رحلة البحث عن رفات ضحايا الانفال يجب ان تبدأ من قرية( تل الورد)

صفوت جلال الجباري

Safwatjalal@hotmail.com

 

الجزء الاول :

 

ان تراجيديا الانفال تعتبر اعمق جرح مغروس في الذاكرة الكوردية والتي لا  يمكن للايام مهما تقادمت ان تمحيها...... ليس بسبب العدد الهائل لضحاياها الابرياء فقط وانما الطريقة البشعة التي تم التعامل مع هذه الكتل البشرية البريئة من الاطفال والنساء والشيوخ  من قبل اناس تجردوا من ابسط المفاهيم والقيم, ان المأساة هي بالبشاعة والقسوة التي يعجز عن سردها مئات المجلدات ,فكل ما يمكن ان يتصوره العقل الانساني او ما يخطر على بال اي انسان او  بما يسمح به الخيال الخصب من ضروب القسوة والظلم والعنف واشكال الاعتداءات قد مورست ضد الضحايا في هذه التراجيديا الفريدة من نوعها على مر التأريخ الكوردي بل والانساني عموما.....

 

والادهى من هذا كله هو المصير المجهول التي تم سوقها اليه هذه الضحايا , وعلى الرغم من مرور اكثر من ثمانية عشر عاما على ارتكاب هذه الجريمة البشعة لا تزال مقابر ورفات هؤلاء الضحايا مجهولة في اغلبها..... ناهيك عن الاشخاص الذين قاموا بارتكابها من مخططين ومنفذين والذين هم بالآلاف....  ولم تستطع القيادات الكوردية ولا الباقيين على قيد الحياة من اقارب الضحايا ولغاية يومنا هذا, رغم محاولاتهم الكثيرة والمضنية من ايجاد هؤلاء وتقديمهم للمحاكمات العادلة لينالوا جزاءهم  العادل,عدا القلة من القياديين البعثيين من امثال الطاغية صدام وبعض من اقاربه ومعاونيه الذين تم الامساك بهم ويقبعون في السجون الآن بانتظار محاكمتهم......ان عملية قتل واخفاء آثار 182000 من الرجال والنساء والاطفال خلال بضعة شهور لم تتم بمعرفة وفعل اشخاص معدودين بل شارك في هذه الجريمة المئات بل الآلاف من منتسبي الاجهزة الامنية والحزبية الخاصة.... والسؤال هو اين هم هؤلاء  المجرمون الآن؟؟؟؟.....

 

لقد شاءت الصدف ان اكون شاهد عيان لبعض مجريات الامور في عمليات الانفال.... ففي تلك الاثناء كنت اعمل  في ادارة المشاريع في مشروع ري كركوك(صدام سابقا)  وانا بحكم عملي الهندسي في تشغيل وصيانة شبكة الري في منطقة الحويجة كنت قريبا  من معسكر (طوبزاوة) السيئة الصيت ...... وكان مقر عملي وسكني ايضا  لا يبعد اكثر من بضعة كيلومترا  من المعسكر المذكور..... ومن خلال متابعاتي اليومية لاذاعة صوت كوردستان العراق كنت اسمع ان عمليات واسعة النطاق تجري في قرى وقصبات منطقة كرميان من قبل الجيش والجاش ويتم خلالها حجز واعتقال كل من يتواجد في هذه القرى و سوقهم الى معسكرات الجيش العراقي..... و كذلك كنت اسمع اخبار المقاومة الباسلة للبيشمركة الابطال  لمقاومة وصّد هذه الحملات الواسعة النطاق و المدعومة  بالقصف الكيماوي ......ولذا كان اي خبر او كلام بهذا الخصوص يسترعي انتباهي واحاول ان اتتبعه بكل دقة وحذر...وكان مجال عملي كما ساذكرها لاحقا بحكم وظيفتي تسمح لي بعض الشئ ان اكون قريبا من بعض مجريات الامور ....... وهنا ساركز الكلام حول مشاهداتي حول معسكر (طوبزاوة) وما كان يجري في قرية( تل الورد)...

 

معسكر طوبزاوة

 

يقع هذا المعسكر على بعد 10 كيلومترات جنوب غرب مدينة كركوك,قريبا من قرية( طوبزاوة) الكوردية والتي كان النظام الصدامي قد هجّر اهلها الكورد الى مدينة اربيل(مجمع بني صلاوة) في اثناء الحرب العراقية الايرانية بداية الثمانينات من القرن الماضي.... وهي تقع على الطريق العام كركوك ـ الرياض,والمعسكر نفسه يقع شمال القرية بمسافة كيلومتر واحد تقريبا على الطريق الواصل بين طوبزاوة ـ مجمع ملا عبد الله التعريبي....وقد بني المعسكر اصلا لتدريب وجبات ما كان يسمى بالجيش الشعبي مع بدأ الحرب العراقية الايرانية.... وكان عبارة عن عدة غرف للادارة والميرة وحوالي 10 قاعات مستطيلة لنوم الافراد (سعة كل قاعة حوالي 300 متر مربع) وتم تسييجها في البداية بسياج حديدي(بي ار سي) ومن ثم تم بناء حائط في الواجهة المقابلة للشارع العام اثناء حملات الانفال , والمنطقة عموما اعتبرت من المناطق المحرمة, وخاصة بعد تهديم ناحية (يايجي) القريبة من المعسكر  وترحيل سكانها التركمان الى مجمعات سكنية قريبة من ناحية الرياض,وبذا كانت السيارات الاهلية ممنوعة من ارتياد المنطقة عدا سيارات شركة نفط الشمال وسيارات الري(لوجود منشأت وانابيب  ري تحتاج الى الصيانة قريبا من المعسكر) .....

