تأليف :خالد سليمان

الأنفال

خالد سليمان، مؤلف هذا الكتاب، هو صحافي ومسرحي كردي عراقي، درس في معهد الفنون المسرحية بمدينة السليمانية، ثم هاجر من كردستان العراق إلى كندا التي يقيم فيها منذ حوالي عقد من الزمان. أعد كتابا عن المفكر العراقي الراحل هادي العلوي، كما يكتب باستمرار في الصحافة العربية،

متناولا قضايا تتعلق بالوضع السياسي والثقافي والاجتماعي في العراق، وخصوصا الوضع الكردي. في كتابه «الأنفال: حكايات من زمن مستقطع»، الصادر عن دار سردم للطباعة والنشر (السليمانية، كردستان العراق ـ 2005)، يسعى خالد سليمان إلى التأريخ لمجازر «الأنفال» السيئة الصيت التي ارتكبها نظام البعث العراقي ضد الأكراد، وراح ضحيتها أكثر من 182 ألف كردي عراقي.

واللافت في الكتاب هو أن الكاتب ينطلق من تجربة ذاتية، فهو ينتمي إلى منطقة «كرميان» التي تعرضت، مثل غيرها من المناطق الكردية لحملات التهجير والتبعيث والقتل والتشريد، وهذه التجربة المرة التي عاشها الكاتب وفرت له أرضية مناسبة منحت لقلمه المصداقية التي يمكن تلمسها من خلال المشاهدات العيانية التي وقعت أمام سمعه وبصره، وهو يدعم هذه المعايشة الحية عبر الاستنجاد بذاكرته المتدفقة التي سجلت، آنذاك، الانطباعات والصور التي لا يمكن للزمن إزالتها من وجدانه.

ولأن الكاتب كان واحدا من الضحايا، إذ فقد الكثير من الأقرباء، فانه يولي اهتماما خاصا بهذه المجازر، ساعيا إلى حشد الكثير من الأقوال والتصريحات، والشهادات والوثائق ليدرجها في هذا الكتاب الذي يعد من الكتب القليلة التي تتحدث عن تلك المأساة بلسان من ذاق مرارة الغياب والفراق ورحيل الأحبة، وبلغة دافئة تنقب في دواخل الأفراد وتنتزع من ذاكرتهم لحظات من الوجع والألم يصعب تدوينها.

بعد سقوط النظام العراقي في بغداد قبل ثلاث سنوات، تجلت حقيقة هذا النظام بصورة أكثر وضوحا للرأي العام العالمي، وتبين حجم المعاناة التي كان يعانيها الشعب العراقي من زاخو (في أقصى الشمال) إلى البصرة (في أقصى الجنوب)، فالرئيس المخلوع صدام حسين لم يكن عادلا في شيء سوى في توزيع القتل على أفراد شعبه دون تمييز، ويخطئ من يعتقد أن صدام كان يفضل عرقا أو طائفة على أخرى، إذ كان المحبب لديه والمقرب إلى قلبه هو الذي يقدم له، بشكل أعمى، فروض الطاعة والولاء، ويمدح عظمته المزيفة، ويبرهن على ثقته وإيمانه بكل ما يتفوه به هذا الرئيس المستبد الذي اختزل الوطن في شخصه.

وكل من «تسول له نفسه» الخروج عن هذه المبادئ، والثوابت، كان مصيره القتل دون شك، وهذا أدى إلى أن يستفيد بعض المنافقين، والانتهازيين من عطاياه ومكاسبه، فيما غرق سواد الشعب العراقي، بعربه وكرده وأقلياته القومية، في صمت مطبق، بينما سعى بعضهم، إن استطاع، إلى الرحيل إلى المنافي الباردة والبعيدة منتظرا على مدارج المطارات وأرصفة السفارات، وشوارع الغربة بحثا عمن يقبل لجوءه الإنساني طالما وقعت بلاده بيد قلة فاشية قليلة لا يوجد في قواميسها معنى للكرامة والحرية والعدل.

