العدالة أم الإنتقام في إعدام صدام !

       أحمد معين
 

                    

في فلسفة الإعدام

 

 أثارت عملية  إعدام الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين ، وكما كان متوقعاً في ظل الأوضاع الراهنة في العراق ، مزيداً من ردود الأفعال بين المرحب بشنقه والمعارض له . ولم يقتصر الأمر على ذلك بل أثار إعدامه وفي أوساط عديدة الجدل مجدداً حول مبدأ الإعدام كعقوبة لا تزال تطبق على نطاق واسع أو يعتبر ركناً أساسياً من المبدء القانوني أو في النصوص القانونية في دول عديدة في العالم .

  وحتى أشد المناصرين للإعدام لا يستطيعون الدفاع بصراحة عن تلك الممارسة البشعة لكونها وسيلة بالية بل وبربرية لإحقاق الحق وتحقيق العدالة.

 أما في الطرف الآخر فإن صفوف المناهضين للإعدام كعقوبة وإن كان بحق أعتى الطغاة ( وصدام أحد أكثر نماذج الطغيان في نصف القرن الماضي ) ، يتسع يوماً تلو الآخر بشكل بات يقض مضاجع المؤيدين لهذه العقوبة ويضطرهم لتغليف مناصرتهم لها بذرائع شتى.

 إن مناهضة الإعدام كوسيلة عقاب بشعة لا ينبع من قضية التمييز بين نوع الجريمة المقترفة ودوافعها وهل هي جريمة عادية تم إرتكابها بدافع ذاتي وشخصي أم هي جزء من عملية الإضطهاد السياسي تلجأ إليها الأنظمة الدكتاتورية والحكام الطغاة بوجه مناهضي سلطاتهم أو نهجهم السياسي .

إن الإعدام من وجهة نظر مناهضيها يعتبر وبحق جريمة بحق الإنسان كجنس نوعي وليس جريمة بحق فرد بذاته وإن كان ضحيته المباشرة أفراداً بذاتهم. كما إنها لا تخدم عملياً تعميم العدالة والقضاء على جذور الجريمة بل بعكس ذلك فإن الدول التي تأخذ بهذه العقوبة كنهج في قوانين العقوبات المتبعة أو تمارسها على نطاق واسع هي أكثر الأنظة التي يتفشى فيها الجرائم كالولايات المتحدة والصين والسعودية وإيران وباكستان وغيرها من دول العالم المتخلف حيث لم تحل ممارستها على نطاق واسع دون تفشي الجرائم  وتزايد معدلاتها . وليس هناك حاجة للتأكيد بأن ممارسة الإعدام كوسيلة للترهيب السياسي من قبل العديد من دول العالم المتخلف هي جزء من التركيبة السياسية الدكتاتورية لأنظمتها الحاكمة والتي لا تأبه بالعدالة بل تلجأ إلى الإعدام لتأبيد سلطتها والحفاظ على مصالح زمر سياسية ومالية وحزبية ليس إلا.

 كما إن جذور الجريمة ( والسياسية منها طبعاً ) ليست متأصلة في نفوس وبواطن الأفراد لكي يتم القضاء عليها بإبادة أولئك وأن كانت الجريمة يتم ممارستها وتنفيذها في المحصلة النهائية من قبل أشخاص معينين ومحددين بلحمهم ودمهم . فلا يلد الإنسان مجرماً وليس هو مشروعاً للجريمة منذ ولادته أو صغره بل إن منشأ الجريمة هو المجتمع بكل تناقضاته وما يتأسس عليه من بنية إجتماعية ، سياسية ، إقتصادية وثقافية مركبة تؤسس لأسباب الجريمة ودوافعها وأشكالها .    

 كما يعتبر الإعدام وسيلة ليس لإقصاء الإنسان من منزلته في المجتمع أو سلب حريته وسجنه كعقوبة ليتعلم عدم التجاوز على حقوق الآخرين وعلى الحق العام المتعارف والمتفق عليه بل وسيلة لإقصائه من الوجود بصورة نهائية والقضاء عليه تماماً.

 

صدام : هل كان مجرماً بطبعه أم بفكره ؟

 

 لم يكن صدام مجرماً بطبعه السيكولوجي كما لم يكن كذلك بالتأكيد عند ولادته كما يحلو للكثيرين التأكيد على ذلك كما نطالعها في الكم الغث من الكتابات والمقالات التي تناوات سيرته الذاتية .

