والغبطة، صديقنا كامل فتاح وكان يقوم بتقديم الطعام للمدعوين وسط ابتهاج وفرح اهالي القرية مع لعلعلةأطلاقات المسلحين. وعلى مقربة منّا صرخ المرحوم كامل فتاح صرخة موجعة مع سقوط طبق الطعام من يده، بعد إصابته بطلقة تائهة في جهة كبده محدثةله  نزيفاً داخلياً. حيث سقط وسط ذهول ودموع الجميع، وتحول الفرح الى مأتم وحزن كبير. وكان المرحوم كامل فتاح من الذين يعرفون بالنزاهة والإخلاص،فبقي ذلك المشهد المؤثر رغم مرود عقد من الزمن عالقاً في ذهني لا يبرح أبداً، أقول كم من جنود مجهولين أوفياء ذهبوا شهداء من أجل كوردستان من دون ان يتذكرهم القيادات الكردية او تلتفت لذويهم. فرحيل كامل فتاح في ذلك الفرح كان مشهدا تراجيدياً يستحق التذكرَ ومراجعة تاريخية لسجلات ذكريات الأوفياء.                  بعد ذلك تلقينا نداء من القيادة بالتوجه الى حلبجة، فقطعنا الطريق الموصل الى حلبجة سيراً  على الأقدام ، وعلى طول  الطريق كنا نلتقي العديد من المجاميع المخلصة الملتحقة بالثورة ، وهم في نشوة وحماس ثوري. وصادفنا صديقنا فؤاد وهو من خانقين، سبق وان التقيته في محمود قه جه ر وهو يعاني من مشاكل في القلب، حيث اطلعني على الأدوية التي تخفف من أزمته القلبيه، فقال لي يا احمد انا مريض جداً والتحقت بالثورة، قلت له ماذا تفضل ان أساعدك قال والله اني أفضل ان اموت هنا من الرجوع الى كنف النظام، ويقولون اصدقائي باني ترددت ولم أقوى عيش الجبال. أرشدته في حينه أن يراجع الأستاذ المرحوم مجيد ابراهيم، ويستوضح له مشكلته ومرضه الصعب، ومن ثم اتاحة فرصة الرجوع من اجل المعالجة، فردّ عليّ باني أرفض الرجوع. وبعد وصولنا بعدة أيام سمعنا من أحد الأصدقاء بان فؤاد  قد انتقل الى جوار ربه شهيداً عند صعوده الجبل في منطقة (سه رته ك بى لولة). فخنقتنا العبرات ونحن في غربتنا، وكبّرنا فيه تلك الصّلابة والوقفة البطولية الشجاعة بان استشهد من اجل وطنه كردستان ولم يعد الى جانب النظام مثلما فعله الكثير من الخونة وهم في كامل قواهم من أجل حفنة من الدراهم والمنافع الدنيوية الزائلة،مقابل خيانة لوطنهم كوردستان. فمشهد رحيل المرحوم فؤاد كان من المشاهد المؤلمة التي تتالت على المشاهد الترجيدية في كوردستان.فأقول سلاما من القلب للشهيدين الخالدين. وملايين من القبلات القلبية لجميع شهداء وشهيدات طريق تحريركوردستان، واللعنة والعار لأعداء الحرية وطلاّب الحروب والمحن.                                                      

                                             

أحمد رشيد خانقيني                                            

 

           

 

02/09/2015