بعد أن تمّ إطلاق سراحي في أيلول عام 1966 وعند نشوب حرب
الأيام الستة بين فلسطين واسرائيل في الخامس من حزيران عام
1967 طلب منّي الصديق (الرفيق غني الحاج أحمد*) وهو من تنظيم
آخر(كان من تنظيم الرصافة) مساعدته في توزيع بيان الحزب
الشيوعي العراقي المعنون: كل شيء من أجل الجبهة (أي من أجل
المعركة الدائرة بين اسرائيل وفلسطين والدول العربية)، وخلال
التوزيع شاهدني شرطي الأمن (شاكر محمود طهماز**) من مدينتي
خانقين وزميلي في الدراسة، وأستطعت التخلص منه عند دخولي
درابين عقد النصارى، وعلى إثر ذلك خسرت سنة دراسية.
بعد إنشقاق 17 أيلول 1967 وبناءً على طلب الحزب الإختفاء ذهبت
إلى الكوفة حيث أن صديقي المقاول سعيد فرج يعمل هناك، وحال
وصولي الكوفة أصبحت مساعداً له في مشروع ماء النجف بالكوفة،
واستلمت مهامي الحزبية مسؤولاً عن تنظيم المدينة.
وفي شارع الرسول بمدينة النجف، وفي الوقت الذي كان الحزب يعيش
ظروفاً معقّدة وعصيبة تعرفت على شاب طويل القامة، أبيض اللون
وفي إبتسامة عريضة قدّمّ نفسه، وهو يقول (محمد) وأصبحت عضواً
في اللجنة القيادية لمدينة النجف التي تكّونت من الرفاق: أحمد
رجب، عدنان الأعسم، شريف، محمد، ومسؤول اللجنة محمد الحكيم
(على ما أعتقد)، وبعده جاء الرفيق فراس الحمداني (أبو سمير)،
وأشرف على اللجنة في البداية الرفيق جاسم الحلوائي (أبو شروق)،
ومن ثمّ الرفيق عدنان عباس الكردي (أبو فارس).
كان الرفيق محمد مرحاُ بشوشاً يصنع النكات، متواضعاً يحترم
رفاقه، محافظاً على العادات والتقاليد الإجتماعية، متمسكاً
بمباديء حزبه، يرفع عالياً سمات الشيوعيين البارزة في الإخلاص
التام لخدمة مصالح الشغيلة والطبقات المسحوقة، ويدافع بجدية عن
المضطهدين والمقهورين ضد الطغاة والأنظمة الدكتاتورية، وقد
إمتاز بخصال مناضل عنيد نابعة من صلب خلقه الشيوعي المستند إلى
مباديء أخلاقية سامية، وكان على إستعداد دائم بالتضحية من أجل
أفكاره وقيمه للسير بثبات إلى الأمام لتحقيق طموحات وتطلعات
أبناء شعبه من المناضلين ورفاق الدرب.
كان الرفيق محمد يؤكد دائماً على التوطيدالفكري والتنظيمي
للحزب على مباديء الماركسية اللينينية في خضم نضال دؤوب لا
هوادة فيه ضد العدو الطبقي وضد الأفكار البيروقراطية المعادية
المتمثلة بالسلطة وأعوانها، ووقف بشدة ضد الأفكار الإنتهازية
والتحريفية يوم برزت فئة ضالة وطعنت الحزب بحثا للشهرة، وتشويه
الحياة الحزبية بفظاظة، وكان من الأوائل الذين عملوا لصيانة
الوحدة الفعلية للمباديء الحزبية الفكرية والتنظيمية، هذه
الوحدة التي تفترض عملياً وفي كل وقت عملاً مثابراً ودؤوباً
للحزب ورفاقه.
ومنذ فراقنا في أواخر الستينات بدأ النظام يمارس الإرهاب
والإضطهاد ومصادرة الحريات والإعتقال التعسفي الذي طال كل
العراقيين على حد سواء، والإغتيال والإخفاء المتعمد كما حدث
للكورد الفيليين، والتصفيات الجسدية والإعدام وغيرها من أساليب
القمع ضد المواطنين على إختلاف ميولهم ومشاربهم، وبقت تلك
الممارسات الوحشية إلى أن التقينا في مقر حزبنا الشيوعي
العراقي بمنطقة ئالان في كوردستان عام 1982 قادماً من جمهورية
اليمن الديموقراطية.