 لقد أنجذب صدام عندما كان فتىً يافعاً لثقافة سياسية تمثل حركة سياسية ذو أهداف محددة . ولم ينتم صدام لتلك الحركة وحزبها السياسي ، وأعني البعث ، عندما كان في السلطة بل إنتمى إليه وهو حزب سري معارض يعمل في ظل ظروف سياسية قاسية . وجلي هنا بأن إنتماء أي ما إلى حزب سياسي سري معين وفي دولة كالعراق آنذاك يأتي في سياق خاص حيث تشرب صدام قبل إنتماءه بالفكر القومي العربي بصيغته المقاتلة التي كانت تلغي كل ما عداه وتضفي ضمن طقوس ايديولوجية ذو سحر وفتنة متميزين نوعاً من الأبوية والتقديس على أهدافه .

 وهكذا وقبل إنضمام صدام إلى البعث بل وفي سياق عملية الإعداد لولوج سبيل الحزب وكشرط ضمني لذلك ، تربى في دهاليز الفكر القومي العروبي بنسختها البعثية . إلا إن صداماً وكرمز لقطاع واسع من كوادر البعث لم يسلك مسالك الفكر والتنقيب والبحث النظري ( برغم ضحالة فكر البعث ورجعيته ) جسراً للوصول إلى ضفة البعث بل إفتتن بالبعث كقوة صدامية تؤله القوة والجبروت والعظمة والصدام الدائم والقضاء على كل من وما يمنع صعوده .

 وقد تماثل صدام مع البعث أيضاً في سمات أخرى كتأليه القوة وسحق الخصوم فيزيكياً والإيمان بالدور الحاسم للفرد ضمن الحزب والإستعلاء على الجماهير وخطف دورها لحساب دور الحزب وأعضاءه كمحرك التاريخ وقابلتها خلافاً للأحزاب الشعبية التي تسعى في عملها لدمج الفرد وطاقاته في بحر قاعدته الشعبية .

 لقد تجلى التقاليد السياسية والحزبية التي تميز بها البعث من بين سائر القوى السياسية العراقية في الخمسينات والستينات في صدام بصورة نموذجية أكثر من سائر عناصرها وقياداتها في تلك المرحلة . لذا نرى صعود نجم الفتى البعثي الذي لم يمر سوى أعوام على ملأ بطاقته الحزبية بصورة صاروخية وكأن القدر البعثي يبحث عن قائد مثالي تتماثل سماته مع الحزب ويذوب في مدرسته قبل أن يبدأ هو بإعادة صوغ الحزب تالياً في بداية السبيعينيات من القرن الماضي على شاكلة شخصيته تماماً كي يؤهلها لمواجهة التحديات الجديدة ويزول اي جدار بين شخص القائد وسمات الحزب ويذوب الحزب تماماً في القائد عند نهاية تلك الحقبة.

 إلا إن فهم تلك السمات لا يكفي فقط لفهم شخصية صدام والتماثل الجوهري بينه وبين البعث . فالبعث كحزب عروبي قومي كان له نظرية خاصة به . وافضل من صاغ نظرية البعث هو ميشيل عفلق حيث كان يؤكد في كتاباته التي صار بحق البنية الفكرية الصلبة للحزب على جملة من المقومات الفكرية والعقائدية .

 فككل حزب عقائدي صارم أكد البعث على المنعة التامة لأفكاره وقدسيتها وليس صوابها الكامل فقط بل وخلودها وسرمديتها. كما تتمتع ( الأمة ، وهي بالمناسبة لفظة محببة لدى النازيين والفاشيين القدماء منهم والمحدثين بدلاً عن الشعب ) بطقسها الأبدي ومداها الشوفيني بمكانة جوهرية لدى البعث .

 هكذا ولد البعث ليترجم ضرورة إنبعاث الأمة العربية وتفوقها على غيرها من الأمم والشعوب مستلهمة في ذلك التراث المديد لأقحاح العرب منذ فجر التاريخ وخاصة المجد العربي الغابر حين رفع رايتها ( محمد العربي ) ، كما كان يؤكد ميشيل عفلق دائماً في إشارته لدور نبي المسلمين مشدداً على الجانب القومي في دوره . كما كان البعث يشدد وبصورة غليظة على دور القائد المرتجى والمنشود ليعيد للعرب امجادهم التليدة ويرسم صورة جذابة ورومانسية للأمة في ظل إنقسام دولها وعجز تياراتها الأخرى عن تحقيق الحلم التاريخي الذي لا بد من البعث كقابلة لولادتها الجديدة .

