إن في بغداد لعبرة لأنقرة لو كانوا يفقهون !

 

محسن جوامير ـ كاتب كوردستاني
mohsinjwamir@hotmail.com

 أعلن رئيس جهاز ( آر.تي.يو.كي ) لمراقبة البث في تركيا زاهد أكمان بأنه ستبدأ أربع قنوات كوردية محلية من إذاعة وتلفزة بالبث خلال هذا الشهر. وقد أدلى المذكور في تصريحه أن فتح قنوات باللغة الكوردية يشكل سابقة هي الأولى من نوعها في تركيا. وأضاف سوف تتمكن قنوات التلفزة  بالبث لمدة أربع ساعات أسبوعيا على أن لا تزيد عن 45 دقيقة في اليوم الواحد، أما الإذاعات فسوف تتمكن من البث لمدة خمس ساعات في الأسبوع على أن لا تزيد المدة عن ساعة واحدة يوميا.

 تمخض الجبل فولد فأرا..عقب أكثر من 80 سنة من القمع والحرمان والتتريك والإضطهاد والتشريد والوأد وتدمير القرى والمدن على رؤوس أهلها وصياح وصراخ منظمات حقوق الإنسان والحيوان والصبر الجميل وغير الجميل، وبعد أن كاد الراديو يلقى حتفه وينتقل إلى مثواه الأخير خلال وقت قصير، بعد أن قضى عليه التلفاز وفضحه بالتقصير.. وبعد أن هُدد حياة وبقاء الأخير بولادة المحروس الإنترنيت، وحياة الأخير مهددة بالطبع بفعل ما يخبأ مستقبل التقدم العلمي من معجزات ومكتشفات ومنجزات فوق التصور البشري بكثير.

  بعد كل هذا وذاك تفتق العقل التركي لينقل لنا خبرا عاجلا وبشرى سارة ومكرمة بارة وتقدما هائلا في موقفه تجاه شعب نسمته تناهز 15 مليونا في شمال كوردستان يقال أنهم بشر، وبشَّر المؤمنين السذج بأنه قد تحقق لهم في تركيا ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر لا في البدو ولا في الحضر، ألا وهو السماح لهم بأن يستمتعوا بالإستماع إلى ترددات روح المرحوم جهاز الراديو لمدة 5 ساعات في الأسبوع أي بمعدل 260 ساعة في السنة (  بحدود 11 يوما من البث ) من مجموع ( 365 ) يوما في سنة مقدارها 8760 ساعة مما نَعُد، وأن تقر عيونهم بمشاهدة التلفاز لأربع مرات في الأسبوع وفي حدود ( 45 ) دقيقة أي بمعدل 156 ساعة في السنة (  بحدود 7 أيام من البث ).!

 حينما يفشل أي نظام في حل قضية ما، فانه يقدم على إجراء أمور ترقيعية لذر الرماد في العيون وخداع البسطاء من الناس وإظهار نفسه وكأنه قام بعمل جبار وأتى بشئ عجيب لم يره الأولون وجدير أن يَشكرعليه الآخرون.. وإلا متى كانت المسألة الكوردية في تركيا مقتصرة فقط على فتح راديو أو السماح بتلفاز وبهذا الشكل المشين والمقيد بشروط لا تسمن ولا تغني من جوع.؟

 وياتي هذا الإجراء في وقت يدرك العالم كله بأن القضية في تركيا ليست قضية الراديو أو التلفزيون فحسب، إنما هي كارثة أصابت وجود أمة لا وجود لها في الدستور ويُحسب من أصحاب القبور، وليس لها دور كشعب له تأريخه وجغرافيته في المنطقة التي سكنها وعمّرها قبل مجئ أولئك الغازين إلى المنطقة مبشرين باخراجهم من الظلمات إلى النور وإلى يوم ( لا يَسألُ حَميمٌ حميماً ) عند رب العالمين!

 واليوم يأتي هؤلاء ليمنوا على الكورد بأنهم أغدقوا عليهم ببركات السماح لهم بسماع صوتهم في الراديو أو مشاهدة أشكالهم وقدهم المياس وقامتهم في التلفاز ولبضع سويعات في الأسبوع وبامتياز، في وقت يعج البلد بقنوات لا حصر لها للصالح والطالح، للدف والناي أو لآلات الجاز، حتى بلغات الأجانب الذين لا يدخلون تركيا إلا بتأشيرة الجواز!

