القاص آلتونجي تحت ظلال بابا كركر   
 
يوقد شموع ذاكرته          

حكيم نديم الداوودي  

                                      

 أبناء السواد عجنوا بالحزن والموت والمرارة والإحباط والقنوط كشغاف الحجاب الحاجز ليفصلونا من أبناء جلدتنا بني البشر... هل عندكم سيّافٌ مشهورٌ كمسرور؟ أبو عروبة! هذه مقاطع من قصص حنفيش سارقة عشب الخلود. التي ضمتها المجموعة القصصية الجديدة للقاص والكاتب الأكاديمي توفيق آلتونجي والصادرة مؤخراً عن دار نشر فيشون ميديا في السويد بعنوان تحت ظلال شهب نيران بابا كركرط20061.                       

 

كل الآلام التي وخزت  قلوب أحبتنا في ساعة خروجنا من محيط ذكرياتنا الطفولية. لم تنسينا وحشية جلادنا الذي هشم أمام مسجد القرية جمجمة إبن الراعي الطرية عندما رفض الإلتحاق بقاطع الجيش الشعبي الشمولي. فمن السياف العباسي مسرور الى أبا عروبة وأبا تحرير والى أبي بريص. الفرهود هو العنوان البارز لوجوههم الكالحة، تتلطخ الأرض بالدّم والخراب والسطو أينما حلَت هذه المكنيات المشؤومة. حتى في حلمنا وفي منفانا القسري تتداخل علينا مساراتنا المثيرة للدهشة. إنها هي نفسها أحلامنا الفنتازية لا يمكن تفسيرها في جلسة تلفزيونية واحدة ولا بمداخلة سريعة أنها أحلام فوق تفسير البشر.كم شكونا من جُروح حروبنا الطاحنة، وكتبنا في صباحات المدينة الملتهبة بنارها الأزلية أنها مدينة لا تبتسم الاّ بالنار ولا تمسي مثل ليالي أرض السواد الاّ بالنور. وعلى غفلة من تاريخنا الناصعة واجهتنا وحوش الغابة الحجرية. وقلنا بصوت واحد يا آلتونجي: لحنفيشك السارقة لعشب الخلود،ما تلك الأتربة المتصاعدة أتراه جحافل جيوش آشور أم أسكندر أم المغول أو ربما رجعَ سركون أو كسرى أو... قعقاع وملك الحثييّن وسلطان الروم... جيوش الروس السيخ وطغرل بك وهولاكو القبيح .. لا بربي إنهن راقصات بنات الريف، وحمدية صالح والجوقة الموسيقية.                                        

تتميز القصة القصيرة كجنس أدبي له خصوصيته،وحسب تعريف الناقد شوقي بدر في بحثه القيم حول المفارقة في قصص محمد صدقي ( بأنها لا تستطيع إلا أن تختار لحظةمأسوية في حياة إنسان يتحول - إما داخليا أو خارجيا - تحولا ذاتيا عميقا في مناخ

