كثيرا ما يدور الحديث هنا وهناك هذه الايام ،و في اوساط مختلفة
،عن الراي والراي الاخر، وعلى مدى اكثر من نصف قرن دافعنا نحن
كتابا وادباء وشعراء و صحفيين ومثقفين كرد بحماسة مفرطة ومغرقة
في الحس والعطف عن قضايا الشعوب وعن حركات تحررها ،بل
وساندناها في الكثير من الاحيان بتقديم تضحيات جسام ،دون ان
ناخذ بنظر الاعتبار موقف الاطراف الاخرى ومدى تجاوبها لقضايانا
نحن الكورد ودون ان نحسب حسابا دقيقا لمدى اعترافها بحقوقنا في
التفكير والراي والتعبير ،اذ ان الراي لايمكن ان يكون له صدى
واستمرارية ما لم يكن هناك ثمة راي اخر يتجاوب معه تجاوبا
ايجابيا يوصلة في الحصيلة الى قناعة بان ما طرحه قد اكتسب نوعا
من الشرعية ،و الى ان هناك اخرون يدركون بوعي معاناة صاحب
الراي ويقدرون مسعاه في سبيل الوصول الى اكتساب حقوقه
المشروعة.
وهنا
اود الرجوع بالحديث الى العلاقة التي ربطت بين نخبة الكورد
والنخبة العربية في العراق لعوامل عديدة اذكر منها على سبيل
الحصر ثلاثة عوامل رئيسية وهامة وهي:
اولا/
الارث او التركة الدينية والمذهبية المشتركة و التي فرضت علينا
نحن الكرد كنتيجة حتمية للفتوحات الاسلامية. وهذا ما اسميه
(التعريب الدينى)؛
ثانيا/
(القسرية الجغرافية)،اي ان الواقع الجغرافي نتيجة الغبن
التاريخي الملحق بنا ككرد جعلت من ارضنا جزءا ملحقا بما كان
يسمى انذاك الدولة العراقية .و بقية الاجزاء الاخرى على نفس
المنوال ؛
ثالثا/
كون ارض كوردستان دوما وعلى مدى اكثر من نصف قرن ارضا للنضال
ضد الانظمة الشوفينية التي توالت في حكم الدولة العراقية –
ملكية كانت ام جمهورية – وكونها ملاذا امنا لجميع الاحزاب
والجماعات غير الكوردية التي اتخذت من كوردستان منطلقا لنشاطها
السياسي والحزبي ضد طغيان واستبداد تلك الانظمة.
والى
جانب هذه العوامل هناك اسباب اخرى ساهمت بشكل او باخر في ترسيخ
تلك الظاهرة وجعلت ككل متماسك العلاقة بين هاتين النخبتين(
الكوردية و العربية )علاقة غير متوازنة من الاساس ،حيث ارادت
النخبة العربية دوما وما تزال ،بجميع تياراتها واجنحتها ،ان
تكون النخبة الكوردية كلها اذانا صاغية لطروحاتها وتوجهاتها
دون ان تصغي هي ،وعلى مدى تاريخها ،و لو لمرة واحدة ، لاراء
الطرف المقابل بقدر من التعمق و الموضوعية ، و تقر بحق الاخر
في الراي الا في الاطر النظرية اكثر منها مواقف عملية مجدية .
وهنا اتوجه بالحديث الى النخبة لكونها الشريحة او الفئة الاكثر
وعيا وثقافة داخل كل كيان اومجتمع .و بديهي انها هي القوة
الثقافية الواعية و المدركة التي تحرك و تؤثربشكل فعال في
عملية توجيه اراء الاكثرية الشعبية الى هدف ما والى
الاقراربحقوق الطرف الاخر او التنسيق معه باسلوب حضاري متمدن
او رفض هذا الاخر ككل !!
