حلبجة..... مجزرة ماثلة في الاذهان
 
  1 ـ 2  

شه مال عادل سليم

   www.sitecenter.dk/shamal

 

        كنت اقول لنفسي  دائما اصبر... اصبر ...سوف تندمل الجروح ويقف نزيف السموم مع سقوط النظام  ومحاكمة المجرمين ومرتكبي المجزرة  , نعم كنت اقول دائما اصبر ... اصبر ايها الوطن سوف يلتئم الجرح برحيل الجلاد  مهما عظمت الخسائرة ..... اخيرا سقط الصنم وتمت  محاكمة كبار مسؤولي النظام البائد واعدم الطاغية، وصدر قانون اجتثاث حزب البعث العربي الاشتراكي الذي قتل كل شيء جميل في وطني....ولكن ...

تبيّنت  لي  اخيرا حقيقة ساطعة سطوع الشمس اقولها لكم ايضا  رغم مرارتها الا وهي  ان جروحنا  ستبقى تنزف سموما ولن تلتئم ابدا ... !!

          كل عام وبالتحديد في 16 اذار يتذكر العالم اروع كارثة حلت بمدينة اسمها حلبجة , التي هي من اجمل مدن كوردستان العراق , حيث تقع في احضان جبال شامخة مزدحمة ببساتين الفواكه , لحلبجة تاريخ مشرف وشخصيات مشرفة , شعراء كبار وشخصيات نسائية مرموقة وعوائل كوردية اصيلة و عريقة تركت بصماتها على الاحداث التاريخية المهمة ....

          مع بدء الضربة في 16 اذار عام 1988  بالاسلحة المحرمة دوليا، تشوهت الوجوه الجميلة وسقط الاطفال كاوراق الاشجار تاركين ورائهم لعبهم التي تلوثت بالسموم وبغبار القنابل والصواريخ التي حرثت الارض ومزقت السماء ولوثت الجو وافسدت المياه  ....

          مشاهد مرعبة .... جثث منتشرة ...اشلاء ممزقة .... بقايا بيوت مهدمة .... صيحات استغاثة تتعالى ....ولكن بلا جدوى !!  من يسمع الصرخات المخنوقة في تلك البقعة المنسية... ؟؟من يسمع ... ؟؟؟ من ؟

قنابل تنفجر واحدة تلو الاخرى ....السموم تفتك بالناس وبايقاع سريع جدا , لقد بدأ السباق الماراثوني ولكن الى اين ؟ لااحد يعلم  اين خط النهاية , الكل يركض ومن وفي كل الاتجاهات , اصوات الانفجارات تمترج بدعاء امام الجامع الذي كان يدعو من الله عزّ وجل ان يحمى هذا الشعب المسلم الآمن !

          يقفز الاطفال من اماكنهم وهم ينظرون الى السماء الزرقاء الربيعية المطعمة  بغيوم ناصعة البياض ...ترتفع   صيحاتم  كانهم يريدون ان يبتلعوا السماء لينشقوا كل الهواء الذي فيه … !!

 ينتابني شعور بالاشمئزاز والقرف عندما اتذكر الطائرات واتذكّر قنابلهم التي حولت المدينة المسالمة الى ساحة حرب .

الاطفال ....   نعم الاطفال ….كانوا  المتضررين الاكثر لانهم اطفال ولم يستطيعوا وقاية انفسهم والهرب كالكبار فدخلت السموم  رئاتهم الصغيرة  دون استئذان , ولم يعرف الاباء ان الصمت هو العلاج الوحيد ضد الام  السموم لذالك كانوا يحضنون   اطفالهم  و هم يركضون الى المجهول لأنقاذهم ولكن دون جدوى  .... لقد نام الاطفال نومتهم الابدية  وهم ملتصقين بصدور ابائهم الذين فقدوا بصرهم نتيجة الضربات الكيمياوية المكثفة..... ليناموا نومتهم الاخيرة دون ان يستطيعوا ان يلقوا  عليهم النظرة الاخيرة لانهم ماتوا فاقدي البصر   .. 

الامهات ...اه ..الامهات لم تبقَ لهن دموع تذرفنها على فلذات اكبادهن ... نعم فعلت السموم فعلتها واطفئت مصابيح عيونهن  ايضا .....لم يعرف الناجون من عاصفة السموم   بان ذلك الوباء سيترك داءاً مميتا باستمرار وسوف يورثه للاجيال القادمة .... كيف لهم ان يعرفوا ؟ .... انه لشيء مثير للعجب ... !!

