لم يستطع المتطرفون خطف" نجيب محفوظ " ولا الموت يستطيع

 كازيوه صالح*

كاتبة و صحفية كردية

يستطيع الانسان ان يتحدى كل شيء في الوجود ويصنع منه نافورة  الحياة , المستحيل الوحيد الذي لم يستطع ان يتحداه هو " الموت " رغم ان الموت بحد ذاته ليس مستحيلا بل المستحيل الوحيد هو عدم استطاعة ارجاع الحياة الى الموتى . المفهوم الذي شغل الفلاسفة والانسان على مر التاريخ في سبيل الانتصار عليه ,والامر الذي دفع الفنان سلفادور دالي لمقولته الشهيرة "  لقد قررت ، أن يضعوني في علبة بعد موتي ، والانتظار إلى يوم أن يكون بمقدور البشرية إعادة الحياة " . اذ هناك قلة نادرة في العالم  استطاعوا ان يغلبوا الموت و يصنعوا الحياة والخلود الابدي  , ونجيب محفوظ واحد من هؤلاء الذين استطاعوا خطف الحياة والخلود والخلاص من لافتة الموت العريضة فوق جبين الحياة البشرية .

عندما تعرض اسطورة الادب العربي نجيب محفوظ للهجوم و المنع من قبل بعض الاسلاميين المتطرفين  بسبب كتاب روايته " اولاد حارتنا ", الذين رأوا في هذا الكتاب مساسا بالشخصيات الدينية والذى منع من الطبع في مصر,وتعرض الى محاولة اغتيال فاشلة على ايديهم عام 1994 , كانوا يظنون باغتياله انهم يستطيعون اغتيال افكاره و اغتيال التاريخ الذي صنعه, لم يعرفوا انهم برزوا  و ثبتوا في ذاكرة العامة ما قاله في روايته  عن العلاقة بين الدين والاشتراكية و العلم ,لان الانسان الجاهل لا يعلم ان التاريخ لا يموت و محفوظ هو صانع التاريخ ليس فقط التاريخ , بل اصبح هرما اخر بجوار اهرامات مصر عندما جسد التاريخ الفرعوني في ثلاثيته الشهيرة ( بين القصرين , قصر الشوق و السكرية ) واصبح نهرا اخر يجري بجوار " النيل " عندما نقل لنا
 في أعماله عن تاريخ مصر و خريطة القاهرة شبرا شبرا من خلال اعماله (السراب ,حكايةحارتنا , خان الخليلي , القاهرة القديمة , القاهرة الجديدة , قلب الليل، البداية والنهاية ) ودعنا لكي نعيش مع شعبه من خلال اعماله  ( المهد , دخان الظلام ,القرار الاخير ,همس الجنون , زقاق المدق ,الطريق , الشحاذ , السمان والخريف , بيت سيئ السمعة ,شهر العسل , حب تحت المطر ,ملحمة الحرافيش , الشيطان يعظ ,لقاء خاطف , العود والنارجيلة ,ذو الدخل المحدود , الحزن له اجنحة ..) .وغيرها من الاعمال حيث نقل لنا حياة الطبقة المتوسطة في أحياء القاهرة،و حياة الأسرة المصرية في علاقاتها الداخلية وامتداد هذه العلاقات في المجتمع والتاثر بها ,  
  فعبر عن همومها وأحلامها ، وعكس قلقها وتوجساتها حيال القضايا المصيرية .ولا احد منا قرأ ( الكرنك و يوم مقتل الزعيم , ثرثرة فوق النيل ,ميرامار ) ولم يعرف جرأة الكاتب في التعبير عن مواقفه تجاه الرئيسين " جمال عبدالناصر  وانورالسادات " .


نجيب محفوظ هو الذي حفر تاريخ شعبه في جدار ذاكرتنا , وهو الذي حفر في طيات وجداني حبه لعدالة وحقوق الشعوب , عندما اجتمعت به في القاهرة عام 2001 بعد ايام من احداث 11 سبتمبر   في احد " المجالس المحفوظية " عندما علم انني كردية و سالته عن رأيه قال " عندما اعتقلوا "اوجلان " عبرت عن راَيي و قلت يجب ان يحكام محاكمة عادلة" وبعد سؤال عن الاوضاع الاخرى قال " والى الان اطلب معاملة عادلة للشعب الكردي , اتمنى ان ينال الكورد حقوقهم بعدل  " وعندما ذكرته ببعض الاسماء الكردية اللامعة في فضاء الابداع المصري مثل عباس محمود العقاد و غيره قال: قرأت لهم ولكن للاسف لا اذكر ان كنت اعرف انهم كورد ام لا , لكن كانوا مبدعين.

