حكيم نديم الداوودي  
  ناقد وشاعر وفنان تشكيلي من العراق

 

  

القاص حمودي عبد محسن في تنبؤات كاسندرا                 

يقترب من متاهات التاريخ ليكشف ظنون غائية الوجود            

نبدأ سبر أغوار عالم القاص حمودي عبد محسن من خلال مجموعته القصصية الجديدة تنبؤات كاسندرا بمتعة الدهشة والتأمل بمقولة سونيكا أن مهمة الأدب – ليست إثارة الغبار بل مهمته أطلاق الوعي، وتلك المقولة لم تكن مقولة مجانية بل طرحت كفكرة لتحرير الوعي الأنساني، هذا الأمر الذي يحدث عبر فعل الكتابة ذلك الفعل الذي يتجاوز صخب الكلمات الى عمق الدلالات- والتي أستشهد بها يسرى عبدالله عند محاولة البلوغ وبطريقة محزنة من عالم محمد صلاح القصصي. فصاحب تنبؤات كاسندرا عبر أيضاً من خلال مجموعته الجديدة عن سر تعلقه لجلجامش عبر ملحمته المسكونة بالرعب وأقتحام الصعاب من أجل نبتة الخلود. هذا الهاجس الذي كان وما يزال يرواد مخيلة كل كائن حي، وهو لسان حال كل من يتحرر من ظلمة الرحم لحين بلوغة حافة الرمق الأخير فيظل ينازع الرحيل كي ينهي عناقه مع الحياة. وبدءا من قصة الثور السماوي وانتهاءاً بقصة كابوس الموت يتراوح حمودي في تنقلاته من أجل فهم  أعمق فلسفة الوجود، ولماذا يكون قهر الأنسان حتمية بالموت الآني، ويعجز أمامه العقل وتصمت الأدلة العملية وكل التبريرات الأخرى وهو يرنو بسكون لكل الأجهزة المستنفرة من أجل القلب وكيف تتباطئ ويتأمل  لحظته لتعب جلجامش وصراعه مع الزمن وهو في الحقيقة يجهل نفسه من أين جاء وأين سوف يأخذه القدر. في قصة الثور السماوي وبخطفة موحية الدلالة نحو بعض الأسرار والوله ينقلنا  القاص حمودي وعبر نبضات التوتر الشديد-فجأة أكتشفت أمام ناظري مشهداً خالداً ، تلقيته من خبرتي في قراءة ملحمة جلجامش ، ليس كمتفرح لإستعراض أو أحتفال طقوس، بل مشارك على نحو فعال، أحتفظت به في ذاكرتي دون أرادتي، كأنه شيئاَ لأفهمه، أو يطالبني أن أفهمه كي أنتمي الى شيء من الماضي – زمان أوروك- بالطبع تطلب مني ذلك نشاطاً عقلياً، لأنه في مواجهتي مباشرة، ولأكون أكثر إشراقاً في مشاركتي له، ومرتبطاً وثيقاً به، ليعطيني مساحة حرة أملأها بنفسي- الثور السماوي ، جسمٌ ولحمٌ ودمٌ وفروةٌ سوداء، له أعضاءٌ من أطراف، ورأسٌ فهو كالثور له لسن ، وعينان ، وأذنان، وقرنان، وذيل، وله جسمٌ لا كأجسام الثيران، ولحمٌ لا كلحم الثيران، ودمٌ لا كدّم الثيران، وكذلك كبر قرنية ووزنه وضخامته فهو فريد يستعرض – تراجيديا السّماء-  ويؤكد حمودي في منتصف حدث الثور السماوي، بأنه رمز للجفاف وأنحباس الماء ورمز القوة أو الخصب وعلاقته بالألوهية المؤنثة، فتبدت منه الأم الكبرى وهو صفة ملازمة على الأرض للاله دموزي- تموز كما ورد في مناحة عشتار – اليك يا ثوري البري الذي في القفر، ويا حلمي الذي في القفر ،أتوجه بصلاتي-.                                                                                  

 