يبنى فيه تصوراته وأحلامه، ويشاهد فيه لحظات آلامه وأحزانه وتأزماته،ويؤسس لأفكاره ورؤاه، ويبحث عن خصائص وجوده في هذا العالم المليء بالقهر والتأزم والتهرؤ). القاص توفيق آلتونجي وعبر أربع عشرة قصة قصيرة، بدءاَ من قصته الآولى: وصية على قرص ذو 3، 5 عقدة الى آخر قصة المجموعة التي حملت عنوان المجموعة تحت ظلال شهب نيران بابا كركر. تنقلنا الى أجواء المدن التي تركنا فيها أسئلة دهشتنا من  دون أن يمهلنا الزمن فسحة مضيئة كي نتلقى أجوبتنا من شفاه الراحلين في طرق ذات  الإتجاهات المتعددة، يقول القاص توفيق وعلى لسان أحد أبطال كرميان الذي جرفه هدير أمواج النسيان في قصة: ضد التيار. – كانت عربة القطار مليئة بالجنود بينما كان صبياً في الرابعة من العمر يركض فرحاً بين المسافرين .. في محطة القطار الوحيدة في مدينة كركوك لم يكن أحدٌ في إنتظاري فذهبتُ الى القهوة القريبة من المحطة علّني أجد أحداً أعرفه أو ألتقي بمن يعرف من قصدته وهو أحد الفلاحين الذين تركوا الآرض وتوجهوا الى المدينة للعمل بعد أن ضاق بهم العيش في القرية ووجد عمل كأحد عمال السكك القريبة من المحطة...-  يتقارب القاص آلتونجي مع القاص احمد محمد عبدة في بنية حكاياته القصصية وإنتشاله لمرارة الواقع اليومي لجملة من معاناة المهمشين تحت ظلال الفقر المدقع. ويقول الناقد جمال سعد محمد في بحثه القيم في موقع القصة العربية ملامح العزلة والتفاعل في القصة القصيرة في قراءته لقصص أحمد محمد عبدة، بأن(( قصصه تعتمد على الواقع الحي الذي تعيشه الأغلبية المهمشة إجتماعياً وسياسياً)).وعلى نفس الهم الوطني وأمام وصية شاب يكتب آخر حشرجات إفتنانه لذلك الهدوء المغتال بصرخات زوّار الفجر. لا أسمع في البيت الاّ لبحة ذلك المؤذن الذي يوقظ كل صباح الأبناء من غفوتهم أن لايتخلفوا من قوافل المسافرين لطقوس تلك النار المشتعلة التي أوهمتها الغرباء، بأن الفجر أوانه سيكون بعيداً مثل سؤال الحفاة عن نصيبهم من نقمة بترول نارهم المشتعلة بالذهب المهدور.آلتونجي ينشر ونيابة عن تلك النفس المدفونة تحت ركام المقابر الناطقة بالأدلة القطعية من هنا خطوا لنا بمداد الدّم التاريخ يشهد ثانية بأن الآمم تشيخ ولا يمكنها أن تموت. هذه وصية وعبر قصة معنونة وصية على قرص ذو 5،3 عقدة: كان أخي الصغير قد ضبط وبحوزته بعض المنشورات السياسية فأودع السجنَ دونَ محاكمة.. عرفتُ ذلكَ وأنا أستعد لأداء الأمتحانات النهائية آخر إمتحان لي في الجامعة فنزلَ النبأُ علَيّ كالصاعقة ولكني تمالكتُ نفسي وتخرجت.................. إكتبْ وصيّتكَ بدمائك فاتنجو من الإعدام!.                                                             

ترك أخي مع بعض الجنود المتعبينَ على الجبهة الساخنة في الفاو ، فحملتُ نفسي وركبتُ مع أحد الضباط وهو قريبٌ لي وكان قد حرر ورقة عدم تعرض بإسم أخي عدنان فركبنا حافلة عسكرية وتوجهنا ليلاً الى البصرة.- وهذا هو السفر الذي له طريق واحد بلا عودة وفي مصطلح رجال النظم الشمولية يتندرون وبالإنكليزية الهابطة على الذي يعتقل سنذهب بك بإتجاه وان و ه ي . هذا هو عكس السفر الذي يحلم به الإنسان في الغرب وفي الدول العربية المستقرة إقتصادياً. وفي كتابه مخيلة الأمكنة يكتب لنا الكاتب اللامع خليل النعيمي حول السفر في معناه التفاؤلي(( من السفر نتعلم أن نرى أبعاد  الأمكنة المتعددة، فالبعد الواحد لاوجود له في الحقيقة،إلاّ في ذهن الكائن الخامل. ويقول مع سؤاله  كيف نبدع الأمكنة؟ كيف نغني مخيلتها ونصونها من الموت سافروا َ سافروا ، تكتشفوا المكان الذي تبحثون عنه)). ويري القاص خطيب بدلة ان القصة التي تستمد موضوعها من حياة الناس لا يبلي لها جدة ولا يستطيع الزمن تجاوزها. ولمح بدلة الي ان الكتابة بمتعة هي واحد من عوامل النجاح لدي الجميع وذلك علي مبدأ لذة النص التي تحدث عنها رولان بارت . وفي شهادة له بعنوان من القصة القصيرة الي الرواية يري الكاتب فيصل خرتش ان القصة القصيرة حدث يرتدي ثوب الحكاية وكلما برع الراوي في السيطرة علي حواس القاريء او المستمع صار اكثر امتلاكاً لهذا الفن واكثر قدرة علي التكيف وهو يدير لعبته بحذاقة ومهارة.                                                               

                                                     

 سردية اللغة وتأثيرها على بنية الحدث                         

 