كان للأكراد نصيب وافر من هذا القمع وذاك الاضطهاد، ذلك انهم ـ وبحكم تمايزهم القومي ـ من اكثر الفئات «خطرا على النظام» من وجهة نظر حزب «البعث» الحاكم، ولأنهم كذلك، فلابد من استئصالهم وفق قول معلن وصريح لمنظر البعث وعرابه ميشيل عفلق، وهو قول يعيد إلى الأذهان ممارسات النازية الهتلرية وتوجهاتها العنصرية،

إذ يقول: «إن الكرد في العراق وسوريا، والبربر في مغرب الوطن العربي يشكلون العرقلة أمام مشروع الوحدة العربية، ويجب إفناؤهم»، وحين تتحكم هذه الفلسفة بالعقول، فان المصير سيكون مؤلما، وحزينا بالنسبة للكرد الذين يحتفظون في ذاكرتهم، بعد مرور سنوات على تلك الجرائم، بأرشيف من الشقاء والآلام، والعذابات التي يحاول خالد سليمان في هذا الكتاب أن يوثق بعضا منها.رغم أن حملات الأنفال ضد الأكراد تصاعدت في نهاية الثمانينات غير أن بداية هذه الحملات تعود،

كما يشير الباحث، إلى مطلع السبعينات إذ يقول «بدأت الأنفال عام 1971 عندما قامت الحكومة العراقية بتنفيذ سياسة التبعيث والتعريب والتهجير في المناطق الكردية: كركوك، خانقين، شنغار، دوز خورماتو واعتمدت هذه السياسة على مصادرة أموال اكثر من 40 ألف عائلة كردية ومن ثم ترحيلهم قسرا، وجلب عشائر عربية إلى مناطق سكناهم»، ولم تكتف السلطة العراقية بهذه الإجراءات التي تكررت مرارا، بل سعت إلى محو ذاكرة الأمكنة عبر تبديل الأسماء الكردية بأسماء عربية،

وقد أصدر الرئيس المخلوع صدام حسين، منتصف الثمانينات، قرارا يعزز من هذه الإجراءات القمعية، ويضفي عليها الصفة الشرعية، إذ نص الدستور العراقي المؤقت، آنذاك، على البند التالي: «تسقط الجنسية العراقية عن كل عراقي من اصل أجنبي، إذا تبين عدم ولائه للوطن والشعب، والأهداف القومية والاجتماعية العليا للثورة».ما الذي يفهمه كردي بسيط يسكن في سفح جبل وديع وبعيد، من هذه التعابير الغامضة؟،

وما الذنب الذي اقترفه سوى انه وجد نفسه، منذ مولده، ينطق بلسان مختلف، ويحلم بحياة كريمة يمارس خلالها طقوسه وعادته، ويتعلم بلغته، وينشد، دون خوف، أغانيه العذبة وموسيقاه!! كان على «البعث» الحريص على القومية العربية ذات الرسالة الخالدة أن يستأصل هذا الورم الخبيث في جسد العروبة النقي!.

تأسيسا على هذا التوجه تم تهجير الكثير من القرى الكردية المحاذية للحدود الإيرانية، وتم حصر سكانها في مجمعات قسرية، ثم اتبع النظام سياسة تمثلت في إلحاق الأقضية والنواحي التابعة لمدينة كركوك مثل: دوز خورماتو، كفري، خانقين، داقوق، سر قلعة، جلولاء وغيرها بمحافظة بعقوبة وبمدينة تكريت، مسقط رأس صدام، وألغى في الوقت ذاته برامج التربية والتعليم باللغة الكردية وفرضت محلها اللغة العربية.

