کانوا کورداً، کانوا عرباً، و کانوا يتکلمون لغة العصافير*           

  فهمي کاکه‌يي

(إلی روح إبراهيم الزيدان و الخال معروف و رفيقيهما، إلی جميع الذين قتلوا في معرکة الجوّالة) 

حدث هذا قبل ستين عاما عندما کان الإنتماء إلی الأرض من أولی الأولویات

في بقعة جغرافية تقع علی الغرب من قضاء داقوق التابعة لمحافظة کرکوك تحدها من الشمال و من الشرق قری الطالبانيين و من الجنوب قری الداوده‌ و من الغرب قری آل عبيد، کانت (و ماتزال إلی حد ما) تستقر قری الکاکائيين. مع أن الأراضي کانت ملکا لهذه العشيرة، لکنها لم تکن مسکونة من قبل الکورد فقط، فمن مجموع حوالي عشرون قرية، کان أکثر من ثلثها مسکونة من قبل الکورد و  أقل من ثلثها من قبل العرب و البقية الباقية کانت مختلطة، إلا أن الجميع کانوا ينتمون إلی الأرض و العشيرة.

ولدت في موسم الحصاد، و تحديدا حصاد الشعير، إنه یسبق حصاد الحنطة بحوالي أسبوعين، و کان قد مر خمسة بيادر(خمس سنوات) علی مقتل إبراهيم الزيدان و الخال معروف في معرکة عرفت بمعرکة الجوالة (بتشديد الواو) و أصبحت فاصلا زمنيا لتحديد التاريخ لدی سکان المنطقة. ولدت في قرية دلس الصغير المختلطة، حيث وقعت الواقعة. هذا ما کانت ترويه لي جدتي ،مثلما کان إهلي يروون الحادثة، لکنني لا أتذکر القرية فقد إنتقلنا إلی کرکوك و أنا صغير و دخلت المدرسة هناك.

لو ألبست رواية معرکة الجوالة لباسا فنيا دون أن أغير من حقيقة الأحداث، لرويتها لکم کالآتي:

في دلّس (بتشديد اللام) کما في القری الأخری المختلطة کان الجميع يتکلمون لغة الجميع، الکورد کانوا يتکلمون العربية بطلاقة العربي، و العرب کانوا يتکلمون الکوردية و تحديدا لهجة (ماچو) بطلاقة أهلها. لم تعلو لغة علی الأخری و لم يقل أحدهم للآخر أنا لا أفهمك. کانوا کعائلة کبيرة مشترکين في السراء و الضراء، في الأفراح و الأتراح، في المآسي کما في الأعياد و حفلات العرس، و قد حدث و أن تزاوجوا أيضا.

کان الفصل ربيعا، و کانت العصافير قد شرعت ببناء أعشاشها. کان يوما مشمسا کأي يوم ربيعي من أيام ذلك البلد الحبيب. کانت هناك حرکة غير طبيعية في القرية، النساء الکورديات کما النساء العربيات قد لبسن أحلی ما لديهن من الملابس و تحلين بالزينة للإشتراك في هذا اليوم الفريد، إنه عرس أحد أبناء القرية. الرجال لبسوا الملابس التقليدية لأهل المنطقة، ما کان يفرق الکوردي من العربي کانت ربطة الرأس، و کالعادة کانوا جميعا مسلحين بالبنادق و المسدسات. أهل العريس کانوا أکثر الناس إنشغالا، مع أن الآخرين کانوا يساعدونهم. کانت مجموعة من النساء منشغلات بتحضير الطعام، و مجموعة من الرجال منشغلون بإستقبال الضيوف من القری الأخری. کان يوما جميلا، قد أعد له بعناية، فحفلات العرس لا تقام کل يوم في هذه القرية الصغيرة. 