          كيف يمكن لحاكم ان يقتل الشعب ويبيده بتلك الطريقة البشعة ؟ كيف يمكن قتل الانسان من اجل لا شيء !!.... كيف ؟ لقد  توقفت الحياة في هذه المدينة نهائيا ...  قُتل من بقى داخل البيوت ولم يستطع الهرب الى المجهول ...

          حتى من كانوا مختبئين في السراديب المغطاة بستائر سميكة .... وببطانيات واكياس البلاستيك .... نعم لقد تسللت السموم كتسلل الافعى القاتلة،  الى كل زاواية في هذه المدينة المحكومة بالموت ....  نعم زحفت السموم الى كل زاوية , كل بيت , ودخلت الى الجامع وقتلت المصلين وهم  يؤدون الصلاة ....

          لقد دخلت رياح الموت الى مطابخ البيوت  لتلدغ فرائسها وهي على مائدة الطعام  ... اه ... لقد خنقوا بدون ذنب الا انهم من ابناء حلبجة او ضيوف اتوا ليعيّدوا مع اقربائهم .....اللعنة ...اللعنة ...اللعنة على هذا القدر المشؤوم  ...... الناس يركضون باتجاه النهر ويخلعون ملابسهم دون ان يتقيدوا او تهمهم  التقاليد العشائرية الصارمة .... 

          انه لشيء مثير للعجب .... شابات عاريات ممددات في مياة النهر كعرائس البحر اقدمن على الانتحار بسبب الانتظار وعدم مجيء الامير على فرسه السحري ...نعم انه لشيء غريب  لم يقترب احد منهن  لان الكل  كان يريد النجاة والتخلص من شبح السموم القاتلة  .....

          بدء الناس بخلع ملابسهم الملوثة بالسموم .... الاجسام عارية ...لاتلفت الانتباه .. عجيب وغريب امر هذا الداء .....فهناك مئات الافراد الذين سقطوا صرعى على ضفاف النهر الملوث بسموم قاتلة، لا لشيء الا لانهم كانوا من اهالي تلك المدينة المنكوبة  ....

          يا له من قدر مشؤوم .... لقد لوثت السموم كل شيء ... يالها من كارثة .... السموم تجرى في عروقهم بدل الدم ... وتقتلهم واحدا اثر آخر ..... انهم يسقطون كما تسقط اوراق الخريف ....انه خريف العمر ..... الموت للجميع فمادمتم لم تستطيعوا ان تجدوا وسيلة لأجتثاث الكيمياويين فعليكم ان تموتوا انتم !! نعم انها معادلة حسابية لا تقبل الشك، انتم او هؤلاء ...... !!

          لقد وصل البعض  الى دول المجاورة بعد ركض ماراثوني مميت ومتعب , وبعد ايام من الاستراحة  مات قسم منهم لانهم استنشقوا السموم دون ارادتهم ... والقسم الاخر وضعوا تحت العلاج بعد ان ادخلوا المستشفيات، للعلاج  من الحروق والسعال وضيق التنفس والاسهال والانهيارالعصبي  ومن اثار تلك السموم القاتلة التي حرقت حتى الجفون واذبلت القلوب بحيث بدأ الناس لايحسّون بدقات قلوبهم .....ولم يعرف هل  هم احياء ام هم في اعداد الاموات ...... وقسم اخر اختار الانتحار لانهم ابوا ان يعيشوا مدى الحياة مع تشوهات سببتها لهم السموم على الفسيخ   ....!!

          وليس من العجب والاستغراب  ان نرى  حتى بعد سقوط الصنم وانتهاء حكمه المقيت  عندما تحلق طائرة فوق سماء المدينة يركض الاهالي لا اراديأ الى مخابئهم ويسدون النوافذ بستائر سميكة وواقية .... وخاصة هولاء الذين عاشوا وعاصروا ونجوا من عاصفة السموم القاتلة , نعم  تلك الايام العصيبة التي كان الهواء النقي اثمن شيء عندهم ........