ولذا
عندما اراجع نفسي و علاقاتي الشخصية او الحزبية في عقدي
الثمانينيات والتسعينيات التي جمعت بيني وبين اشخاص مثلوا هذه
الشريحة من العرب العراقيين-- والذين جمعتهم معي كون كوردستان
ارضا للنضال ضد الانظمة الشوفينية و الدكتاتورية التي لم تقر
يوما من الايام بان هناك قومية اخرى لها الحق في تقرير مصيرها
والعيش بسلام اسوة بحقوق القومية التي مثلتها ،بل على العكس من
ذلك تماما لجاْت الى شن حملات ابادة وتشويه على كافة المستويات
لاسيما الفترة الواقعة بين 1968—1991 وباكثر الاساليب وحشية
وهمجية – اتذكر مواقف عوجاء واساليب في التعامل تعكس بصورة
جلية و واضحة استمرارية نفس المنهجية الشوفينية،رغم تواجدها
على ارض كوردستان وفي رحاب الضيافة الكوردية وعلى الرغم من
تباينها في الاسس الفكرية التي كانت تتبعها – اي رغم اختلاف
منطلقاتها الايديولوجية من ماركسية و قومية ومذهبية – حيث كانت
تتعامل على اساس كونها صاحبة الراي و القرار الاخير و الطرف
الاخر ( النخبة الكوردية) لم يكن لها حق ابداء راي مغاير و اذا
فعلت كانت تتهم بالتطرف و الانفصالية و عدم الحفاظ على وحدة
الاراضي العراقية( هذه الوحدة التي اجبرتنا ،نحن الكورد، دوما
نحو التفكير بالانفصال واعتباره الطريق الوحيد للخلاص من الظلم
والقهر الذي عانيناه من جرائها ). ففي نظرهم لا فرق بين عربي و
اعجمي الا بالتقوى !! او الاصح الا بالانحياز الى مصالح
القومية السائدة و الخضوع التام لافكارها و توجهاتها هي لا
غير.انذاك توصلت كماركسي الى قناعة و هي :نحن كنخبة كوردية ،و
على وجه الخصوص الماركسيين ،كنا دوما اكثر حماسة و تطرفا من
النخبة العربية فيما يتعلق بالحفاظ على هذه الرابطة الاحادية
الجانب ، بينما لمست فيهم دون تردد تواصلا للفكر القومي العربي
الشوفيني و امتدادا له رغم الادعاء ظاهرا بمخالفة ذلك . فاذا
كانت النخبة تفكر بهذه الطريقة فكيف يكون حال البقية ؟!
اننا
حاولنا دوما وبجدية صارمة اتقان العربية كي نتمكن من ايصال ما
نربو اليه بصورة ادق و اكثر وضوحا الى الاخوة العرب ، كما
تعودنا على الاستماع الى(فيروز) في الصباحيات و( ام كلثوم )عند
الظهيرة و... كان علينا منذ الازل الدفاع عن القضايا العربية
لا سيما القضية الفلسطينية و ادانة اليهود و الاقرار بضرورة
توحيد الامة العربية و..دون ان تكون للنخبة العربية محاولة
مماثلة او مشابهة رغم التاريخ المشترك الطويل بحكم العوامل
التي اشرت اليها مسبقا . فعلى سبيل الذكر ،اتذكر ذات مرة سالت
احد رفاق الاممية الماركسية من الاخوة العرب ،لماذا لم تحاول
تعلم الكوردية حتى الان و انت بيننا لاكثر من ثلاث سنوات تتجول
في قرى وقصبات كوردستان ؟! فاجاب ببرودة اعصاب قائلا : لا ارى
ضرورة في تعلم اللغة الكوردية !! في الوهلة الاولى اغضبتني
اجابته الصريحة هذه ، الا انني لجمت عنان غضبي واغرقت بيني و
بين نفسي في التفكير ، فرايته صادقا مع نفسه ومع الاخرين ،
فلما الغضب ؟!
المسالة بالنسبة اليه هكذا بكل بساطة ، فانا الذي عقدت المسالة
على نفسي وبرمجت جهاز تفكيري بضرورة تعلم العربية و انتقاء
المعلومة من المصادر العربية ولقنت باعطاء الاولوية لكل غريب
عن كياني و ثقافتي و ارثي الحضاري،فاذن انا المسير جيلا بعد
جيل و ليس هو!! انا الذي تعرضت على مدى ثمانين عاما لحملات مسخ
و تشويه و تطهير عرقي و لا احد يسمع او يريد ان يسمع صوتي الا
القلة التي نادرا ما تجراْت و ايدت مساعينا في سبيل الحصول على
حقوقنا المشروعة .
و لا
بد من الاشارة هنا الى انني لا ادعو الى التطرف القومي او
تمجيد نظريات الحق التاريخي او ما شابه ذلك في كل ما يضيق افق
تفكير الانسان رغم انتمائه القومي او الديني او العرقي ...و
لكن وددت التذكير بسذاجتي- وان كان ذلك متاخرا بعض الشيْ-
كمثقف كوردي تغذى من مصادر حددت له مسبقا دون ان يعلم ، كي
يفكر كما يريدون و ليس كما يريد هو نفسه . و انا على يقين بان
عددا كبيراا من المثقفين الكورد مصابون بنفس الداء ،و لذا اقول
جهارا كفانا الدعوة الى احترام هذا الصنف من الراي الاخر الذي
ارادني عبدا خنوعا ذليلا افكر كالة برمجت من قبل على مدى عقود
من الزمن امتلات بسياسات مغرقة في الشوفينية والاكراه و
الطغيان لحكومات واجهت مطالب مشروعة باللجوء الى ابشع انواع
الابادة في غياب موقف النخبة العربية التي طالما سكتت او
امتنعت عن رفع صوتها بقول كلمة "لا" و اهلا بكل راي يحترم قولا
وفعلا ما افكر به ويكون بدوره عاملا فعالا ومساعدا فيما اهدف
اليه من الحصول على حقوقي المشروعة !!
|