ينهي القاص موضوع ذلك الثور السماوي بعودة جلجلمش مع صديقه أنكيدو الى أوروك من غابة الأرز بعد قتلهما لخمبابا حارس الغابة، وأوروك تلك المدينة السومرية ووفق تحليل د. شاكر الحاج مخلف شهدت ولادة عدة أساطير وملاحم ومن بينها ملحمة جلجامش التي عثر على ألواحها مطمورة تحت أنقاض قصر الملك الآشوري " أشور بنيبال " بعد تدميره اثر الهجوم الكاسح الذي تعرض له على أيدي الكلدانيين وذلك في العام 612 ق . م، فحاولت الالهة عشتار من طرفها أن تغوي جلجامس ولم تفلح من إقناع جلجامس بالعودة اليها لتقريع جلجامس لها بتعدد خيانتها له. فيشير د. شاكر في بحثه رؤية جديدة للأسطورة السومرية الى رد فعل الالهة عشتار بأطلاقها للثور السماوي في مدينة أوروك  ليُسّبب فيها كل تلك الكوارث والفساد وبعد تمكن أنكيدو وجلجامس من صرع الثور السماوي وتقديم قلبه كهدية للالهة شمس ومن ثم إنتظارهما لقرار مجمع الموت بإختيار أحد منهما وبعد سيطرة الحزن على أنكيدو على مآل الموت المحتم وإلتماس جلجامش من أوتنابشتم رمز الخلود كي يُعينه على العثور على سِر عشبة الخلود. على مدار قصة الثور السماوي تلك ومن خلال حيوية عقدة القص نجد أنفعال الراوي من هول الفاجعة ومنهياً معه تلك التراجيدية بأن – مقتل الثور السماوي لم يكن متعة أوبهجة لذاته بل ترابط موفق بين الواقع المُر الذي يعيشه البشر وهو يُقتل نفسياً وفقراً لآلاف المرات دون إنتباه من رعاة الثيران في السياسة وما يسمونه بضمان الأغلبية وبين صدمة جلجاش الأسطوري لموت أنكيدوا في مدينة أوروك السومريةالخالدة.                                                     

 

 

 

                                                                                    

 

 

في ظل مومياء توت عنخ آمون حناجر الموتى تهتف عاش فرعون وعاشت مصر الجديدة    

 

 

 

تحت سريدية الحدث الذي أرخ لعنخ امون نكون وعبر صفحاتها الخمس لقصة عملاق مصرعنخ توت آمون، وكأنما هي للوهلة الأولى نكون في مواجهة تابوت آمون الذهبي. حمودي في قصته تلك ينزل لقاع الحدث البعيد والى بدايات عام 1332 ق. م. وهذه المرة نجده من موقع المؤرخ الحصيف المحايد وعبر أدوات تعبيره القصصي وكأنه يريد أن يدّون وعلى لسانهم واقعة عرش ذلك الحُكم المفضي الى النَسْيان وطبيعة تلك الحياة الموغلة بالترف و الأنبهار بعيدا عن مرارة الهزائم والأرتداد. ينقل حمودي وعلى لسان آمون: بقي واجماً في تابوته ساهياً يكتم قلقه وهو ينظر الى اللوحات الجدارية مشهد أمامي فرعوني الاله رع رمز الشمس في شروقها وغروبها مصدر النور والحياة أشباح رائعة مخيفة يغتسل توت عنخ آمون بنور الشمس، تقع عيناه الى أجمل صور للاله رع ، فتأخذه الدهشة، والدهشة تنحدر الى رهبة، يا للعجب يهبط توت عنخ آمون على ركبتيه في تابوته ، ويغطي عينيه بيديه ويحني هامته، ويتمتم – يارع، ياوارث الأبدية ، يارب المجد، كل شيء يحيا بشعاعك، ياررمز محسوس لاله غير محسوس، خالق البدايات والنهايات، إله المصريين، لك أنحني، الشمس رمز رع-. وبتحولات تاريخية لعهد توت عنخ آمون من زواجه وهو يسترجع الذاكرة رغم مصرعه على يد وزيره خير خيروا من خلال تلقية ضربة قاتلة من قاتله من الراس بعد حكمة عشر سنوات.والقاص هنا يبدو كقارئ نهم لتاريخ مصر القديم وشغفه الممتع لدراسة ملوك مصر القدماء، وينقلنا في سياق نفس القصة الى سماع معاناة أرملة توت عنخ آمون بأنها لا ترضى  أبداً أن تكون في عصمة  قاتل زوجها خيرخيروا وهي سيدة مصر الأولى، وكيف تطلب من ملك الحيثيين أن تكون زوجة أحد أبناء الملك وتفشل في مسعاها بعد إفشال ذلك الزواج بإغتيال إبن ملك الحثيين من قبل خيرخيرورع اي. أنها مقارنة جد لطيفة وموفقة ،بأن مرض العرش وأبتلاء المهوّسين الحكم بأسم الشعب والمظلومين هو ليس له دواء قوي  وشافي وليس له حلّ ٌ سلمي إذا لم يُراق دماء عبّاد الكراسي وهم قابضين على حافاتها لا يبرحونها حتى ولو كانوا أوصالاً مقطّعة، وفي أضعف الإيمان ربما يوصون بأنتقال الكرسي لأبنائهم بعدما ينخرهم سوس الشيخوخة وسط هتاف وتصفيق المتملقين حولهم مع ذهول البسطاء المحّدقين لهم خلف أسوار قصوره العالية. رجعنا حمودي  في مقاربته لعهد ملك توت عنخ أمون وصّور بدقة بين زمنين زمن ربقة الماضي البعيد قبل عام 1331 وتحديدا في تل العمارنة والتي حدثت فيه ثورة عارمة وزمن يشبه الحاضر وبذلك يشير القاص  الى حتمية التاريخ في قوله على لسان أبطاله : لأن التاريخ يروي من يحسن أستخدام الشعب بفهم مشترك سيفوز بالعرش ، هذه الفكرة تعلمها من تراث القدماء – وفي أشارة موحية أخرى منه وهو يحاول أن يختم قصته ولكن بكلمات نهائية على لسان توت عنخ آمون هو أنبهار أيضا لكل مصري في التاريخ الحديث عندما يردد مع نفسه: سأخرج، وأعلن أنني قمتُ من الموت في يوم أنبعاث، وهذه معجزة! سأجعل أهل مصر يصدقونني، فأنا بدمي ولحمي وكامل جسدي توت عنخ أمون، سأظهر لمصر الخالدة ، وسيكون هذا اليوم من كل عام قادم يوم يحتفل فيه الشعب.وستتيح له الإعلان عن الحقيقة، أن العرش أُغتصب منه بمؤامرة وأنه أحقّ به في هذا العصر ليعيد جبروت مصر من جديد. وماأشبه اليوم بالبارحة، الفراعنة كانوا تواقون للسلطة والوصول الى العرش. وربما يأتي من بين رفات أولئك الفراعنة ومن أنقاض الأهرام وجوهٌ متتآلفة مع معاناة الشعب وربما يشعرون قليلاً بألم الفقر بعيداً عن كل القوالب والزخارف اللفظية والخطب الرنانة التي لا تجلب للبطون الخاوية الكادحة الى عيالهم ليل نهارغير البؤس والفساد. مع ملاحظة لإشارات القاص التي لم تتجاوز في رقعتها التاريخية المستور، بل يمكن أن يطلق عليها الأستباط في ضوء اقتناص لتلك الوقائع التاريخية ولبعض الرموز الثمينة القابعة في بطون المتاحف والتي لم تستثمر تلك الموياءات الناطقة لمرويات الزمن كدروسٍ للعِظة والعِبر أكثر منها كمشاريع للسّياحة، والأهم من كل ذلك أشباع فضول الأجانب.                                                                          