مجموعة من النساء کن يدبکن بينما أحداهن تغني لهن:

کل الهله بالحبيبه الچان زعيلان

لابس وردة و خزامة و بالوسطه‌ عران

و مجموعة أخری تدبك علی لحن أغنية:

هه‌ی به‌لار و به‌لار و به‌لاره‌وه‌

تو سه‌ری باوکت وه‌ره‌ ماڵه‌وه‌

أما الرجال فکانوا يدبکون أحلی الدبکات الکوردية و العربية علی  دقات الطبالين و نفخات الزمارين. لم  يکونوا لحالهم فالنساء کانت تشارکهم، و کما هي العادة تکون الدبکات مختلطة، لکن يحدث أحيانا أن تدبك النساء لوحدها.

الضيوف و وجهاء القوم و الأغوات من مالکي الأراضي کانوا يأخذون أحيانا قسطا من الراحة في الخيام المعدة لهذا الغرض. کان هذا اليوم الأول للإحتفال، فحفلات العرس کانت تدوم بين ثلاثة و سبعة أيام.

فجأة توجهت الأنظار صوب الشرق، حيث الطريق إلی ألبو محمد (و هي قرية قريبة) فقد لاحظ بعضهم سيارة قادمة بإتجاه الحفل. لقد وصلت المغنيات الريفيات، الرجال و خصوصا الشباب منهم بدؤا بإطلاق عيارات نارية ترحيبا بمقدم المغنيات، قدومهم قد زاد الحفل بهاء و سرورا.

- دعوا الطبالين و الزمارين يأخذون قسطا من الراحة، أم.. أليس الوقت قد حان لصرف الغداء، إذن دعونا نأکل جميعا.

 کان هذا صوت واحد من الوجهاء.

بعد الغداء و الراحة کان دور المغنيات الريفيات لکي يطربن الحضوربأجمل الأغاني الريفية. أخالني أسمعهم يغنون، بينما الحضور يدبکون في حلقة متکاملة:

يا بو عمه و خاله و جد المريوش

يا بو نهيد الطري ما ظن منيوش

خدچ ورده‌ الختمية بنهر مطشوش

لأنزل عليچ چيده‌ بگيظ حزيران

 

علی فراگ الغوالي دمعي منهال

مثل نهر عدايه الحدر من سال

مديت إيدي علی زيج المدلل

نهيدو طارح ليمون بطرف بستان

 

سن الذهب علی هل مربوعة تلايق

دگة صدر يتبارق بالدقايق

و الله لعوفن ‌هلي و أگعد سايق

علی حساب البنوات ثلث نارين

 

حل بالجرية لاگاني الحلوه‌ ملاي

مجعده‌ نهودو مثل إستکانات الچاي

من اعروجك يا مدلل وينچ وياي

حافظ طير الهجنه و أهلچ يدرون

 

علی طولچ يا ولي يلوگ مجلد

تکتيله بغير العجل يا محمد

تسوی ملك الجزيرة و حلال المد

و من صندوگ الحکومة نقره‌ المفتاح**

بينما کان الطرب و الغناء قد أدخل السرور في قلوب الجميع، لاحظ المحتفلون فارسا علی صهوة جواد مسرعا نحوهم، علم الجميع بأن مکروها قد حدث. نزل الفارس من جواده و إتجه صوب أحد الملاکين (س. آغا) و همس في أذنه کلاما إضطرب له الأخير، فقام رأسا و صاح علی إثنين من رجاله:

 

- هيا ‌يا  إبراهيم و أحمد، أحضرا الخيول و إتبعاني، و أستمروا أنتم الآخرين بالأحتفال.

 

لم يقل اکثر من هذا، أمتطی الرجال الثلاثة کل صهوة جواده و إتجهوا صوب قرية عاگوله‌، کانوا کل من: (س. آغا) و إبراهيم الزيدان (و هو عربي) و أحمد قوجه (و هو کوردي).

تجمع الآخرين حول الفارس الذي أتی بالخبر، فروی لهم هذا بأن أحد رعاة الجوالة دعی أغنامه ترعی في حقول الحنطة التابعة للملاك، و الجوالة کانت عوائل عربية بدوية تأتي إلی المنطقة کل سنة بحثا عن الکلأ. تفرق الحاضرون و بدأ الطبالون بالنقر و الزمارون بالنفخ علی آلاتهم فالمسألة لم تکن بحاجة إلی الإهتمام، فالجوالة ناس معروفون و سوف يأمر الملاك و رجاله الراعي بإخراج غنمه من الحقل و تنتهي المسألة.