يقول جورجياس في نظريته للجمال وكما ترجمتها د. أميرة حلمي في كتابها فلسفة الجمال عن تأثير اللغة: - ان في اللغة تأثيراً عند حد الإقناع العقلي بل يصل الى إثارة العواطف.  ويقول -بأنفعال النفس بتأثير اللغة شبيه تماماً بتأثرالحواس والإحساسات العنفيفة-. اللغة التي كتبت بها أحداث القصص التي أحتوتها تحت ظلال شهب نيران بابا كركر لغة قابلة للفهم قريبة من البساطة ولم تلبسها المباشرة.إن القاص وعبر سرديته المحببة لم تراوح في محيط الخطاب المباشر بقدر نقله للحدث بنكهته الطاذجة وكأن المتلقي يعيشه للتو والذكريات الحية تبقى تعيش في خلايا الذاكرة بأبهى صورها، وبأعذب عباراتها لحظة تصفح ألبوم حضور المنفيين من تلك المدينة. نقلية الحركة وسينمية اللقطة الموحية في عموم قصص القاص توفيق آلتونجي توحي للمتلقي قدرته على إلتقاط الحدث اليومي وقدرته على توظيف خزين أحداث الأيام التي مرت على زمنين زمن عصر إزدهار المدينة في أبهى عصرها وزمن أفول تألقها بعد قدوم الطوفان البشري بالنكبات من فراق وانزياح واقتلاع ومسميات تجعل الولدان شيباً من هول تجفيف منابع النماء والفرح.اللغة عند آلتونجي لحظات تشهق النفس لوطأة الحزن على لسان أبطاله ، وفي جانبها التالية تندرٌ وفكاهةٌ تكسر قوالب جليد الصمت والقتامة . صعب التعبير بتلك الآلسنة في سرد حدث غابر، وبتلك العفوية المقبولة التي لا تعافها الحس الأدبي الرفيع. حفلت قصص توفيق بالعديد من العبارات الموشاة بتلك العفوية والواقع الذي عاشه جيل من دون أن يدرك عبء مرارته الجيل التالي يقول على لسان أحدهم في قصته تحت ظلال شهب نيران بابا كركر: - كان شرطة المرور أكثر الناس هرجاً ومرجاً وفوضوية فكانوا قد أطلقوا العنان الى رناتهم فملؤها بالهواء وهم ينفخون في صفاراتهم بينما بدأ عدد من أصحاب السيارات بإطلاق أصوات الإنذار من سياراتهم فتحولت المدينة وأبنائها كمن مسهم الجنون يهرولون هنا وهناك بينما وقف أحدهم في مكانه  قرب أحد أعمدة الكهرباء ينفث بدخان سيكارته وينظر الى الجموع مبتسماً وهو يقول: إشبيكم قابل هاي أول مرة يصير إنقلاب بالعراق.............. كان أول ما قرأناه بعد ذلك اليوم هو كتاب بعنوان – المنحرفون – ملئ بصور ضحايا الحرس القومي. وفي قصة عودة أبو شارد الى كنف داره يصف حالة البطل الدرامي أبا شارد بأنه – كان جالساً في إدى دور العرض في مدينة السليمانية بدشداشته المرقعة وقد أطلق العنان للحيته ربما تهرباً من عيون الناس فقد كان خلال السنوات العديدة الماضية يعاني من الأرق والكوابيس السوداء آلام مبرحة في الرأس كداء الشقيقة والذهول والنسيان يتفرج على أحد الأقلام الوثائقية من أيام الحرب والتي يحرم عرضا في الطرف الآخر.وبصدد البيئة الجديدة للقصة المغربية يؤكد القاص والناقد المبدع عبد الإله الميسي في شهادته القصصية على تجربة الكشف عن المدهش في تكوينات المحيط وترتيباته مستندة في ذلك على خلفية جمالية والذي إختزل معاييرها في الإقتصاد اللغوي، والإقتصاد الأيديولوجي والإقتصاد التخيلي والإقتصاد المرجعي.وحول تعبيراللغة المستخدمة عن عوالم القصة القصيرة المغربية يؤكد على اللغة بأنها((عبّرت القصة القصيرة المغربية لغويا في تجربتها التدشينية عما يكفي من النمطية والرتابة اللغوية إن لم أقل الجمود والانطفاء،وعبرت في تجربة ثانية عما يكفي من البذخ والرفاهية والإسراف)). ون سياق قصص توفيق آلتونجي ترى في قسم منها ملامح إبداعية ضمن سرده الموفق كي يبحث عن هويته الخاصة  وفق صياغة خاصة، التي انعكست في إطارها رؤى القاص وأفكاره حول الحياة ومعاناة الشريحة المعذبة وفي قصة لا وقت للعناق ... لا وقت للوداع ... ياماه. وحقا لم يتسع الوقت عند القاص للوداع. ولم يتمكن من وقف نزف ذكرياته الطفولية المؤلمة. يقول في نهايتة القصة التي تمثل حل العقدة المستعصية في القصة وبمسحة فنية يسقط ضوء الختام على خلفية المشهد مع بقاء العيون في إنتهاء الومظة لجلاء الظلام.- طلبوا مني تريد النية في أول أيام رمضان وقبل العيد إصطحبني عمي الى إحدى المحلات التي تبيع الملابس في نهاية شارع الأوقاف كي أختار بنطالاً تقديراً ومكافئة لصومي خلال الأسابيع الأربعة الماضية وهو يهم بدفع البنطال قال لصاحب المحل هامساً.إنه أبن أخي اليتيم! لم يكن والدي قد وافاه الأجل فأبيتً إلاّ أنْ أُمًزِقَ البنطال لاحقاً إرَباً إرَباً رغم العقاب القاسي الذي لاقيته من والدي رحمة الله عليه... لم أفكر قطعاً أن أشرحَ لهم لاحقاً سبب فعلي ذلك لحد هذا اليوم .هناك في الخارج البردُ والظّلام يلف البيوتأيتها القديسة لوسيا.. أيتها القديسة لوسيا... ترك الصغار القاعة بينما تعالى التصفيق لفلذة أكبادنا.                                                                     