 

 

 

 

 

من برج بابل الشاهق وعلى رفرفة حمامة نوح لقصر الخورنق                           

 قبالة جدنا الأول ولغز نهوض طائر العنقاء من الرماد                            

 

 

 

هذه عناوين لبعض قصص المجموعة التي نحن بصدد الدخول الى عوالمها المسكونة بالتراث والموغلة بالقداسة إرثاً في بعض عناوينها، مثل نشأة الخليقة وظهور خليفة الخالق على الأرض. وقصة أعادة التكوين للمخلوقات الحّية بعد الطوفان العظيم الذي كان أقل موج من أمواجه بقامة الطّود الشامخ  لحظة قدوم الأسطوري. في قصة حمامة نوح تتجلى مأساة البشرية والكائنات الحية الأخرى في تدرج تضيق الصّدورفي تراجيديتها كيف تكونت الحياة ثانية وعلى ظهر سفينة نوح بعد استقرارها في جبل الجودّي. ومن خلال قراءتنا لمجموعة القاص خلصنا الى مشاهدات تتستحق الرصد وتستوجب منّا الوقوف على بعض منها والاحتكام الى الأخذ ببعض النظريات النقدية التي أكدت على أهمية رجوع القاص المتمكن لأدواته حتماً الى التاريخ الماضي والى توظيف الحكايات القديمة مع أستنطاق الرموز الموروثة وفي نطاق حوار عصري  متلائم مع الواقع والنقل أو التحدث بلسان المَرويّ عبر تراتيب تاريخية ليس من أجل نقل حرفية الحدث العابر. نندهش في مجموعة حمودي معاً ونسأل ماذا عن  برج بابل، وماذا يقصد القاص في الأشارة اليه إذا لم يكن توظيفه توظيفا يبنى عليه من جانب الوقوف على بيان مكامن الخلل أو التأكيد على وجود جوانب جمالية يمكن الأستفادة من معماريته الفذة. نجد في قصص حمودي وفي أكثريتها نماذج مكتلمة لعناصر الدورة القصصية من حيث التوازن وعملية التغيير وفي محتواها تشعر بحركة دينامية وأنت تتفاعل مع أحداثها ولا تنقطع مع الوصف، وتتآلف مع وتيرة الراوي ويكون في أغلبها بصيغة الفعل الماضي. ومن خلال ذلك الزمن اللغوي تلتقط الخيط وأنت تمشي في نفق مضيء بالأحداث. ويشير الناقد الكبير د. صلاح بصدد نماذج الدورة القصصية فصل مستقل وفي مبحثه من صرف القصة ونحوها. يكون نموذج الدورة القصصية مكونا من خمسة مواقف : التوازن عملية التغيير- انعدام التوازن- عملية اعادتع- التوازن الجديد – الاّ ان هذه الدورة قد تنقطع في احدى هذه النقاط وتعد حينئذ مكتملة- وينقلنا الى نوعين من اجزاء القول في القصة النوع الذي يصف حالة ما من توازن او عدمه والنوع الذي يصف عملية الانتقال من حالة الى اخرى، يقول بان النوع الآول اذا كان ثابتا وقابلا للتكرار فان النوع الثاني متحرك ديناميكي لا يحدث الاّ مرة واحدة-. هنا وفي أغلب قصص القاص حمودي نلاحظ أنها لا تبارح في شكلها العام صيغة زمن الماضي وتخضع في بناءها للعناصر المكونة والمعبّرة للزمن السحيق. نعود الى الناقد صلاح فضل والى بحثه حول مظاهر القصة وأحوالها أستئناساً لقراءتنا بأن مظاهر القصة وعلى لسان النقاد البنائيون – ويطلق النقاد البنائيون تسمية مظاهر القصة على أنواع التلقي والتصور المختلفة مما يتصل بعلاقة الراوي بشخصياته التي قد تتخذ واحدا من أشكال ثلاثة ينبغي تحليلها وهي الراوي الشخصية أو الرؤية المجاوزة-  والحبكة في متون تلك الكم من القصص توحي بان الراوي لديه قابلية في استعراض الشخوص ويدعهم  على سجيتهم وكأنه يطل على مشاهد حياتهم ، يعطينا تصوراً كاملاً عن أحداث موغلة في القدم  مع العودة الى مورث العراق القديم وتحرير أرواح من رحلوا قبل الميلاد بقرون عديدة. هو في برج بابل يشهد مع -نمرود الصياد الجبار الذكي ويقف عند المذبح وهو من نسل نوح الذي كتب لهذا النسل النجاة من الطوفان الذي قضى على جميع البشر البرج الذي وصل ارتفاعه الى 300 قدم، والذي ابهر اليهود بعد الأسر، والذي قدر عددهم أربعين ألف أسير، جيء بهم مسبيينَ الى بابل من أورشليم جيء بهم من مجتمع الأكواخ الى مجتمع حضاري- ينقل لنا سر العلاقة الروحية بين نمرود وتمثال مردوخ سيد الالهة  والذي يأخذ بلباب نمرود هو تأمله من البرج وهو يحدق على عالم دنيوي في جماله، تنتشر الألوان فتفي روعتها على بابل. ويبقى هو مشدوها لروعة جمال تلك الجنائن المعلقة الأسطورية الثرية بالزهور البراقة الناعمة – والقاص في قصته برج بابل يقرأ النهاية بالشجن العراقي المألوف – نمرود لازال يسبح للاله مردوخ في آخر معبد قد علق بالسماء ، وقال: لم يستجب مردوخ لطلبي، وراح يبتهج مع الشعب في عيد الربيع ناسيا توحيد لغات بابل.