هذه السياسات التي مورست على مدى أعوام تركت تأثيرا سلبيا عميقا في المناطق الكردية، وفرضت مزاجا نفسيا سيئا، وأفرزت حالة اجتماعية هشة، ومفككة ذلك أن القتل، بوصفه فعلا مؤذيا وقاسيا، كان العنوان الذي جمع بين كل هذه الممارسات القمعية. ولئن تباينت وتيرة القتل بين فترة وأخرى، واختلفت نسبته من منطقة إلى أخرى، غير أن هذا القتل كان سائدا يحصد الأرواح البريئة في تلك الأنحاء الكردية المنذورة لطيش نظام قمعي متعطش، باستمرار، إلى دماء وجماجم حتى يبقى حيا،

فهو في نهم دائم إلى رائحة النعوش. ولعل هذا التوجه هو ما عبر عنه المفكر العراقي هادي العلوي في رسالة اعتذار وجهها إلى أطفال كردستان عقب قصف مدينة حلبجة بالأسلحة الكيماوية التي راح ضحيتها اكثر من خمسة آلاف شخص. يقول العلوي: «إن أي قاتل محترف، جائع، مريض، قد يمر بفترة استراحة، يتكلم فيها مع نفسه، وربما طرح سؤالا عن بعض من اختارهم للقتل، إن كان قد أحسن الاختيار. لكن هذا القاتل البدعة (يقصد صدام حسين) لا يريد أن يستريح.

يرفض أن يأخذ إجازة يطرح فيها على نفسه هذا السؤال»، مضيفا «صار وجوده (صدام) في الحكم يتركز في معنى أن نهر الدم، يجب ألا ينقطع عن الجريان، لأن انقطاعه يجعل سلطته بلا معنى»، ويختم العلوي رسالته المدرجة كاملة في الكتاب، بصورة مؤثرة «أيها الطفل الكردي المحترق بالغاز في قريته الصغيرة، على فراشه، أو في ساحة لعبه، هذه براءتي من دمك أقدمها لك على استحياء، ينتابني شعور بالخجل منك، ويجللني شعور بالعار أمام الناس أني احمل نفس هوية الطيار الذي استبسل عليك، اقبلها مني أيها المغدور، فهي براءتي إليك من هويتي».

في موازاة هذا الصوت الإنساني البليغ، المفعم بالأسى والصدق، وفي موازاة أصوات قليلة مثله، فان الصمت كان لسان حال المجتمع الدولي إزاء الجرائم التي ارتكبها صدام بحق الكرد، ولعل هذا الصمت، كما يلمح الباحث في أكثر من موقع، ساهم في أن يستمر النظام في جرائمه وابادته للشعب الكردي في جرائم تنطبق عليها صفة «التطهير العرقي»،

إذ اتسمت الأنفال ـ كما يقول الباحث ـ بجميع عناصر الإبادة الجماعية: القتل الجماعي، حصر الناس في مجمعات قسرية، حرق الأراضي، تدمير القرى، تجفيف الينابيع وتسميمها، فصل المجموعات الاجتماعية عن بعضها، اغتصاب النساء، استخدام الأسلحة الكيماوية المحرمة دوليا، الاعتقال العشوائي...وغيرها من الممارسات التي تجاوزت كل المعايير والقيم والأعراف، والشرائع السماوية.

ورغم أن الصمت الدولي الرسمي، كان أليما، ومستهجنا غير أن الدول، وكما هو معروف، تتبع مصالحها، لكن ما لا يمكن استيعابه أو فهمه هو أن تقف النخب العربية المثقفة إلى جانب هذا النظام وان تصفق له، فالمثقف عليه أن يكون صادقا مع نفسه وقلمه، لكن جرائم الأنفال فضحت الكثير من المثقفين العرب ممن يتشدقون بالمبادئ السامية في كتاباتهم فحسب، أما في ممارساتهم اليومية، ومواقفهم فانهم يخالفون، تماما، تلك المبادئ وينتصرون للجلاد في وجه الضحية.

وهذا ما يركز عليه الباحث في الفصل الأخير من الكتاب، إذ يعرب عن دهشته من أن مفكرا كبيرا ومجتهدا مثل إدوارد سعيد، على سبيل المثال، يلوذ بالصمت حيال جرائم الأنفال وحلبجة، ففي حياة سجالية مستمرة ـ كما يقول سليمان ـ «كرسها هذا المفكر للدفاع عن القضية الفلسطينية والبوسنيين والشيشانيين لم يلتفت إلى ذلك الممشى القصير الذي يفصل دم الأكراد عن دم الفلسطينيين جغرافيا».