 كان هذا الفكر الأجوف والمغرق في عدائه للتقدم التاريخي والرؤية العلمية وبنائه على منهج ذاتي بحت وقراءة تراثية رجعية وطوباوية لأمجاد تليدة مندثرة ، وإن تلبست في مرحلة عنفوان الحركة اليسارية العربية مرغمة بلبوس ( إشتراكي ) من طراز خاص ظاهرياً ومناقض لكل ما هو إشتراكي في المضمون ، فكر عقيم لم يبن على منطق العصر لذا كان من العسير تحولها بقوة الإقناع إلى قوة شعبية جذابة تلتف حولها الجماهير للبحث من خلالها عن خلاصها .

 هكذا إذن بقي البعث وحتى بعد إستيلائه على السلطة في 1968 وبعدها بسنين قوة فاقدة للوزن الشعبي في العراق بل كان العراقيين ينظرون إليه بشعور ممزوج من الرهبة والخشية والريبة والترقب . وكمثلها من تلك الأحزاب ذي الطبع الفاشي كانت الديماغوجية واللعب على ذقون الشعب ورفع الشعارات الجذابة والبراقة ولكن الخالية من كل محتوى عملي كالنسخة البرجوازية العالمثالثية من ( مواجهة الإستعمار والإمبريالية ) و ( قطع دابر الأجنبي ) و ( صيانة الإستقلال الوطني ) و ( الحفاظ على سيادة الوطن ) و ( السيطرة على الثروات الوطنية ) تلك الشعارات التي لم تقدر الأحزاب الشيوعية العربية ولأسباب عديدة من ربطها في نسق متكامل مع البرنامج الثوري الإشتراكي للحركة الجماهيرية لذا تركتها لخطفها لأحزاب على الطراز البعثي لتمنحها بعداً رجعياً مغايراً لمضمونها الفعلي ، فقد كان البعث ولضيق مقدرتها جماهيرياً بل ووجلها وفزعها من كل تحرك شعبي  تبحث وبإلحاح عن تحقيق تلك النسخة البعثية من تلك المثل عن طريق الغدر السياسي والتآمر والإلتفاف على المؤتلفين معه وكسر رقابهم ولجم كل تحرك شعبي يخرج عن إطار سياساتهم . وقد سبق تبوأ البعث للسلطة في 1963 مع عبدالسلام عارف العديد من صفحات الغدر مع من حالفهم و عمليات عديدة من الترهيب والإغتيال والإلتفاف وجر البساط من تحت أقدام أقرب المتعاونين معهم . ولم يحل كل المواثيق الحزبية الداخلية وتلاوة القسم الحزبي بالإخلاص المزعوم بين أعضاء الحزب والحفاظ على اللحمة ( الرفاقية ) وغيرها من الأسس المزينة لنظامهم الداخلي حائلاً دون التصفيات الجسدية المتتالية والتي كان صدام بطلاً لأكثر مشاهدها الدموية حتى في مرحلة العمل السري للبعث وبوجه كوادر حزبه في اغلب الأحيان .

 إذاً لم يكن صدام بغدره ب ( الرفاق ) وعنجهيته وصداميته وفطامه على التآمر والمكر والقضاء على الآخر عندما يبدو لديه أدنى شك في علو طموحاته وغيرها من المزايا إلا نتاجاً بعثياً بإمتياز وخريجاً للمدرسة البعثية بتفوق قل نظيره بين قياداته في شتى مراحل حياة ذلك الحزب الذي بني منذ يومه الأول على امجاد كل ما في جعبة القومية الفاشية العربية من نزعات .

 لقد عجن البعث صداماً أو صدامه وأذابه في كيانه مثلما ترجم صدام المثل البعثية بأعلى تجلياتها .

 وهكذا وجد صدام ضالته المنشودة في البعث في تناغم وتناسق قل نظيره كما وجد البعث وبعد مخاض طويل وعسير في صدام من يحافظ على عقيدته ويسمو بها ، من خلال إمتلاك ناصية الدولة وإقتصاديات البترودولار وأجهزته السرية والعلنية ، إلى اعلى مراتب التجلي .

 وعودا على بدء لا بد من التأكيد بأن البحث عن مكامن الإجرام لدى صدام ونوازعه الشريرة من خلال البحث في مراحل طفولته وفتوته أو نسب تلك النزعات ألى روحه البدوية أو القروية هو بحث في فراغ وقبض للريح .

 إنه كالبحث عن النتيجة وغض الطرف عن السبب . 