أما في قصة حمامة نوح فنجد حمودي في التوصيف على مشارف الأبداع ومن خلال رسمه العالي الملامح لوحة سفينة النوح وبطوابقها المتعددة المكتظة بأزواج من الحيوانات الأليفة ومناظرالوحوش الكاسرة التمحملقة بذهول شديد ومن خلف الأقفاص المُحكمة دون تجاوز لضوابط الوجود. رسم لنا حمودي بكل رقة صورة توضيحية لنوح المعّمر وهو في لحظة قلقه على مصير الكائنات الحّية بعد زحزحة السفينة فوق الأمواج المتلاطمة التي طالت شواهق الجبال. صوّر لنا ذلك المشهد القلق، مشهد إقتراب سيدنا نوح من أقفاص طيوره الأليفة، الى هنا أدع القاص لينقل لنا ذلك المشهد الجميل والمؤثر- قام بعدة خطوات ثم تأمل الطيور التي كانت تغمض عيونها ثم تفتحها، وتحرم أجفانها بنظرات طويلة تلتقي نظرات نوح المتماسكة المتوازية أشبه بخطوط مستقيمة لا تحيد عنها، أقترب من قفص الحمام الذي كان يسجع سجعا حزينا، ينوح ويهدر ويترنم( أين؟أين؟أين؟أين؟) ويندب عزلته ، فوقع بصره على الحمامة المطوقة باللون الرمادي وهي تصفق بجناحيها، أستغرب نوح كأنها تقرأ أعماقه وخالجته لحظة تلقائية أن يجرب مقاومتها ورغبتها وراح يفكر بعمق في الأنطباع الناتج من تأثير الحرية على الحمامة.وينتهي الى مشهد التطبيق وينقل على لسان نوح  بان الحمامة ذات طابع ودود ترفرف في الأعالي وترى عن بعد وبغبطة فتح نوح باب القفص ومد ذراعه الى داخله فحطت الحمامة على يده مرفرفة ومشى بها الى النافذه التي بقرب الباب وأطلقها مرفرفة على الماء العميق الذي بلا حدود، بينما عينا نوح كانت تحدقان في المياه تحدقان في الأعماق الخفيةالتي يرقد فيها الموت، فأختفت الحمامة تحوم.حمودي يربط ربطا متناسقا بين رمز السلام والمحبة والألفة بين النوازع الأنسانية التي تميل أكثرها الى الظلام والى شهوة الأنتقام عن طريق تحويل أشجار الزيتون الخضراء الى المشانق وأرض الله الى سجون ومقابر، ان العلاقة السببية بين شوق الحمام الى فضاء الحرية مجازفة بحياتها وهي تحوم فوق المديات البعيدة وتحتها قتامة الحياة، وبين ترقب نوح في إنتظار عودة الحمامة بعد مرور سبعة ايام بلياليها، يطلق نوح الحمامة ثانية بعد عودتها وينتظر الى المساء واذا بالحمامة وهي تحط على يد نوح وفي فمها ورقة زيتون، تأكد بذلك بأن – المياه قد قلت، فقد زهى وجهه لأن أنتهاء الطوفان أقترن بالزيتون، بلمعانه وقد تكون أول شجرة بعد الطوفان، وتذكر نوح أنه ذات مرة تمسح بدهن الزيتون، وسكبه على رأسه، أنتظر سبعة أيام أخرى، وأطلق الحمامة فلم تعد الى السفينة موطنها هكذا أنتهى الطوفان، لا أحد يدري وقد تكون خلقت بعد الطوفان دون أن يزرعها نوح، أما الحمامة فكانت أول من حطّ على اليابسة، وتركت موطنها السفينة، قد يكون موطنها بستان زيتون هذه المرة، تنعم بحريتها فيه- وفي قصة حمامة نوح تشي بالرمزية الدالة والى تعدد المعاني،فليس عجباً أوإندهاشاً رؤية بوستر كبير لَحمام أليف يصفق جناحيه لنسمة الحرية معبرة تلك   عن تلك اللحظة عن مدى إجحاف كبير بحقوقٍ مصادرة وخلفها ملايين من الحناجر والأماني تطالب بها قبل إعمال السيوف والخناجر من التماهي على الجروح. أليس من الحكمة أن نرفع قبالة كل طلقة متهورة غصن زيتون أخضر،وفي قصة حمامة نوح ثمة إيقاضات تتنامى مع الشعور بأن الوقت ليس ماضياً على تفوق لغة الحوار والأصغاء وصولاً الى نداء الضمير الأنساني والى رفرفة حمائم الحرية وفوق أغصان الزيتون.وبالنسبة لسياحتنا الموجزة في داخل قصر الخورنق، ألتقطت عدسة ذاكرة الصمت المشدوه مع ظهور أطلال مدينة الحيرة،وبقايا من قصر النعمان بن منذر المعروف بقصرالخورنق  الخورنق المشتق أصلها من الفارسية خرتكاه والتي تعني موضوع اللهو والشرب ، وفي مستهل القصة الذي جاء في سياق البداية الحزينة حيث تمرد الراوي على جرائم الحرب امام صمت أدعياء العروبة وهو يتقطع حزنا على القنابل العمياء التي تسقط على قانا، يربط القاص بين زهو الماضي ورماد بيدر جهل بعض الأدعياء. ويعمل مقارنة بين ذلك الماضي المتمثل بعلو شأن الماضي من خلال بسط النفوذ على الشرق  وهم ملوك أقوياء. في مغزى بناء قصر الخورنق الذي أستغرق بنائه أكثر من عشرين عاماً وبراعة مهندسه المعروف بسنمار الخارق فوق التصور،وبعد أكتمال القصر وارتقى النعمان طوابق القصر مدهوشاً وهو يجاذب سنمار الحديث – لندع صاحب قصة الخورنق ينقلنا مباشرة الى لحظات قبل الفاجعة التاريخية بين مذبحة قانا المنسية وسنمار المختال بصنعته وهو ينفطر قلبه قبل وقوعه جثة هامدة بين أسوار القصر.- وهو يكرر في داخله ( يا لروعة هذا القصر!). لقد أفرط في تأمل لا إرادي جعله ينظر عجباً اليه كان القصر في أحسن بناء لما تحيطه من جنينات نخيل،فصعدوا الى قمة القصر وراح النعمان مفكراً الى المدى البعيد فأكتست ملامحه سيماء الجد والغضب، وأخيراً ألتفت الى سنمار وسأله:- هل تستطيع أن تبني أحسن منه؟!                                                                                         