 

في الفترة التي بدأت فيها حملات الانفال السيئة الصيت كان يطلب من دائرتنا احيانا ارسال سواق مكائن ثقيلة (شفلات وبلدوزرات)  للمساهمة في هذه الحملات ويتم اختيار السواق (الموثوقين) ومن العرب حصرا لمرافقة وسياقة هذه المكائن,وكان ضابط امن الدائرة (المهندس موفق) من اهالي الموصل (لا يزال يعمل في نفس الدائرة!!!) هو من يكلف هؤلاء السواق بهذه المهمة (الوطنية) ويختارهم بدقة ...... وكان بعض هؤلاء السواق اثناء اجازاتهم او مراجعاتهم للدائرة يبدون امتعاضهم الشديد للمساهمة في هذه المهمة اللانسانية لما كانوا يشاهدونه بأم اعينهم من ضروب القسوة والوحشية التي كانت تمارس فيها هدم القرى ونهبها واخراج اهاليها وحشرهم في السيارات العسكرية وسوقهم الى جهات مجهولة.....وقد روى لي احدهم وكان يعمل سائق بلدوزر وكان يبكي خلال حديثه كيف ان القائد العسكري امره ان يهدم احدى الدور على عجوز كفيف تجاوز الثمانين من العمر, لم يستطع الخروج من داره ومنع اقرباءه من الاقتراب منه ومساعدته للخروج من البيت, وكان هذا السائق (من اهالي الشرقاط) يستغفر ربه نادما ان يغفر له فعلته علما وكما قال انه كان صائما يومها وكان يتسائل كيف اجبر على ارتكاب جرم كهذا  وهو صائم!!!!!,اذ صادفت هذه العمليات العسكرية المشؤومة شهر رمضان .

 

وكنت اترصد اية كلمة او حرف يتعلق بالموضوع من المنتسبين في الدائرة , كما كنت الاحظ دخول سيارات عسكرية كبيرة محملة بالرجال والنساء والاطفال الى الطريق المؤدي الى معسكر طوبزاوة...وكنت اتقصد المرور من امام المعسكر بحجة متابعة اعمال الري بسيارة الدائرة طبعا واحاول ان ارى ماذا يجري من خلال باب المعسكر او النظر الى داخله من الجهة الشمالية الغير مسيجة من المعسكر حيث ان نصف المعسكر لم تكن قد تم تسييجه بعد, وكان منظر العشرات من النسوة والاطفال وهم ينظرون من شبابيك القاعات يجلب انتباهي واجد احيانا بعض النسوة بملابسهم الكوردية وهن يحملن تنكات الماء من احدى الحنفيات الموجودة في ساحة المعسكر يقودهم الحراس, ولو انني لا استطيع ان اتلصص الا لحظات قليلة اثناء المرور بسيارتي من نوع تويوتا لاند كروز بقرب المعسكر بسرعة بطيئة نوعا ما.....وفي الباب الخارجي للمعسكر كنت ارى افراد من القوات الخاصة تحرس الباب ..... وكنت اكرر مروري مرة او مرتين باليوم في البداية واحيانا اخذ سيارة اخرى(نوع بيك آب) للتمويه, ولو ان العملية برمتها كانت لا تخلو من الخطورة والمجازفة ولا سيما لو اكتشفوا اني كوردي وبيشمركة في ثورة ايلول المجيدة, ولكن قلقي وحرقة قلبي  على مصير  ابناء وبنات  جلدتي وفضولي كان اقوى من الاحساس بالخوف والخطر,واحيانا كانت تتصادف مروري مع خروج وجبة من السيارات(ثلاث الى اربع باصات عسكرية(منشأت) مظللة النوافذ تتقدمها سيارة مسلحة من نوع( بيك اب شوفرليه),و سيارتان او ثلاث في المؤخرة,متجهة الى طريق كركوك ـ تكريت,وعادة كانت تصادف اوقات غروب الشمس, وفي احدى المرات لاحظت قافلة السيارات من بعيد فتعمدت الابطاء في السياقة الى ان اصبحت على مسافة نصف كيلومتر منها ,وتابعتها بحذر شديد واستمريت بالمسير خلفها علني اعرف الى اية جهة تتوجه...... واستمريت خلف السيارات , تارة اتقدمها وتارة اتأخر عنها  وبقيت اتابعها على هذا الحال لمسافة تقرب من 50 كيلومترا, وفي خلال هذه المتابعة حينما كنت اسوق بموازات القافلة (بقصد عبورها)  وانا احاول  جاهدا النظر الى داخل الباصات من خلال الشبابيك والتي نوافذ احداها كانت غير مظللة تماما , لاحظت انها كانت تغص بالاطفال والنساء , ومن شدة ارتباكي استمريت بالسير بجانبها حتى انتبهت من خلال مرأة سيارتي ان احدى السيارات المرافقة  للقافلة تخرج وتؤشر لي بالابتعاد عن القافلة, فشعرت بخوف شديد في افتضاح امري فاسرعت بالسيارة مبتعدا, ومن حسن حظي ان صادف طريقي محطة للتزود بالوقود (محطة الفارس) التي كانت تعرف بمحطة(انور العاصي) فتظاهرت انني احاول الدخول الى المحطة للتزود بالوقود,وبذا تخلصت من الموقف المحرج ثم قفلت راجعا صوب كركوك بينما استمرت القافلة بطريقها نحو تكريت. 

 

 

 

 
           

 

02/09/2015