 إذا أرادت تركيا حقا حل المشكلة الكوردية، فلا مندوحة لها عن إعلان المصالحة مع الكورد وتقديم الإعتذار لهم لتلكم الممارسات التي مورست بحقهم وبكل أشكالها اللاإنسانية في تركيا في ظل شجرة العنصرية الخبيثة والكبرياء الملعونة والإدعاءات الإستعلائية " والبغي مرتعُ مُبتغيهِ وخيم "، والإعتراف بهم كأمة لها الحق الذي يتمتع به نظيرهم الأتراك كالند للند وليس العكس والضد، من خلال طي صفحات الماضي والتباحث مع ممثليهم لا الإنفراد بالترقيعات والرشوات ومنح الفتات والشَتات من الحقوق إلى المساكين من الباشاوات، ذلك لأنه لا يمكن بناء الجدار فقط بالحجار كما يقولونه في أمثالهم التركية ( يانلز داش ديوار أولماز ).. والمسكنات والمهدئات لا جدوى لها على طول الخط ولا تشفي أصل الخطأ والعلة التي تتعدى مضاعفاتها إلى كل الشرائح وكما حصل، ووصفُ الخصم بالإرهاب والشر إلى يوم الحشرلا يفتح عقدة ولا تحل مشكلة ويرفضه العقلاء المتحضرون الذين يؤمنون بأن السيف ليس أصدق انباءً من الكتب والحوار والمناقشة والجدل بين الأقوام والملل.

  لا نريد التقليل من أهمية هذه الخطوة التركية التي تكاد تشبه دبيب النمل في سيرها ولا تساوي جناح بعوضة في قيمتها، ويَحار الفهم في تقييمها ومباركتها ووصفها بالايجابية، ولا ندري كيف نهلل لها ونُكبرْ ونقول تركيا ما أعظمها ! ونحن في عصر يوشك أن يغادر فيه الإنسان الراديو والتلفزيون.. في حين أن ما منح للكورد من حق في الإستماع لسويعات للإذاعة الكوردية أو مشاهدة التلفزيون الكوردي في تركيا هذه الأيام، قد منحته الحكومات الأوروبية التي تطمح تركيا دخولها والسير على تقليعتها منذ أمد بعيد وأضعافه، بل تشجعهم وتصرف عليهم ولا تمُن عليهم ولا تشترط عليهم شرط عدم تقديم برامج تعليم اللغة الكوردية كما أمرت به السلطات التركية، فإن هذا خطأ مبين وإهانة للخلق أجمعين !

 إن في العراق لعبرة لإولي النهى والألباب في أنقرة.. فبعد إفتتاح القسم العربي في بغداد، كان هناك بث القسم الكوردي منذ عام ( 1939 ) من القرن الفائت حيث بدأ بربع ساعة بث إلى أن وصل إلى ( 21 ) ساعة يوميا، ناهيكم عن بث القسم الكوردي في القدس في الاربعينيات وفي القاهرة في الخمسينيات، وفي كرماشان وقصر شيرين وطهران ومهاباد وسنندج وفي يريفان ( أرمينيا ).. لم تمنع الحكومات العراقية في أوج دكتاتوريتها ومذابحها اللغة الكوردية والأسماء الكوردية والجمعيات الكوردية والأنشطة الكوردية، وإن كانت قد فرضت عليها قيودا معينة وفق أهواءها، ولسنا الآن بصدد التعرض لهذا الجانب ومثالبه.. ناهيكم عن القفزة النوعية التي حصلت بعد إتفاقية الحادي عشر من آذار1970 وعلى جميع الأصعدة من الدراسة الكوردية إلى المجمع العلمي الكوردي وإلى دور النشر وإلى أمور كثيرة قياسا للماضي ومقارنة بالدول الأخرى التي تحكم بقية الكورد.

  ولكن هل حُلت المشكلة من جذورها واُقلع أصلها المتعفن ؟ أم هناك امور تتجاوز هذه المظاهرالساذجة والرؤى الباهتة والأطروحات الهابطة التي تريد تركيا إقناع العالم والكورد بها وبمنجزاتها الساقطة.. تلكم الأمورالتي تبدأ " بالإعتراف صدقا وعدلا بوجود قضية شائكة " وتمر " عبر الحوار حول صور العقد المزمنة والمضنية الهالكة " وتنتهي " بالإتفاق حول صيغة الحكم والعلاقات والتعايش بين الشعوب التي كلها لأرضها وثقافتها ولغتها ووسائل إعلامها مالكة " ؟!

 أفلا يفقهون بعد تلكم العقود الحالكة ؟

  

 

 

           

 

02/09/2015