فأجابه سنمار، وعلى وجهه أبتسامة فنان. نعم... ثم أردفَ قائلاً بصوت خافت: إنني أعرف موضع آجرة فيه لو زالت لسقط القصر.. أندهش النعمان من قدرته المتمرسة، فسأله: -هل يعلم أحد غيرك بهذا؟!فأجابَ سنمار بتباهٍ صريح:- لا.. هز النعمان رأسه، وقال: - لاذنبٌ أن أجعلَ هذا السّر مخفياً أبداً... ثم ألتفت الى أعوانه، وقال. أقذفوه الى الأرض...ووينهي فصل مأساة قصر الخورنق وقانا وهو يقرأ بحزن الصمت العربي حول مذابح بني البشر – هكذا قذف سنمار من أعلى القصر الى أسفله فضرب العرب به المثل: جازاه مجازاة سنمار، فأغمضت عيني وأنا أطوف بالصمت العربي، وأغوص في مخيلتي، وأسال نفسي : هل رماه الى الأرض حتى لا يبني مثله أم لأنه يستطيع أن يني له قصراً يجعله يدور مع الشمس كيفما أراد. هذا من التاريخ، وموت سنمار يهمنا، وموت أطفال قانا أيضا يهمنا . واي تاريخ تصفحناه اذا لم نقف على فصوله الاّ وقد غمرتنا مسحة الحزن والأسى على عقول لم تبرح مدياتها بين الدّم المسفوح أو أنين مظلوم يئّن للعُلا من طعن القنا؟!.                    