 إلا إن ذلك لن يؤول في عالم الواقع ومهما حسنت نوايا أصحابها إلا إلى نتيجة واحدة لكنها خطيرة جداً : البحث عن تاريخ الحقبة الدموية للعراق  ودماره ومقابره الجماعية وتشظي نسيجه الاجتماعي وثلاثة عقود من الدكتاتورية الدموية وتركات ثقيلة نئن تحتها لعقود قادمة كالأنفال وحملات الآبادة المقصودة بحق الشعب الكردي والإفقار الجماعي والحروب الإقليمية والإعدامات الجماعية وحملات تنظيف السجون والحملات الإيمانية التي نرى جزءً من قطافها الآن وغيرها وغيرها التي غرست في ذاكرتنا الجمعية وأفرزت العشرات من النزعات التي تحصد في شوارع وأزقة العراق حياة المئات يومياً الآن ، ونختزلها في شخص صدام وكفى .

 ليست الدبلجة الحالية لطي ملف البعث وإختزال الهول البعثي الذي إمتد لأكثر من ثلاثة عقود وإختزال كل الحقبة البعثية بمراراتها والأهم من كل ذلك بتداعياتها التي لن تنتهي وخاصة في ظل خليفته الإسلامية التي تحكم العراق كمزرعة ميليشياوية تنخرها المجازر الطائفية والمذهبية في ظل الإنتداب الأمريكي ، وإختزال كل تلك الحقبة ودمارها في شخص صدام وقلة قليلة من زبانيته ( رغماً عن دورهم الأول في كل ما جرى كأفراد )  إلا محاولة خطيرة ونية مبيتة لغسل دماغ جماعي لشعب لم يتح له حتى الآن لفهم مدلولات وأسباب ودوافع وتداعيات ماجرى له من أهوال مذهلة في حقبة مهمة من تاريخه المدونة بالدم والعنف والقهر والإستغلال والحروب والإبادات الجماعية والإعدامات والغازات السامة. والهدف من ذلك واضح وجلي لكل ذي بصر وبصيرة : سلب إرادة الشعب العراقي لحقبة أخرى وإقامة نظام وسلطة سياسية دينية وظلامية ونهب ثرواتهم وإبقائهم في دوامة التخلف وفي أسر المذهب والطائفة وكل ما نشاهده من مشاهد القتل والترويع يومياً في شوارع وأزقة بغداد كمثال حي للديمقراطية التي يتغني بها سدنة البيت الأبيض ليل نهار . إنه مشروع رجعي أخر سيكون وبالاً على شعب جريح ومكلم إن كتب له النجاح التام .

 إن الديكتاتورية والهمجية البعثية التي مثلها صدام وذكاها كثقافة ونهج لا زالت خالدة بكل عنفوانها وتداعياتها الخطيرة ولكنها في مدى أرحب بكثير ويمثلها برعونتها وإستهتارها بكل القيم الإنسانية وبسائر التطلعات المشروعة للملايين من العراقيين ، طيف واسع من الأحزاب والقوى السياسية في العراق نالوا أكثرهم لسخرية القدر حصصهم الكبيرة من الغدر البعثي . ويتمثل تلك الثقافة في نهج وممارسات العشرات من الأحزاب الدينية والطائفية التي أفرخها المشروع الأمريكي ومنحها القدرة على الإستمرار بتلك المهمة القذرة التي مارسها البعث لأكثر من ثلاثة عقود .

 إن التناقض الشكلي في الفكر والعقيدة وفي مجال الأساليب والسياسات المتبعة بين السلف البعثي والخلف الإسلامي في العراق لا ينفي التماثل الجوهري بين الإثنين إن كان منطلقنا في المقارنة واساس حكمنا على الحقبتين هو ما يرنو إليه الشعب العراقي من حياة حرة كريمة آمنة ومستقرة . فالأخيرة غائبة في كلا الحقبتين . فإن كان السلف البعثي يجز الرقاب بسيف الأمة فالخلف الإسلامي يجزها بسيف المذهب والطائفة والديانة ولا يهم الضحية بأي شرع يذبحون .

 

إعدام الحقبة البعثية أم ثأر مذهبي ؟

 

 وهكذا وفي ظل طقس مذهبي وتهاليل دينية إنتهى حياة الطاغية .

 فالمشهد الذي تسرب خلسة من بين أيدي منفذي الإعدام بحق صدام حسين يؤسس ويشرعن لبناء منظومة قهرية جديدة لا تختلف في ماهيتها عما إلفناه طوال 35 عاماً من عمر النظام الدموي البائد .