غضب الرجال الثلاثة عندما رؤا الدمار الذي تعرض له الحقل فما کان من الملاك إلا أن ينزل من ظهر جواده و يصفع الراعي قبل أن يأمره بإخراج غنمه من الحقل و قلده إبراهيم الزيدان فصفع بدوره الراعي أيضا. بعدها رکبوا خيولهم لکي يرجعوا إلی القرية. لم يبتعدوا کثيرا قبل أن صاح فيهم الراعي و أصبعه علی زناد بندقيته ليطلق إطلاقة واحدة فقط و يردي إبراهيم الزيدان قتيلا. تفرقت الخيول، جواد إبراهيم الزيدان إتجه نحو القرية لوحده و هو محمل بالجثة، الآخران ذهب کل صوب قرية من قری العشيرة ليجمعوا الرجال إستعدادا للمعرکة. علم المحتفلون بما حدث حال وصول الجثة فإنقلب الفرح إلی حزن ما من بعده حزن، و بدأت الإستعدادات لما سمي فيما بعد بمعرکة الجوالة.

إنطلقت الخيول إلی جميع الإتجاهات لتخبر أهالي القری بما حدث و تطلب منهم المشارکة في المعرکة. بعد حين توافد الفرسان زرافات و وحدانا، مسلحين و منهم من لم يملك سلاحا. کان علی کل بيت أن يشترك برجل أو ببندقية علی أقل تقدیر، وعلی صوت الأهازیج و زغارید النساء إتجهت الجموع نحو سهل (هبات و کامله) لتلتقي برجال الجوالة التي کانت قد تخندقت سلفا في إنتظار المهاجمين، و بدأت المعرکة التي لم تدم کثيرا بسبب حلول الظلام، لکنها کانت کافية لکي يقتل فيها الخال معروف (أخو جدتي) الذي کان يقاتل واقفا، و عندما سقط صريعا تدحرجت من عبه (بضم العين و تشديد الباء) برتقالات کان قد إشتراها لولده الصغير و هو عائد من المدينة، حيث لم يذهب إلی بيته عندما سمع بالخبر. قتل کذلك أحد أبناء أحمد لطيف (بتشديد الياء) و هو عربي، قتل أيضا أحد الملاکين. هکذا إنتهت معرکة الجوالة التي خسر فيها العشيرة أربع مقاتلين إثنان من الکورد و إثنان من العرب، لا أحد يعرف کم من الجوالة قد قتل. معرکة الجوالة لم تکن بين الکورد و بين العرب، بل کانت بين السکان الأصلیین من أصحاب الأرض و الجوالة الباحثين عن الماء و الکلأ.  

حدث هذا أيام زمان، عندما کان أهلنا ينتمون إلی أرضهم و يتکلمون لغة العصافير.

 

 السويد

fahmikakaee@yahoo.se

 

 

الهوامش:

* لغة العصافير: في مقالة بعنوان (الکاکائیة غرابة الکتمان و سریة الأوهام) من إعداد ابراهیم داود الداود، جاء ما يلي: لهم لغة مستقلة يتفاهمون بها، و هي أشبه بلسان العصافير، و لا يطلعون أحدا عليها فهي لغة خاصة بهم.

الإعتقاد أعلاه يأتي من جهل الکاتب باللغة الکوردية، فاللهجة التي يتکلم بها أغلبية الکاکائيين تسمی (ماچۆ) و هي لهجة فرعية من اللهجة الگورانية و التي بدورها واحدة من أکبر اللهجات الکوردية و تسمی حسب بعض تقسيمات اللغوية بالکوردية الجنوبية. لهجة ماچۆ هي أيضا اللهجة التي کتبت بها الکتب الدينية المقدسة للکاکائيين.

 

** إستمعت إلی هذه الأغنية قبل عشرون عاما في بيت واحد من أبناء عمومتي في شيراز بإيران و هو من قرية ألبو محمد، بقي في إيران بعد إنهيار ثورة أيلول عام 1975

 

 

 

           

 

04/07/2007