                   

 وفي مقتبس قصة جدنا الأول وطائر العنقاء، نخرج وعبر صفحاتها الثلاث بأن رمز طائر العنقاء الأسطوري مازال يدغدغ فضولاً وبريشه الناعم أفكار العديد من أصحاب القلم والفنانين في عمل تخطيط تخيلي وبقلم شفاف. نجده حيناً ينهض من رقدته ومن بين رماده المتفحم من خلال قصائد الشعراء وكتابات الرواة لينشد َلنا ثانية نشيد الرجعة، وحيناً آخر في لوحات الفنانين كطائر أبيض ٍعملاق يقترب في تحليقه نحو الشمس لكي يذوق لذة الأحتراق. هنا نبصر جّدنا الأول آدم بطوله الفارع وحسب الروايات التاريخية بأنه يربوا على خمسين قدم في ضوء فضول الرواة ، يعطينا هنا القاص حمودي وصفاً  دقيقاً  لذلك المشهد البعيد- يقف بردائه الأبيض قرب بيته الوحيد شرقي جنة عدن التي طرد منها متأملا نهر الفرات الصافي الهاديء، مستأنساَ بصوت جريانه، ينتقل بنباهة شديدة لفصل مأساة خروجه من نعيم الفردوس من أستغفال بريء غير متوازن لقوة المكر والدس ورجحان كفة الشر على ضآلة الخير، مع استمالة غير مقصودة من أنيسة عمره في الوقوع الأبدي لنزوات الدنيا وأحبولتها القاتلة. لنسمع جليا لوعة ذلك العتاب من جدنا آدم نفسه: ( أيتها الآرض، من ترابكِ خلقت، والى ترابك أعود!).وكان آدم قلقاً على بنيه، على نسله البشري. ربط القاص بين الموت والميلاد ربطا موازياً مع مغزى الوجود البشري وحيرته المستمرة بين نوازع الخير والشر، أجد تلك الأستعارة الجميلة من لدن القاص بأن عودة موفقة الى كنوز موروثنا العقائدي والأستلهام من تلك الأساطير القديمة الغنية بالرموز والأشارات وتوظيفها في ضوء تلك السردية التاريخية، حيث قصة نشوء الخليقة الأولى، وخوفه على مصير ذريته ساعة دنو الحساب وأوان الموت الأول الذي يسميه القاص في قصته جدنا الأول وطائر العنقاء بالخطيئة الأولى. وأسطورة طائر العنقاء الطائر الذي عاد من موته الأول بأعتباره رمز للمخلوق الأول الذي أندهش من موته جدنا آدم، يصور حمودي تلك اللحظة لخظة نهوض العنقاء مختتما بها القصة بنهاية جنائزية مع الأشارة الخاطفة لأول شرارة للخطيئة والتي بذرته قابيل عند قتله لأخيه هابيل مدشناً لعهد الظلم والخراب . – فقد خمدت النار، فرأى الجمر المشتعل وتكاثر الرماد، وأختفاء الدخان، وأنبثاق رأس دقيق، وعنق أنيق، وجناحان يرفرفان، تبعدان الرماد عنهما، ثم ساقان طويلان، فظهر العنقاءُ خالداً مجدداً نفسه يهز عنقه، يتبختر بمشيته ثم صفقَ بجناحيه ممتطياً الفضاء، حائماً حول آدم ثم هائماً تجاه غروب الشمس، تاركاً الموت الأول لأنه لا يعنيه، وآدم يتقدم الى الرماد وهو يردد بخفوت:( هذا طائر العنقاء ينهض من رماده يتجدد ويحلق عميقا وبعيداً، أنها رحلةٌ طويلةٌ نحو المطلق نحو الحقيقة نحو الحكمة، رحلة شاقة محفوفة بالمخاطر والمكاره ،طريقٌ غير آمن في جمال ظاهر، نفض آدم يديه من الرماد، ومن مغريات الدنيا وحلّقَ في ذهنه الى الخلود…………………….وهو ينظر بطمأنينة الى الرماد، ويعود الى كوخه الوحيد، فراشه الوحيد ويرقد فيه، ويصّوب وجهه نحو الشرق وينام.                                                                        