          حيث قال لي احد الناجين من تلك المجزرة بالصدفة  بانه لايسستطيع ان يتخلص نهائيا  من اثار السموم والامراض التي سببتها له السموم، ومن مشاكل كثيرة ستبقى حسب التقارير الطبية التي تصفه بانه داءاً عضالا مستمر .... لالشيء الا لانه  كان  في ذالك اليوم  احد الضيوف القادمين من السليمانية الى بيت عمه  الذي كان يسكن في حلبجة ليحتفل  عندهم  ولم يكن يعرف بان سموم الشر سوف تلوث عليهم  طقوس العيد القومي نوروز( 1 )

        وهو لحد الان عندما يسمع اصوات الطائرات يحس بالاختناق وارتفاع درجة الحرارة واحمرار في العيون كانه يعيش الحالة من جديد ....... حتى قال لي وبالحرف الواحد :- اكره الطائرة  لدرجة لااطيق ان اسمع صوتها ..... لقد تركت اثارها على جسمي وذاكرتي ...ماذا افعل برب السماء ...هل انتحر ؟ ام ماذا ... حتى لا استطيع ان ابكى ... لم يبقى لي حتى الدموع ... اخرج من جيبه قطرة صغيرة وقال هذه هي الدموع الاصطناعية وبدونها لا استطيع ان اغمض وافتح واحرك العينين !! نعم ياصاحبي هكذا عشنا ونعيش نحن في هذا الزمن الرديء .....

           بعد المجزرة بثت القنوات الاجنبية  في برامجها الرئيسية  تقريرا مفصلا عن حلبجة ... حذّر مقدم البرنامج المشاهدين لمنع الاطفال من مشاهدة الفيلم الماساوي عن المجزرة  ولكن نسى ان  يحذر  الكبار ايضا .... ... لان المشاهد  كانت  فعلا مرعبة وماساوية الى ابعد الحدود بحيث انها وجراّء مشاهدتها تترك على المشاهد اثارها العميقة في ذهنه وذاكرته دون ارادته ..... نعم  مضى  19 عام على وقوع المجزرة، الا ان   اثارها باقية  في الاذهان وستبقى الى الابد ... نعم اثارها باقية  وحفرت في  جدار القلوب اسماءاً و وجوهاً محروقة لا يمكن محوها ابدا ... لا يمكن نسيانها ابدا   ...

          من منا او منكم ينسى ( عمر خاور ) فهو احد ضحايا السلاح الكيمياوي وكان  يحضن مولوده الجديد محاولا الهروب و النجاة من القصف و لكن لم يستطع ككثيرين اخرين  فوقع امام بيته مخنوقا بالغازات السامة واصبح رمزا وسفيرا  لمدينته حلبجة المنكوبة , ولم ينجُ احد من عائلته المكونة من 12 شخصا .....

اللعنة على الصمت الذي أصبح عنواﻨﴽ و سلوكا و أخلاقا  في زمن السيانيد  و الخردل القاتل والانفال………

اللعنة ……

اللعنة ……

اللعنة ……

اللعنة .......

                   يتبع

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

1 نه وروز  وتعني  حرفيا يوم جديد ... انه العيد القومي للشعب الكوردي الذي يصادف في 21 اذار حاملا بهجة الربيع و مبشرا بعام جديد و مذكرا بابن الشعب البطل رمز الثورة والتمرد كاوه الحداد الذي اجهز على الطاغية الضحاك رمز الظلم و الطغيان . ومن تقاليد عيد نه ورؤز اشعال النيران على المرتفعات و ذرى الجبال الشامخة ومن الاكلات الشائعة في نوروز اكلات تبدأ بحرف السين مثل حلاوة سمني التي تصنع من عصير نبات القمح , ومن اشهر الاغنيات النوروزية اغنية الشاعر الكوردي الكبير بيره ميرد والذي انشدها للنوروز الذي اعقب وثبة كانون 1948 ومن احدى مقاطعها يقول  لم يحدث في تاريخ الشعب حتى الان , ان تكون صدور الفتيات تروسا للطلقات اثناء هجمات الأعداء .. !!

كما ان الناس يخرجون الى ضواحي المدن و القرى و المنتزهات يدبكون ويغنون على انغام الموسيقى  وياكلون اكلات العيد .

 

           كوبنهاكن

       2007-03-15

 

           

 

04/07/2007

 

goran@dengekan.com

 

dangakan@yahoo.ca