                                                               

كل قراءة تتبعها المتعة، وثمتَ كلامٌ في التواصل                      

 

من خلال هذه القراءة السريعة لمجموعة تحت ظلال شهب نيران بابا كركر، وعلى ذلك الطريق السالك نحو مقتربات عالما المنسي. نجد في محطات القاص قصص مضيئة تشع بمقومات الإبداع، والتي تؤشر بداية قوية لولادة قصص واقعية من غير الإبتذال، وإجترار الماضي بثوب الحكائية الدارجة.ليست كل المحكيات تنبض بروحية الإبداع. القاص في قصصه الأخرى مشحونة بيوميات تحتاجها ذاكرة الجيل، الذي لم يهزه صوت مدافع الحرس الشمولي. ولم يوحزه الجوع أيام مزج الطحين ببرادة الحديد وفي بقيتّها قصصٌ تصلح كإرث لمن لم تحالفها رؤية هجرة المدينة لفرحها الطارئ. في تلك المساحة المضيئة من قصص آلتونجي وجدنا ذاتنا في أكثر من مشهد ولقطة تذكرية في. تركت القصص بساطة  ملحوظة في حركة أبطاله، وانسيابية التفاعل مع أحداثها أثراُ بينّناً  فينا كي نقول رأياً متواضعاُ تحث ظلال شهب نيران آلتونجي. بأنها حقاً شعرتنا بالدفء  والحنين . في ظلام تلك المأساة جعلنا أن نوقد شموع فرحتنا، كلما أقتربنا من نيران بابا كركر. ننتظر للقاص توفيق آلتونجي إبداعاً آخراً في تقنية فنية أخرى تواكب مع تطور أدوات القصة القصيرة لديه، مع تجاوز بعض المشاهد المتكررة والإبتعاد عن نقل بعض الصور القليدية في نعت المشاهد التي تحتاج الى لمسة فنان حاذق، في تكملة القصة كلوحة معبرة بكل شروطها الفنية. توفيق أبدع في مجموعته القصصية، وهو في طريقه للعبور الى ضفاف إبداع آخر.تلك أمنية كل مبدع لا يمل في البحث عن خلود روح الإبداع، في الكلمة والفن. وفي توصيل الرسالة الإنسانية في معناها المعرفي لتطوير المجتمع.                                                                                

 

الهوامش                                                                             

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ   

 

 1- تحت ظلال شهب نيران بابا كركر مجموعة قصصية. توفيق آلتونجي. السويد دار نشر فيشون ميديا 2006.                                                                                        

2-الناقد شوقي بدر. المفارقة في قصص محمد صدقي. مجلة افق الثقافية قراءات 2006 ع آذار.                      

3 -الناقد جمال سعد محمد ملامح العزلة والتفاعل في القصة القصيرة في قراءته لقصص أحمد محمد عبدة. موقع  القصة العربية.                                                 

4-الأديب خليل النعيمي. مخيلة الأمكنة، مدن ونصوص. الهيئة المصرية العامة للكتاب مكتبة الأسرة2003 مصر.                                                             

 5- الأديب والصحفي منذر  الشوفي. شهادات ومداخلات عن القصة في سوريا جريدة الزمان،ع 1363- 2002.– 6-د. أميرة حلمي . فلسفة الجمال ، أعلامها ومذاهبها.2002 مكتبة الأسرة.الهيئة المصرية العامة للكتاب  الأعمال الفكرية. ج م ع.                                                                                               

                                                

 
           

 

02/09/2015