 

 

 

 

شعرية المتخيل في تنبؤات كاسندرا،وملامح أبداعية في النص القصصي.                 

               

 

 

ومَن تكونْ هذه العَصيّة الشقية غير كاسندرا الصبية العذراء. العاشقة بنت بريام، بنت هيكوبا الطراوادية. في تنبؤات كاسندرا محموعة من المسوخ كل وحسب هوى أبولو المتيم بجمال كاسندرا ،- فهذا دافني تحولت الى شجرة الغار، وتلك كليتيا تحولت الى عبّاد الشمس، ولا يتنافس أحد معه على القيثارة ، فهذا المسكين مارسياس كبير السن سلخَ الى أفعى، والملك الكبير السن ميداس نال آذان حمار، وتلك العرافة كوماي منحها الخلود وأبقى سنها يتقدم.-ينقلنا القاص في قصتة المؤثرة تنبؤات كاسندرا والتي حملت عنوان المجموعة القصصية نفسها، لكون القصة نفسها تحمل دلالات تاريخية موغلة الى أحضان الأساطير الأغريقية، كي يتعرف المتلقي والقارئ للمجموعة جلياً وفي متنها على التاريخ والميثيولوجيا ويتعرف على حقيقة بعض تلك الرموز الشهيرة التي باتت تكتب وتحفظ من قبل الناس دون أن يقفوا على حقيقة تاريخهم وعصورهم وأدوارهم في نشوب الصراع الدموي والخراب في ممالك سلطتهم المطلقة، بعد تعرض كاسندرا من تطاول على عفتها وكراهيتها لفعلة أبولو. بعد رفض كاسندرا كل المسرات والثروات التي عرضها عليها ابولو، ولنسمع وبلغة الراوي – خائفة أن تفرض عليها حياة الشقاء والبؤس في ظل الثروة والنعيم والرخاء، لذلك رفضت بكل إصرار الأقتران به والتضحية بحب طروادة………………………ففرت هاربة بين أشجار الزيتون، الخطوات كادت تبلغها، كان وقعهايقتفي أثرها، وقد أدركت أنه يخاطبها،ابولو: أخشى على قدميك أن تزلان لماذا تهربين مني؟!                                                                

