تحية من الاعماق .... لكوردنا في اسرائيل

 

 

  قبل ايام( الاثنين الماضي 12 من شباط الجاري) وحوالي الساعة الواحدة ظهرا بتوقيت شمال اوروبا , وحينما كنت ممسكا بجهاز التحكم من بعد وانا اضغظ  على ازاره بشكل عشوائي في جولة بين القنوات الفضائية , لاحظت في احدى تلك القنوات برنامج تلفزيوني,  كان مشهدا لحفل   ضّم  ما يقارب الخمسين شخصا, في داخل ستوديو للتلفزيون, اناس يلبسون الملابس الكردية الفضفاضة , رجالا ونساءا من مختلف الاعمار, نعم ملابس كوردية فولكلورية زاهية من التي تلبس عادة في مختلف ارجاء كوردستان.... مقدم البرنامج بدوره  كان يلبس الملابس الكوردية المزركشة ولكنه كان يتكلم لغة ليست الكوردية , لم  افهمها في البداية  وبعد تدقيق تبين انها القناة الاسرائيلية باللغة العربية(سي ايج ثري), وكانت اللغة هي العبرية تتخللها كلمات( كوردستان, الكورد... الخ).  

.....كان هنالك عدد من الحضور  الطاعنين في السن ويحيط بهم الشباب والشابات بملابسهم الكوردية الجميلة وفرقة موسيقية جاهزة للعزف ,اضافة الى بوفيه زيّن بمختلف الاكلات الكوردية الشعبية  المعروفة في كوردستان, وعددا من الاواني والمستلزمات البيتية والاشغال اليدوية كالتي تصنع في ريف كوردستان(ملاعق خشبية وامشاط وليف ومنسوجات وافرشة واغطية محاكة يدويا ...الخ) ,شّدني هذا المشهد كثيرا و تابعته بشغف  واهتمام , وقد كنت قد سمعت ان هناك كوردا من اليهود في اسرائيل وهم يعتّزون كثيرا بكورديتهم ,حالهم الآخرين من الكورد ويعتبرون كوردستان موطنهم الاصلي وانهم يعانون من الغربة في اسرائيل وخاصة انهم يعاملون كيهود شرقيين (سفرنيم) ويتركزون في المناطق المحاذية لحدود لبنان ولهم جمعياتهم التعاونية الزراعية , وجيلهم القديم لا يزال يفضل التحدث بلغة الام (الكوردية) والاجيال الجديدة تفهمها ولكن لا تتحدث بها, وبرز بينهم قادة في السياسة والجيش وهم يحتفلون باعياد الكورد القومية مثل عيد نوروز كل عام , ولديهم قرى ومناطق مغلقة ومنعزلة ذات الطابع الكوردي ..... عودة الى الحفل  الذي بدأت المشاهد فيه تتلاحق تباعا.......و فجأة  صدح صوت جبلي شجي وسط انغام من الموسيقى الكوردية الراقصة.... واذا بمطرب شاب يغني اغنية باللهجة السورانية(منداني منداني ليلي مندي) ونهض جمهور من الشباب والشابات و اياديهم تتشابك لتشكل حلقة الرقص الكوردي المعروفة, ولتبدأ الاجساد بالاهتزاز على انغام تلك الاغنية..... رقصة كوردية رائعة تنّم عن مهارة فائقة  واداء متمرّس..... وبين تصفيق ودندنات الجالسين وحماسهم لسماع الاغنية والانسجام مع ايقاع الرقصة الكوردية الجميلة وتأوهات الكبار في السن الذين لم يكونوا اقل حماسا من الشباب الراقصين والراقصات نقلت الكاميرا  في تجوالها  تعابير وقسمات الوجوه والسحنات , التي كانت معبرة اكثر من اي كلام يمكن ان يقال.... الانفة والعزة الكوردية بشكلها الشامخ  وعزمهاالواثق من النفس و المتباهي بما تملك من ارث الاجداد وفولكلورهم العتيد و المتجدد ... وما ان انتهت هذه الاغنية حتى تلتها اغنية اخرى باللهجة البهدينية  على انغام الطبل والمزمار الفولكلوريين هذه المرة .... ورقصات وحركات اكثر عنفوانا وشدة وانسجاما  وتناغما مع عالم الرقص الكوردي المتمرد والمتحدّي..... وكنت اتابع كل هذه اللقطات واحدق في عيون الحاضرين التي كانت قد اغرورقت بالدموع فرحا وشوقا واصرارا لانتماء حقيقي الى امة عظيمة  مشتتة وارض مقدسة مفقودة من الخارطة السياسية واناس تنطق حدقات عيونهم بالتطلع الى الوطن الذي  حرموا منه لعقود من الزمن , انا بدوري تأثرت بالمنظر الدرامي وتلاشت بيني وبين الحاضرين اطر ونواميس الدين المصطنع لتتصاعد  فوران الانتماء القومي الى القمّة, والذي هو الاكثر اصالة والابعد تأريخا  والاعمق اثرا وتأثيرا.....استمر الحفل لمدة ساعتين متتاليتين تخللته فواصل لاحاديث ودردشات مع الرجال المسنين وهم يسردون حكايات الماضي ويبحرون في دنيا ذكريات طفولتهم السعيدة في كوردستان وكانت اسماء مدن( كويسنجق وزاخو وكرمانشاه) تتردد  على الشفاه مشفوعة بآهة لا يفهمها الا المغترب او المهاجر, وتطرقوا الى ذكر الكثير من المعارف القدماء والعوائل والجيران الذين لا تزال ذكرى الحنين اليهم والعشرة الطويلة معهم ترّدد صداها في آذهانهم وزوايا عقولهم لتذكرهم  بمراتع الصبا  ومكامن ا لآهات ومبعث الحسرات, وكان جلّها الشكوى من الحرمان عن رؤية الوطن الام وبعضها كانت امنيات بائسة بان تكون تربة كوردستان ثرى للاجساد بعد الممات لتستقر الروح في ابديتها على ذرى الوطن, ترفرف بسرمديتها على سفوح واديم جبال كوردستان,  تعجبت  كيف الغربة الطويلة وظلم التأريخ والسياسة والدين لم تنس هؤلاء الاشتياق والحلم للعودة الى كوردستان ثانية او الطمع في زيارتها  واهلهاعلى الاقل... وكانت النساء بدورهن يشرحن طرق تحضير الاكلات الكوردية الشعبية والحلويات وغيرها وصناعة الاواني والمنسوجات , والتي كانت تزين وتفترش عددا من المناضد ......