وعند سؤاله بين حين و اخر عن الاوضاع الراهنة, وخاصة عن مسائل  المتطرفين , ابن لادن و قاعدته الارهابية وكيف  كانوا مشكلة اليوم   , كان يظهر قلقه عن القضايا المصيرية التي تهدد البشرية . وكذلك رأيه عن هؤلاء كان بمثابة درس تاريخي اذكر من ذلك:

- يجب ان تفرقوا بين المتطرف والذي يستخدم القوة , لان الاول مفكر و الثاني مجرم


- ليس هناك فكر بلا تطرف , جميع الافكار فيها تطرف ,ولكن الذي يريد ان يثبت فكره  بقوة هذا ليس هو المتطرف , التطرف هو الفكر والكلام وجميع النظريات و الفلسفات ا فيها شيء من التطرف , واهلا بالمتطرفين ,ولكن عندما تريد ان تثبت رأيك بالسكين هذا اجرام وليس تطرفاً, في كل العالم نجد ان المتطرفين بنوا التاريخ , التاريخ الذي لم يستطع المعتدلون تحريكه ...مناقشات و اراء و اسئلة كثيرة اخرى في ذلك " المجلس المحفوظي " عرفني بتواضع ذلك الرمز الكبير و حبه لخير الانسان وتشبثي اكثر برواياته و قصصه التي كانت دوما بمثابة المشجع لحب الكتابة و خاصة كتابة القصة.

.فضلا عن تشجيعه لي على الاستمرار بكتابة القصص وما اقوم به للدفاع عن الحق الانساني و العدالة , وقد سأل عني
احد الجالسين وكان متيما بحب الكاتب و يخدمه طول الوقت بتكرار الاسئلة وقراءة الاخبار له بصوت عال, اظن كان اسمه " الحاج صبري " ان كنت جميلة ام لا , دفعني للعنة الزمن , الزمن الذي أوصل (محفوظا) الذي صنع الجمال , ان يخونه النظر بحيث يحتاج لمساعدة شخص لتشخيص الاشياء و قراءة الاخبار ,وان يخونه السمع ويحتاج الى مساعدة " الحاج" لسماع ما يقال حوله ,ان تخونه القوة بحيث لم يستطع مسك القلم الذي لم ينزل من بين اصابعه اكثر من 55 عاما  ويحتاج الى " الحاج " لكي يمسك قلمه و يكتب ما يقول لكي يولد عمل اخر فسلاما لك يا " حاج صبري " الذي كنت بمثابة السمع والبصر و اليد لمحفوظ , كنت بمثابةالقلم و الكتاب و الجريدة لشخص  افتخرت به جميع الاقلام و الجرائد و الكتب .

وانحني  لقناعتك يا نجيب محفوظ , يا من علمتنا حب القلم و التعبير عن الحقائق  والقناعة المزخرفة بالتفاؤل بالخير ," رغم كل ما يجري حولنا ,فانني ملتزم بالتفاؤل حتى النهاية ,لا اقول مع الفيلسوف " كانت " ان الخير سينتصر في العالم الاخر ,فانه يحرز نصرا كل يوم ,بل لعل الشر اضعف مما نتصور بكثير. وامامنا الدليل الذي لا يجحد .فلو لا النصر الغالب للخير لما تمكنت الشراذم من البشر الهائمة على وجهها عرضة للوحوش و الحشرات والكوارث الطبيعية و الاوبئة والخوف و الانانية . اقول لو لا النصر الغالب للخير لما استطاعت البشرية ان تنمو وتتكاثر وتكون امماً وتكتشف و تبدع وتخترع و تغزو الفضاء و تعلن حقوق الانسان ."1 "..ولانك عرفت   "أن الفلسفات قصور جميلة هائلة لكنها لا تصلح للسكنى ..2 "  لم تسكن في القصور لكي تسكن في قلب ووجدان البشرية جميعا .لان الساكن في القصور يمكن ان يخطفه الموت ولكن الذي يسكن بضمير و قلب الناس يبقى خالدا و يظل دوما في الذاكرة الحاضرة .


30-08-2006 كندا

 

1- مقطع من الكلمة التي ا لقاها الكاتب نجيب محفوظ اثناء تسلمه الجائزة نوبل في السويد عام 1988

 

2- مقطع من رواية "ثرثرة فوق النيل" / نجيب محفوظ / دار القلم - بيروت / الطبعة الأولى 1972                                

 

 
           

 

02/09/2015