كاسندرا: لا أريدك يا أبولو، لا أريد أن أتخلى عن طروادة، طروادة سعادتي. ابولو: أخشى أن تنغز شوكة قدميك أو أوراق أعشاب برية حادة، لا تهربي مني! كاسندرا: وأنا أخشاك! تعثرت وسقطت على الأرض، وفلت من يدها الثوب الأبيض المنمق بالورود الخضراء، وهو يردد: وا أسفاه يا ويلي، يا ليتني كنتُ الأرض لحميتكِ بجسدي، هل توجعتي يا حبيبتي؟! لم تمض برهة من الزمن وقد أصبح فوقَ صدرها، ووضع القيثارة على ثوبها، وها هي الكلمة ترن في قيثارته بسرعة ….بسرعة………………لم يدر ببال أبولو ان منازعات وثارات وخلافات ربما حروب تجري بين الأرباب، وهو أبن زيوس الرب الأكبر العظيموفوق الجميع الذي يسكن جبل الأولمب فوقَ مرتفع عال، بينما كاسندرا تحاكي النجوم وصار ليلها بهيم ………….وهي تقول بصوت خافت وعيناها تذرفان الدموع: كاسندرا: حسناً ها أنتَ أغتصبتني وبلغت غرضك، واستلذيت من جسدس، وأمتلأ صدركَ بنشوة النصر، وأطعمتَ ظهري بتراب طروادة، وماذا تريد بعد؟! أبولوا : أنت أن تكوني لي وحدي، وسأهبك كل ما تتمنيه وتكوني أم أولادي، كاسندرا: كلا سأظل عشيقة طروادة، سأظل أبغضك تماماً، وأتحاشى ظهورك، أنا لست لك. ورغم طول صفحات قصة تنبؤات كاسندرا الاّ أن اللذة تكمن في متابعة الحوار العاطفي وتسلسل الزمن ومتغيراته من حيث تشتت ابولو وفراق كاسندرا عنه من أجل طروادة المدينة ،طروادة الألم والأمل في حياتها. وتسارع الصراع والأحداث وبلوغ كاسندرا لمرحلة التنبؤ اليقيني بالرغم من أحسان أوبولو بأنه بنفسه وهب كاسندرا تلك النبوءة ، وبعد ذلك تتالت النبوءات وكاسندرا تبلغ والدها بريام باحدى من نبوءاتها عدم جعل أخيها باريس سفيرا الى اسبرطة، ومن تنبؤاتها الأخرى نشوب الحرب وحصار طروادة لمدة عشر سنوات، وخدعة  حصان طروادة  المنمق بالخشب،  ومقتل هكتور على يد أخيل،واقتران كاسندرا  باغاممنون، مع حقد ووعيد زوجته كلوتيمسترا وعشيقها اوجست على قتل اغاممنون،وتنبوءها الخامس والأخير مصرع أغاممنون بالبلطة الفضية الحادة على الرأس حين بلوغه عتبة باب قصره وتتم بذلك تنبؤات كاسندرا. وتُوّشى الخاتمة بآخر جملةٍ من القاص حمودي  – الاّ أن عقاب التاريخ عما كل ما حدثَ لا يزال-  ولنا حول هذه المجموعة كلام آخر، بأن القاص حمودي عبد محسن قد أجتهد كلياً في عصر مخزونه الفكري  لكي تتوالد  من الذاكرة، كتاريخ أو مورث مجموعة جيدة من القصص التي تستوجب الوقوف عليها بتأني، والكتابة بحد ذاتها هي عملية صعبة واذا هي عندما تكون كتابة القصة القصيرة. وعلى قول الأستاذ والأديب كريم ناصر- لم يكن سهلاً على الإطلاق كتابة النص ـ القصة تحديداً ـ ما لم يكن الكاتب يمتلك وعياً معمقاً بفن القصة وتحولاتها الكبرى، وما لم يتجل ذلك ثقافياً في نتاجه، وما لم يساهم في إشراك المتلقي في إنتاج الدلالة، وابتكار المعاني وربطه بالحدث، وذلك كي يكون حاضراً دوماً في سياقاته، كما أنّ القصة في ذروة تطورها لا تقدّم الفكرة على طبق من ذهب، ولا تكمن وظيفتها في تعريف الخطابات ورصد حركات الشخوص وتنقلاتهم وأهوائهم الشخصية، ولهذا لم تكن عملية استقطاب المتلقي قضية سهلة من دون ملامسة وعيه من جهة، والتناول الدقيق بالنسبة للغة من جهة أخرى-. أدركت تقريباً معاني أكثر قصص المجموعة، وأعتبرها حقاً بأنها ستمضي في مسار التكامل الفني لكتابة مقومات القصة القصيرة، وحمودي عبد محسن ا يمتلك في عمله الجديد وعياً ناضجاً في كتابة النص القصصي وبتقنية مقتدرة خصوصاً في قصة تنبؤات كاسندرا، وقصة جدنا الأول وطائر العنقاء.متيقن بأن هذه المجموعة تحتفظ بمكانتها الأبداعية كجنس أدبي تستأثر بالمراجعة  والقراءة النقدية لأن فيها أكثر من محطات للتساؤل وأستفسار من غابر تاريخنا القديم ونحن سنكون أيضا في أنتظارالمزيد.                                                                                                                

 

المصادر                                                                                       

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 1-  تنبؤات كاسندرا، للقاص حمودي عبد محسن،فيشون ميديا السويد 2007ط1 .               
  2- يسرىعبدالله من مفارقات السرد الى أكتناه الوجود. لونه أزرق بطريقة محزنة قراءة لمجموعة لمجموعة محمد صلاح العزب القصصية.جريدة أخبار الأدب المصرية ع 564 .. 2004           
  3-  د. صلاح فضل نظرية البنائية في النقد الأدبي سلسلة الأعمال الفكرية2003 الهيئة المصرية العامة للكتاب.
 4-  
رؤيا جديدة للأسطورة السومرية ، وبحث علمي في تفاصيل الأسطورة الرافدية ، للباحث العراقي د.شاكر الحاج مخلف رئيس تحرير جريدة المدار الأدبي.  
  5- الأديب كريم ناصر،ثمة أشياء أخرى: التغريب وموضوع التأويل في تعرية النموذج النمطي.م القصة العراقية، قراءات نقدية.                                                                    

  

           

 

04/07/2007

 

goran@dengekan.com

 

dangakan@yahoo.ca