كم تمنيت حينها ان تنقل احدى القنوات الفضائية  الكورديةهذا الحفل البهيج والمعبّر لاهل كوردستان , ليطّلعوا على معاناة اخوتهم كورد اسرائيل ومدى شوقهم لوطنهم  الام..... وكم تمنيت اكثر لو امتلكت احدى هذه القنوات قسطا من شجاعة المناضل العراقي الشهم والشجاع (السيد مثال الآلوسي ), وتذهب الى اسرائيل وتنظم ريبورتاجا حيا  لكوردنا هناك ليرى شعب كوردستان كيف يفكر ويعيش اخوتهم الكورد اليهود, ورؤية مدى حبهم وتعلقهم الازلي بكوردستان, لغة وتراثا وثقافة بل وحتي اكلات شعبية وصناعات يدوية , رغم وجودهم لاكثر من خمسين سنة بعيدا عن ارضه وشعبه...... هل تتطوع احدى هذه القنوات وتتجرأ للقيام بهذه المهمة القومية يا ترى.....   على الاقل كما  تفعل  الكثير من القنوات العربية( كالجزيرة والعربية وابو ظبي وغيرها),  والتي كثيرا ما نراها  تتجول بين (عرب اسرائيل) وتنقل اخبارهم واحوالهم لغيرهم من العرب بل وتدخل حتى الى داخل اروقة الكنيست الاسرائيلي لتنقل احاديث النواب من  (عرب  اسرائيل)  , رغم ما موجود بينهم وبين اسرائيل من عداء وخصومات ومشاكل , اما  نحن الكورد فماذا بيننا وبين دولة اسرائيل او شعبها حتى نخاف او نخجل من نقل هموم  ومعانات جزء من شعبنا اضطرته الظروف  السياسية والتأريخية ان يترك ارض آباءه واجداده مهاجرا الى بلد غريب و لا يزال يعتبر نفسه كما يعتبره الآخرين اغرابا وغير مرغوبين .... متى ستنقل قنواتنا اخبار اخوتنا (كورد اسرائيل) وهم بمئات الآلاف و لا يزالوا يتوقون الى ان يتنفسوا عبير وهواء كوردستان و يشّموا عبق ازاهير جبالها واوديتها ويسمعوا خرير ينابيعها وعيونها الرقراقة, ويعانقوا اهلها الطيبين الاوفياء..  اخوتهم في الانتماء والشعور والاحاسيس , اجساد فرّقتها الدين والسياسة وتجمعها الانتماء الى القوم واللغة والتأريخ والتراث, متى سينظّمون الى شعب كوردستان ومتى..... ومتى......!!!!

 

صفوت جلال الجباري   

 

safwatjalal@hotmail.com

 

           

 

02/09/2015