ويوم التقينا سمعنا أخباراً بأنّ النظام الدكتاتوري شنّ حملات
إبادة جماعية ضد أبناء الشعب في مناطق الأهوار في جنوب العراق
وفي كوردستان، وتدمير القرى، واللجوء إلى إستعمال الأسلحة
المحّرمة، وعشنا معاً في مقر الحزب في قرية حاجي مامند، وقد
إفترقنا مرة أخرى عندما أرسله الحزب للعلاج خارج البلاد، وسمعت
بأنّه تسّلمّ مهام حزبية في (......).
للنظام العراقي البائد سجل أسود من حيث الإنتهاكات والممارسات
اللاإنسانية واللاقانونية بحق شعبنا، ورغم الإعتقال والقتل
الجماعي والمقابر الجماعية عمد النظام على إرتكاب أبشع الجرائم
الجماعية بحق العراقيين، كتهجير مئات الألوف من المواطنين
العزل، حيث جرى إنتزاع كافة أوراقهم الثبوتية، ورميهم على
الحدود الدولية بعد مصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة،
ولا تزال أعداد كبيرة منهم تعيش في مخيمات لا تتوفر فيها أبسط
الشروط للسكن فيها، وتعاني صنوف العذاب والمعاناة والحرمان.
بعد عمليات الأنفال السيئة الصيت وضرب مدينة هه له بجه وعدد
كبير من قرى وقصبات كوردستان بالإسلحة الكيمياوية عام 1988
أصبت بشظايا عديدة في جسمي جرّاء القصف المدفعي للنظام
العراقي، ونقلت إلى مستشفى الحزب في دولي كوكا حيث قام
الدكتورجودت (دلير) ومساعدتها جنار مام خالو بمعالجتي، ومن ثمّ
أرسلني الحزب بواسطة الأصدقاء لتكملة العلاج في إيران، ولكن
الأطباء هناك لم يستطيعوا معالجتي أكثر ممّا قام به الدكتور
دلير، ممّا دفع بالحزب إلى إرسالي إلى موسكوعام 1989، وفي
موسكو دخلت المستشفى ولكن دون عمل أي شيء. وهناك في موسكو
التقيت مرة أخرى بمحمد حيث قضينا فترة من الزمن ونحن نستعيد
ذكريات الأيام القاسية ونضال شعبنا وحزبنا إلى أن تفارقنا من
جديد، إذ توّجه إلى السويد وعاش في مدينة فيستروس، وعندما حصلت
على اللجوء في السويد زارني مع الأخ أبو إيفان، وتحدثنا عن
مآسي الشعب العراقي بصورة عامة والشعب الكوردي بصورة خاصة، وعن
الإختفاء في الفرات الأوسط، وبالأخص كنت مختفياً ومطارداً من
قبل السلطة، ومتخلفاً عن الخدمة العسكرية، وتذكرنا درابين
النجف في العمارة والمشراق والخورنق وحي كندة، وكونفرانس
منظمتنا الذي إنعقد في غرفة النول (الحياكة) في النجف، ومناطق
العباسية والمويهي وألبو حداري (علوة الفحل) وغيرها في الكوفة،
كما التقينا لآخر مرة ولدقائق معدودة في مدينة يونشوبينك.
انّها لفجيعة كبرى يوم غادرنا الشخصية الإجتماعية المحبوبة
والمناضل الشيوعي الصلب معن جواد الذي حمل أسماء ( محمد، أبو
باسم وأبو حاتم)، ولكن رغم حياة الغربة التي بدأها منذ نهاية
السبعينات، عاد إلى العراق بعد سقوط النظام الدكتاتوري في
بغداد، وتوفي هناك بين أفراد عائلته وأصدقائه ورفاقه.
لكم الذكر الطيب أيها الشهم، وسوف نتذكركم مع أهلكم في
المحاويل والحلة والعراق، ونتذكر قيمكم السامية وخصالكم
الحميدة ونضالكم في سبيل حياة أفضل ومستقبل زاهر لأبناء الشعب.
20/9/2006
*
غني حاجي احمد نه مه لي: مسؤول محافظة ديالى للحزب الشيوعي
العراقي، تم إختطافه من قبل النظام البائد، ولم يعد ولا أثرله
لحد الآن.
** شاكر محمود طهماز: شرطي أمن معروف كان يدّعي بأنه أمين على
أبناء مدينته، ولكنه عملياً كان يكذب، إذ كان يتلصص ويريد
الحصول على لقمة دسمة.
|