ولم يكتف إدوارد سعيد بالصمت، بل سعى إلى التشكيك في المعلومات والحقائق الواردة في كتاب كنعان مكية «القسوة والصمت» الذي يتحدث عن آليات القمع التي اتبعها النظام العراقي ضد شعبه طيلة عقود، ويتهم إدوارد سعيد الباحث مكية بالعمل لصالح الولايات المتحدة الأميركية، وتقديم معلومات مضللة،

ولو أن سعيدا كلف نفسه الإصغاء إلى صوت ضميره المهني والأكاديمي والإنساني لما شكك في معلومات مكية تلك.ويختار الباحث خالد سليمان مثقفا عربيا آخر هو القاص زكريا تامر، إذ ينقل ما قاله الأخير للصحافي والشاعر الكردي فريد زامدار أثناء حوار جرى بينهما في دمشق.

يقول تامر لمحاوره زامدار: «أنا أعطي الحق للنظام العراقي في قصف مدينة حلبجة لأنكم حملتم السلاح ضده». مثل هذه الأصوات التي رأت في النظام العراقي حاميا للبوابة الشرقية، وباركت كل جرائمه لا يمكن أن تكون مقبولة إلا بوضعها تحت بند العنصرية المقيتة التي سعت إلى نبذ الآخر وقتله، أيا كان، بذريعة أن هذا الآخر يشكل عقبة أمام مشروع الوحدة العربية وغيرها من المزاعم التي ثبت فشلها.

ولا ينسى الكاتب في غمرة هذا الانفعال الذي تثيره مواقف بعض المثقفين العرب، أن يثمن مواقف معاكسة تدين الجريمة والمجرم، دون مواربة أو مراوغة، مثل أدونيس، وحازم صاغية، وعباس بيضون، والياس خوري، ووضاح شرارة...وسواهم ممن امتلكوا ضميرا حيا، وحاولوا في كتاباتهم نصرة الشعب الكردي والدفاع عن حقوقه القومية المشروعة.

«الأنفال: حكايات من زمن مستقطع» يسرد في لغة وجدانية صادقة حكايا الأنفال المروعة، ويدون أحلام «المؤنفلين» وآمالهم الأخيرة التي ذهبت معهم إلى عتمة القبر، ويسرد بنبرة شجية، أقرب إلى البكاء، تلك المشاعر التي كانت تفيض في نفوس الذين كانوا يُقتادون في شاحنات إلى جهات مجهولة سرعان ما يكتشفون بأنها مقبرة جماعية هي آخر ما تقع أعينهم عليها في تلك البلاد البائسة. ولعل الأقسى في الكتاب هو أن نقرأ شهادات بعض الناجين صدفة من الموت المؤكد. هؤلاء الناجون غالبا ما يعيشون،

الآن، في عزلة خانقة بعد أن فقدوا الأقارب والأحبة، فلم يعودوا قادرين على التخلص من ذاكرة حاضرة أبدا تعيد إليهم بكاء أطفالهم، أو استغاثة الأب المسن قبل الرحيل الأبدي، أو نظرة الابن أو الابنة، التي انطبعت كالوشم في ذاكرة مفعمة بقصص الموت والرحيل البارد في تلك الليالي الحالكة التي لم تكن ملائمة إلا للرحيل الذي يثير في النفوس،

حتى اللحظة، حزنا طازجا، ومقيما في القلوب التي تنبض بالحنين، بينما تنطق الألسن بأسماء من رحلوا في انتظار موت يتيح لهؤلاء الناجين للأحياء عناقا مع أولئك «المؤنفلين» الذين رحلوا دون أن تتح لهم فرصة للنطق بالأمنية الأخيرة.

إبراهيم حاج عبدي
* الكتاب: الأنفال
حكايات من زمن مستقطع
* الناشر: دار سردم ـ السليمانية (كردستان العراق) 2005
* الصفحات:104 صفحات من القطع المتوسط

           

 

02/09/2015