 لقد ظن العراقيين خطأً بأن عهد حفلات الإعدامات ستنتهي في ظل الحقبة الجديدة لذا تمادوا وكل حسب ما يجول في خاطره في التعبير عما يرنو إليه . إلا إن الطريقة المذلة والبربرية التي يراد أن يتأسس عليها العدالة الأمريكية _ الإسلامية الجديدة في العراق والتي تجسدت خير تجسيد في أسلوب إعدام الطاغية تبعث برسالة واضحة وجلية .

 إن كل ما زعم من قبل الأمريكيين وحلفائهم في السلطة القائمة في العراق بشأن العدالة الغائبة في الحقبة البعثية وضرورة بعثها وبأن المحاكمة والإعدام ليست هدفها سوى تحقيق الحق ، تبخرت تماماً في غضون دقائق في المشهد الدرامي لعملية الإعدام بالطريقة الشرعية والمذهبية التي جرى عشية رأس السنة .

 كانت المصادر الرسمية الأمريكية والعراقية وبعد دقائق قليلة من تنفيذ حكم الإعدام يؤكدان وبصورة مستميتة ، لأجل كسب المصداقية التي يفتقدونها ، بأن العملية تمت وفق قواعد القانون وطبقاً لتقاليد وأسس إنسانية سامية . وزعم موفق الربيعي بأن ثلاثة أشخاص رسميين حضروا مراسيم العملية . ولكن لم تمر ساعة إلا وبان بأن العملية تمت على الصورة التي كان ينفذ بها أبو مصعب الزقاوي عمليات جز رقاب ضحاياه . كان المشهد أبعد ما تكون عن عملية تتم في ظل دولة وقانون ومؤسسات معاصرة ولا أقول عصرية بل كان ميليشياوياً بإمتياز .

 رحال ملثمون والضحية مكشوف الرأس والوجه ، هتافات ودعوات للإنتقام ، التهليل والتكبير الديني بدلاً عن تلاوة منطوق الحكم ، جلبة الحاضرين في مؤخرة المسرح وهم حشد كبير ولم يكونوا ثلاثة كما زعم ، دعوات وتلاوات دينية لا تمت للقانون وإجراءات العملية بصلة ، وصياح وهلاهل ، وسيل من الإهانات للضحية التي لا تليق بأحد كان ، وغيرها من فصول المشهد الدرامي التي بينت تباشير النظام والعدالة والقضاء التي يتم التأسيس لها في العراق .

 كان المشهد شبيهاً بصورة تامة للحسينيات التي تجري فيها يومياً مراسيم الحكم الشرعي وينزل فيها الحكم الإلهي وفق مشيئة مقتدى الصدر وزلمه على المخطوفين . ولم يغب عن المسرحية مشاهد التباري المذهبي والميليشياوي بين اتباع جيش المهدي ومنظمة بدر كتوابل لابد منها كمسك الختام للعدالة الجديدة في العراق. فبينما أراد جند المهدي المنتظرالمحتشدين في صالة المسرح- الإعدام إضفاء طابعهم الإنتقامي والميليشياوي المميز على المشاهد الأخيرة للتأكيد على قيامهم بإخراجها ووضعهم اللمسات النهائية عليها وبعث رسالة لكل من يجرأ لمناهضتهم بالصراخ : مقتدى ، مقتدى ، لم يتأخر أتباع بدر عن الرد بالمثل : عاش محمد باقر الصدر !! ليظهروا للعالم أجمع بأنهم ليسوا أقصر باعاً وهوىً ودوراً فيما جرى في الصالة .

 هكذا طغى هوس القتل والإنتقام على ظمأ العراقيين لمعرفة جذور حقبة مهمة من تاريخهم وأسدل الستار على مسرحية فاشلة .

 لقد طوت بهذه العملية صفحة سوداء في تاريخ بلد مثقل بالجروح وبثور الموت والفزع والقتل والدمار والمقابر الجماعية  والإبادة البشرية التي مثلها صدام وربعه حينها بإمتياز لتفتح صفحة لا تقل عنها ظلاماً وبؤساً وخراباً .

 بلاد ينعق فيها بوم القتل ويصول فيها آلهة الموت مرة بإسم الأمة العربية وثانية بإسم المذهب ولكنهما سيان في التداعيات والنتائج لحين نصل أو وصلنا فعلاً ، كما يظن الكثيرين ، لساعة نترحم فيها على ماض تعيس إزاء قادم أتعس .

 

                                                                                 كانون الثاني 2007    

             

     

           

 

04/07/2007

 

goran@dengekan.com

 

dangakan@yahoo.ca